عندما يتم الحديث عن الحركات الإسلامية في العالم العربي لا يخصص عن الجزائر إلا النذر اليسير. وما كان للمرء أن يتصور ولو للحظة التطور السريع الذي كاد أن يوصلهم الى أجهزة الدولة إبان انتخابات عام 1983،الشيء الذي استرعى انتباها أكبر مع أحداث أكتوبر1988 الشهيرة،والتي ساهمت بشكل فعال في تغيير سياسي نقل البلد من نظام الحزب الوحيد الى التعددية الحزبية من خلال دستور 1989.ومع انتهاء مسلسل الانتخابات في الجزائر ألغي المسار الديمقراطي برمته، وتم حل جبهة الانقاذ الاسلامية في مارس 1992، وقدم زعماؤها الى المحاكمة في 27 يونيو من نفس السنة. وهنا سيدخل البلد حلقة العنف الدامي متمثلا في أساليب عدة منها الجهاد والعنف المسلح لإزاحة النظام السياسي القائم. لكن هناك سؤالا يحير الباحثين ويفرض نفسه عليهم: هل العنف الحالي التي تعرفه الجزائر هو وليد لحظة إلغاء المسلسل الديمقراطي الذي وئد في المهد ، ومنعت بموجبه الجبهة الإسلامية للإنقاذ؟ أم أن هناك أسبابا أخرى ترتبط ببنية التاريخ الجزائري والصراع من أجل السلطة في هذا البلد ؟ كانت الجزائر عبر التاريخ تسمى المغرب الأوسط، حيث كان العمال المعينون يدينون بالطاعة والبيعة لسلاطين المغرب.لقد تعرضت جغرافية هذا البلد عبر التاريخ للعديد من الهزات جعلته بلدا مفقود الهوية.وبما أن التاريخ كما يقال يضع نفسه أولا في خدمة السياسة قبل أن يعرض نفسه على المؤرخين فقد تصارعت الثقافات الإثنية والولاءات القبلية إلى حد جعل البلد يعيش عقدة الهوية المفقودة بطريقة أبدية أثرت على السياسة تأثيرا بالغا .فمن تاريخ نوميديا ومرورا بالقبائل المتصارعة التي أعطت ممالك 200 عام قبل ميلاد المسيح، ثم الفينيقيين، والقرطاجيين ، والرومان، والوندال ، والبيزنطيين، والعرب ثم العثمانيين وأخيرا الفرنسيين.كل هذه الدول تسببت في ضياع هوية بلد الجزائر عبر التاريخ .ولم تستطع سلالة كما هو الحال بالمغرب أن تفرض نفسها على شعب الجزائر بل اقتصر الأمر على مجرد ولاة كانوا يدينون بالبيعة كما هو شأن أهل تلمسان ووهران الذين كانوا يؤدونها لسلاطين المغرب . في القرن السادس عشر أصبحت الجزائر مجرد مقاطعة تابعة للدولة العثمانية، ولم تحكم طوال ثلاثة قرون تقريبا إلا بواسطة البايات والدايات والانكشاريين وبعض أمراء الحرب. فالعثمانيون استغلوا بلد الجزائر لقضاء مآربهم الإستراتيجية فاكتفوا ببناء القواعد العسكرية على امتداد الساحل الشمالي،وأنشأوا مراكز لمراقبة تحركات السفن الأوروبية بالبحر الأبيض المتوسط .ويجمع الكثير من المؤرخين أن الأتراك لم يندمجوا ولم يتصاهروا مع الجزائريين بشكل كبير بل اكتفى وجودهم على بعض العائلات التي كلفت بإدارة دفة الحكم إضافة إلى عائلات العسكريين الأتراك.ويذكر المؤرخون أن الانكشاريين خرقوا هذه القاعدة بزواجهم من جزائريات ،وكانوا وراء ظهور ما اصطلح على تسميته ب"أبناء العبيد"، .leskouloughlis ولو قفزنا الى المرحلة الاستعمارية التي دامت زهاء مئة وثلاثين سنة لفهمنا تجليات الأعمال العنيفة وتأثيراتها السلبية على الجزائريين بسبب هدمها للبنيات الاجتماعية واقتلاعها لمرتكزات الثقافة المحلية. كما أن الكفاح المسلح من أجل الاستقلال كان مصحوبا باقتتالات دامية وعنيفة بين مختلف مكونات المجتمع الجزائري في شكل خفي من أجل المحافظة على وحدة البلد الوطنية.ويجمع الباحثون في هذا الشأن على أن جبهة التحرير الوطني انتهجت أسلوب الرعب والتصفية الجسدية بلغ أوجه مع مقتل عبان رمضان بالمغرب سنة 1957 والصراح المسلح مع "الحركة الوطنية الجزائرية" لمصالي الحاج في شكل حرب داخل الحرب ضد الاستعمار خلفت وراءها عشرات الآلاف من القتلى. وحتى بعد الاستقلال ،استمر مسلسل العنف بطريقة ممنهجة حيث نفي وقتل واعتقل العديد من الوطنيين ،فتم اغتيال الخمستي أول وزير خارجية سنة 1963 من طرف الأمن العسكري وبعده محمد خيدر وكريم بلقاسم وعلي المصيلي ...فعنف جبهة التحرير ميز بين درجتين من المواطنين: المناضلون الملتزمون من جهة، والمواطنون العاديون من جهة أخرى. كل هذا جعل العنف فينومينولوجيا ،بمعنى آخر عنف أساسي وملازم للحالة الجزائرية .وقد استثمرت فيه جبهة التحرير الوطني من أجل ضمان هيمنتها الكلية على السلطة بشكل فريد،مستغلة من خلاله مفهوم "الجهاد"وثقافة الشهيد والاستشهاد وهي الأدوات التي غذت في الماضي وتغذي حتى في الحاضر كل أشكال الوعي، وهي كذلك من أنتجت في الماضي وتنتج حاليا جميع أشكال العنف بالبلد بشكل رهيب . ولعل القارئ يتذكر الطريقة التي أزاح بها بومدين غريمه بن بلة،وكدا الطريقة التي أقيل بها الشادلي بن جديد سنة 1992 ،واغتيل بها بوضياف في يونيو 1992 . إلى حدود هذه اليوم مازالت أشياء مبهمة في نظام الجزائر تعجز الشعب الجزائري من أهمها :المحتوى الايديولوجي للنظام ،طريقة الولوج الى الحكم،شروط ممارسته ،الحريات الفردية والعامة ،تنظيم العلاقات الاقتصادية ،الأشكال الثقافية للبلد ...كل هذا توقعه أبان رمضان عندما خاطب في غشت 1957 عباس فرحات قائلا له عن العسكر بأنهم :"سيكونون في المستقبل طغاة على الطريقة الشرقية.إنهم يعتقدون بأن لهم حق الحياة والموت على شعوبهم التي يحكمونها.وسيشكلون خطرا كبيرا على الجزائر مستقبلا ...كلهم قتلة..." إن مشكل "من أنا ؟" يدل على مدى عدم قدرة الأشقاء بالجزائر على التعامل مع الأنا الحالي عبر الأنا التاريخي المتراكم، ورغم أن هذا السؤال مشروع مبدئيا ، إلا أنه امتداد لإشكالية طبعت المجتمع الجزائري في الوقت الحاضر بحدة بالغة ، وتستمد خلفيتها مما مر بالمنطقة من أحداث التاريخ . صناعة تاريخ البلدان عموما لا تأتي من حدث حصل هنا وهناك أو زعامة طوطمية مزيفة كما يجري الترويج لها مع بوتفليقة أو مع من سبقه، لكن مع تعددية حزبية حقيقية، وتوجهات اقتصادية وسياسية تخرج البلد من أزماته المزمنة.فمن خلال تعمد إخفاء بوتفليقة عن الأنظار ومنع العديد من الصحفيين الدوليين من دخول البلد؛ لأنهم انتقدوا "الزعيم" المخفي عن الأنظار إلى حين خروجه، يظهر بجلاء أن العنف الممنهج قد تطور بشكل لافت، وأضحى يهدف إلى إضفاء "القداسة" على شخص الرئيس.وهذا في حد ذاته وأد لذاكرة الشعب الجزائري الشقيق الذي ضحى بحياة مليون ونصف شهيد،والذي يعيش اليوم ظروفا لا تكفل له حتى أساسيات العيش الكريم. في حين أن ثروته الوطنية المقدرة بملايير الدولارات مرهونة بالأبناك الدولية كضمانة لاستمرارية وجود نظام يبحث عن هوية تاريخية مفقودة ،وصدق من قال "مجتمع بلا تاريخ مجتمع بلا حاضر ولا مستقبل"، أي بلا هوية تاريخية، بل إن التاريخ نفسه هو الأنا الذي ترتكز عليه الهوية، فهو يشبه إلى حد ما أساس البناء... "من أنا؟"...استشكال لا يطرح نفسه إلا في المجتمعات المهددة على الدوام بعدم الاستقرار، والتي تعاني تخلفا حضاريا على المستوى النفسي خصوصا،وسيبقى العنف بمختلف أشكاله قابعا داخل أقبية العسكر يتربص بالأشقاء الجزائريين إلى حين إشعار آخر . * باحث في مركز الصراعات المقارنة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا