في عيد العمال العالمي عطّل الموت جسد المفكر التونسي الدكتور محمد الطالبي عن عمر يناهز 95 سنة..لم يستفق صباحا كما كان يفعل منذ عقود ليقرأ ويكتب ويتنفس كما يريد.. لقد انطفأ كمصباح في ليل استنزف زيته والفتيل. ولأنه عمّر قرنا فقد كان له الوقت للتفكير والتفكر والنقد والنضال، فحَوَت مسيرته وعقله إشكاليات هذا القرن والقرون الماضية وما تيسر من آتي القرون. تفرد مع بعض أقرانه وطلابه وتابعيه من بعده باجتراح ما استعصى من إشكاليات تشغل الفكر العربي الإسلامي. لا ينام الطالبي بلا سؤال ولا يصحو إلا على فرضية إجابة غير مطمئنة ولا مطمئِنة للسائد الفكري. ولد الطالبي سنة 1921 في عائلة صوفية، فكان بيتُه يُفتح على زاوية صوفية في المدينة العتيقة في العاصمة تونس.. ملأ رأسه ووجدانه بالتراتيل القرآنية والقصائد الصوفية مندمجا في ذلك الجو الإيماني الذي يبدو أنه هو الحبل السُّري الذي ربطه بمفهوم الإيمان والكفر والحرية إلى أن توفي. في تلك المرحلة الطفولية نفسها كان الطالبي يَدْرس في "المدرسة الصادقية" (أسسها خير الدين التونسي سنة 1875 لتدشن عصر التعليم الحديث في تونس مقابل الزيتونة التي كانت تمثل المدرسة التقليدية). وتعتبر الصادقية فخر التعليم العصري الحديث في القرن العشرين التونسي، فقد خرجت هذه المدرسة زعماء البلاد في السياسة والثقافة والمجتمع.. درَس فيها الطالبي ثم درَّس فيها. هناك في تلك الأيام الخوالي بدأت ثنائية العقل والإيمان تتشكل في ذهن الطالبي لتحدد مصيره والمسار. بين باب الزاوية المفتوح على الماضي وعبق التراث والاطمئنان إلى صوت الأولين وباب المدرسة الصادقية المفتوح على المستقبل والمساءلة وإعادة الاستماع إلى الأولين. وأيضا كان باب الصادقية مفتوحا على نسائم النضال الوطني أيضا، انطلق الفتى الطالبي إلى العالم بجِرابَيْ زاد معرفي أحدهما تراثي والآخر حداثي، ونبغ في كليهما. لذلك شغل الطالبي منصب أول عميد لكلية الآداب التونسية سنة 1955 قبل أن يشغل رئاستها أيضا في السبعينيات. وبعد متعرجات الأيام والسنين وصعابها انتهى الطالبي إلى ما أراد وبلغ قمتَي المسارين التراثي والحداثي، الإيماني والعقلي، ليستوي المفكر الموسوعي والمجدد الفكري. العقل المتعدد..التكوين بدأ الطالبي مؤرخا.. كانت أطروحته عن الدولة الأغلبية، واشتغل بابن خلدون فكان رائد الدراسات الخلدونية في الجامعة التونسية في الستينيات والسبعينيات. ورغم تنوع مجالات الكتابة لديه إلا أن ابن خلدون لم يفارق الطالبي، وهو الذي ترعرع غير بعيد عن بيت صاحب المقدمة ومرابعه في المدينة العتيقة.. ظلت ريح ابن خلدون تشتم في كتاباته. أذكر سنة 1992، أول سنة لي في الجامعة، حضرت الدرس الافتتاحي للسنة الجامعية، والذي ألقاه الطالبي، وكانت أول مرة أرى فيها هذا الرجل.. كان صغير الحجم لا يكاد يُرى من بعيد ونحن في آخر المدرجات، ولكن صوته وحجته كانت أكبر منا جميعا. كان الدرس عن فرضية اطلاع داروين على مقدمة ابن خلدون التي نُشرت في بريطانيا مترجمة قبل نشر داروين لكتابه ونظريته في النشوء والارتقاء. وذهب الطالبي إلى أن ابن خلدون انتبه إلى مسألة الطبقات في نظرية الخلق البشري؛ فآخر طبقة في النبات هي أول طبقة في الحشرات وآخر الحشرات بداية الحيوان وآخر الحيوان بشر يسعى، وآخر البشر كائنات نورانية. ابن خلدون لم يخرج من الرؤية الإيمانية لنظرية الخلق، فيما داروين يسبح في بحر آخر. أنصف الطالبي حينها الرجلين الفقيه المؤرخ والعالم صاحب الثورة الفكرية، دون تمجيد لتراثنا أو زهو، وإنما لاستخلاص درس العقل والتفكير. هذا الطالبي المؤرخ كما قال محمود المسعدي عن بطل مسرحيته "كان كالماء يجري لا يستقر على حال"..لذلك سنرى الطالبي الفيلولوجي المطلع على الاستشراق الألماني علاوة على الفرنسي والأنغلوسكسوني، وسيدخل غمار الدراسات القرآنية ويعيد النظر في كثير مما استقر عليه الضمير الإسلامي كموضوع الردة والحريات الشخصية في الإسلام ومفهوم الجسد وغيرها من المفاهيم التي مازال الفكر الإسلامي يتخبط فيها إلى اليوم. هذا المبحث جعل الراحل يمتح من معين اختصاصات متعددة، على رأسها علم الأديان المقارنة وعلم تاريخ الأديان وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وشتى تفرعات العلوم الانسانية؛ وكان مقصده دراسة المشتركات الثقافية والفكرية وأصول الأديان، ومنها الإسلام والشروط التاريخية لتكون الأفكار الدينية. ومن هنا انطلق لسانه صداحا نحو فكرة الحوار المسيحي الإسلامي، فكان أحد أهم روادها فكريا ومعرفيا.. وأخذ في ذلك جائزة فيها مال كثير في إيطاليا في التسعينيات عن أفضل بحث حول هذا الموضوع، ما فتئ أن تبرع بقيمتها للبحث العلمي. وهو يبحث في هذا وذاك، كان الطالبي ينقد نوعا من الاستشراق الذي لا يقل ركاكة في الفكر والتحليل والإقصاء من خصوم الطالبي من بني جلدته ودينه، فكتب في الاثنين شاقا طريقه بينهما يفكر حرا في الحرية والنص والإنسان، ليجعل الإنسان مركز الفهم والمعنى، حينها سيستجيب له النص عاضدا ومدافعا عن ذوي الألباب والمتفكرين؛ لأن هذا النص حسب الطالبي مقصده الإنسان في المبدأ والمنتهى، ولكل إنسان الحق في تدبره دون واسطة. يعتبر الطالبي من أكثر الأساتذة التونسيين تدريسا، إذ درّس على الأقل ثلاثة أجيال من هذه الجامعة؛ وعندما دخلنا نحن إلى الجامعة وجدنا تلامذته صاروا فرسان فكر ومعرفة. أذكر أنني عندما كنت أبحث في دليل الأطروحات الجامعية، لم تكن تخلو صفحة من صفحات دليليْ أطروحات قسميْ التاريخ والحضارة من حضور اسم محمد الطالبي مشرفا؛ وفي الوقت نفسه يعتبر من أكثر الأساتذة نشرا، إلى أن توفي قبل أيام، وقد نشر آخر كتاب له قبل أن يموت بفترة بسيطة. العقل المتعدد..التنظير بعد تقاعده من الجامعة بلغ الطالبي منتهى النضج والتجلي المعرفي، فتفرغ لنفسه أو فرّغوه أو ربما أفرغهم من نفسه وابتعد عن الجامعة أو أبعدوه. بقي الجسد هو الجسد نحيفا وبقيت العادة هي العادة التهام الكتب والأفكار، وبدأت فاكهة الرؤية والرؤى تنضج، وبدأ الصغار والسلطة أيضا يرمون فاكهته بالحجارة والنوى... الطالبي لم يُحدث في الدين أمورا كما اتهمه خصومه حد التكفير، حتى كتبوا على جدران بيته "هنا بيت الشيطان". لم يكن الطالبي شيطانا ولا ملاكا، كان إنسانا أراد أن يعيد الدين إلى الإنسان العادي بعد أن سرقَته جماعات أقصت الإنسان.. أراد أن يجعل الدين في خدمة الإنسان. لم يكن سابقا لعصره في هذا ولكنه كان أجرأ مثقفي بلده في عصره، فقد طوّر الفكر المقاصدي عندما ربط مفهوم تأويل القرآن بالقيم الكونية وعلى رأسها الحرية ومنتجات الفكر الكوني. وكسابقيه من المفكرين الأحرار في الإسلام (له كتاب بالفرنسية بهذا العنوان) فكر وكتب موقنا بأنه سيزلزل العروش الفكرية التي يرى أنها تتمعش من تواصل هذا التسليم بكل ما قاله الأولون. كان الطالبي فاضحا "لحفظة المقدس" (حسب تعبير ماكس فيبر) وكان واعيا بذلك بل كان يعتبر أن أحد واجباته هي زعزعة العروش الفكرية المتمعشة من قراءات بالية للتراث يعضدها وعي جمعي مستمرئ لتلك القراءات. وكان الطالبي يعلم أن سلاح هؤلاء هو الغوغاء، لذلك تطاول عليه الغوغاء. قال الأصمعي مُعرفا الغوغاء: "هم قوم إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يُعرفوا"؛ فاجتمع عليه غوغاء كُثر من الإعلام والمساجد والشوارع وحتى الجامعات، يرمونه بكل شيء ثم يتفرقون.. لم يجابهه أحد منهم مجابهة فكرية ذات قيمة. ولكن الطالبي واصل واقتحم هذا الظلام بفكر ثاقب وشجاعة استثنائية؛ لأن للرجل مشروعا أصر ألا يموت قبل أن ينشره للناس ويصدح به ولو بصوت متقطع. ويمكن تلخيص مشروعه الفكري في ما يلي: الفصل بين الشريعة والعقيدة: هذا أس الفكر الطالبي في ما يتعلق بالفكر الإسلامي؛ العقيدة مبدأ ديني إيماني ثابت يخضع للحرية الفردية إيمانا وكفرا ولا إكراه فيه. أما الشريعة فهي فعل تاريخي ناتج عن اجتهادات لها شروط التاريخ والجغرافيا والسلطة والأهواء. هذا المبدأ الصارم عند الطالبي ضربة المقتل في مقاتل الإسلام السياسي وطبقة الفقهاء، فهو بنفي الشريعة كمعطى ستاتيكي متوارث وثابت تم ربطه في الأذهان بمفهوم العقيدة، يكون قد سحب كل مشروعيات السيادة لدى كل النخب الفاعلة بالدين وفي الدين. النص القرآني هو النص الوحيد والأوحد والمتفق عليه المؤسس لكل رؤية إسلامية وكل ما سواه محل جدل ودحض وتكذيب.. واعتبر أن هذا النص هو معين الرؤية القيمية التي تساعد على صياغة رؤى تشريعية لا على منوال الاستنباط الفقهي التقليدي، وإنما على منوال قراءة هذا النص ضمن رؤية كونية للعالم؛ فيصبح القرآن في العالم لا خارجه، وجزءا منه لا كله. ومن هنا سمى نفسه القرآني ومنواله المنوال القرآني، ومن هنا جاء نفيه للحديث مصدرا تشريعيا وإقراره مدونة تراثية مساعدة، أي نزع القداسة عن الحديث نهائيا (Universalité du Coran كونية القرآن 2002). وكان الرجل مطلعا بما يكفي ليقف على خلافات أهل الحديث وخصومهم في سياقهم الجدلي الطويل، حيث كانت الغلبة لمذهب أهل الحديث وتقديس الرجال و"ابستيمولوجيا السند" (النظريات والعلوم التي تعلقت بمفهوم السند والرجال) أمام "ابستيمولوجيا المتن" (العلوم التأويلية للنص) فيبقي النص مادام الرجال باقون أو هكذا سادت عقلية المحدثين. ذلك هو درس الفيلولوجيا وما أحدثته في فكر الطالبي. هذه الصاعقة الفكرية التي تجرأ الطالبي في بيئته ليعلنها كادت تذهب بحياته، علاوة على أنها أخرجته من الملة عند من كتبوا على بيته "هنا بيت الشيطان". لا تفكير في التحديث والحداثة خارج الإطار الثقافي العربي الإسلامي كمنطلق نحو العالمية. والتراث والدين محوريان في حياتنا كما يرى الطالبي ولكنهما خاضعان لمفهوم الحرية أساسا، وأن روح التحرر في الإسلام مقصد التحديث والحداثة، ولا يتنافى مع أي نظرة تحديثية كونية مقصدها الحرية. يعني أن استنساخ النماذج الفكرية والحضارية هراء في هراء كما يرى الرجل النحيل الجسم الواسع المعرفة عندما يقارع دعاة التنكر للتراث بأكمله واعتباره مصدر الشرور.. قارعهم ضمن أطر معرفية لا شعارات إيديولوجية. وهنا كانت حربه التي لا تخلو من شطط في التوصيف على من أسماهم "الانسلاخ إسلاميين"، وهو مصطلح مشتق من الآية الكريمة (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) (الأعراف175 – 176) وقصد بهم بعض تلاميذه ونظراءه الفكريين الذين يعتقد أنهم يدافعون عن الإسلام تقية ولكنهم يهدمون دعائمه دون تقديم بدائل، ودعاهم إلى الجرأة وإعلان مبدئهم وتصريحهم بأنهم لا يؤمنون بهذا الدين وسيدافع عنهم ويحترمهم. هذا الموقف المشط والصارم لم يكن إيديولوجيا وإنما فكريا ومعرفيا، لذلك لم يدخل الطالبي تحت سقف الردة وأحكامها (التي ينكرها كليا وينكر حكمها القديم) وإنما استعمل مصطلحا قرآنيا ليصنفهم -كما يرى هو- تصنيفا قرآنيا متجانسا مع ما يسميه المذهب القرآني (كتاب "ليطمئن قلبي"). العقل وصدمة الضمير الإسلامي المستقر على أرضية رخوة فكريا ومعرفيا، أهم دروس الطالبي الفكرية.. بقطع النظر عن الأحكام التي أطلقها، والنتائج -بقطع النظر عن اختلافنا معه أو اتفاقنا في مضمون النتائج- فإن رسالة الطالبي هي زعزعة السواكن ونسف الموروث المتهاوي الذي نقدسه بشكل خرافي ولم نتجرأ على إخضاعه للتشريح العقلاني. وطبعا الطالبي في هذا التوجه لم يكن فريد زمانه وعصره ولكنه كان من أشجع مثقفي زمانه العربي الإسلامي، ويعتقد أن هذا الجهد سيخدم التراث أكثر من الجهد التقديسي الساكن. الإيمان حالة حرية إنسانية راقية وحالة معرفية منفتحة وأيضا أفق نفسي وأمل جميل في الآتي. والعقل والإيمان عند الطالبي متلازمان لا يعطل أحدهما الآخر. والكفر أيضا يجب أن يكون حالة حرية وحالة معرفية وحالة أمل في الآتي.. هما اختياران حران وفرديان.. سمعته يوما في أواسط التسعينيات في إحدى جلسات ترؤسه للجان الدكتوراه في جامعة منوبة يقول في رسالة صريحة ومباشرة للطلبة ضد المد الإسلاموي: "أدعو طلبتي الشباب إلى أنهم إذا آمنوا فليؤمنوا بعقل وإذا كفروا أن يكفروا بعقل".. كلا الاتباعين استلاب وعبودية"؛ لأنه اختار الإيمان ليكون حرا كإنسان، وعبدا فقط لإله يجمع كل القيم المطلقة. العقل المتعدد..النضال أواخر التسعينيات أو بداية الألفين في نهج الدباغين في تونس العاصمة، حيث الكتب مرمية من عهد نوح أو هكذا يخيل للمتجول في هذا النهج، كنت مع الصديق الشاعر والباحث جميل بن علي نقلّب الكتب فأبصرنا الطالبي لا يحتل جسده حيزا كبيرا في الأمكنة مع الناس يبحث أيضا في تلك الكتب، فجَرّنا شغفنا للحديث معه. لم يرتح لنا إلا بعدما أمطرناه بكل المعلومات التي تطمْئِنه فذكرنا له اسم جامعتنا وأساتذتنا الذين هم تلامذته وعناوين بحوثنا التي نشتغل بها..إلخ. تحدث لنا قليلا ولكن سرعان ما نبّهنا وقال: "الأفضل لكما أن ترحلا عني لإنني مراقب.."، وفعلا بعد خطوات اعترضنا مخبران سريان من فئة البوليس السياسي وسألانا عن هويتنا وعملنا ثم عن علاقتنا بهذا الشيخ العجوز. نعم في سن الثمانين وبعد الثمانين كان نظام بن علي يراقب الطالبي ويهينه، وحصل أن جرّه البوليس في المطار ومنعه من السفر. وحصل وهو في هذا السن أن أراد التدخل لإنقاذ طالب من تحت هراوات البوليس في كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بتونس العاصمة وأهانه شرطي ولولا بعض الطلبة لضربوه. هذا وجه الطالبي خارج المكتبات عندما يسير في الأسواق ويأكل الطعام.. في السياسة والمجتمع كان أيضا متعددا فدافع عن المساجين الإسلاميين رغم اختلافه الشديد معهم وعن اليساريين، بل وعلى أعتاهم علمانية وربما إلحادا ولم يسأل عن أفكارهم بل سأل عن حريتهم.. انضم سنة 1995 للمجلس الوطني للحريات.. كان يحاضر في مقرات الأحزاب المحاصرة ولم يكترث بلونها الإيديولوجي.. وكثيرا ما يسبب الإحراج لتلك الأحزاب لأن كم النقد لنظام بن علي كان أكبر من قدرة الأحزاب على تحمل تبعاته.. قلة من يتجرأ في اجتماعات عامة ويقول بالحرف وبلا وجل "ابن علي هذا الدكتاتور الجاهل".. دافع عن الرابطة التونسية لحقوق الإنسان واعتبرها مكسبا لا يجب أن تلتهمه ماكينة بن علي. الطالبي نفسه الذي ناصر الذين كانوا معارضة وحقوقيين مضطهدين أيام ابن علي ووقف بجانبهم، نراه بعد الثورة يتصدى لهم هم أنفسهم بنفس الشراسة عندما استلموا أمر البلاد في انتخابات شرعية بعد رحيل الطاغية.. قدّر أنهم سادوا وحادوا.مثلما أن الفكر والإيمان حرية وتعدد فإن السياسة عند الطالبي أيضا حرية وتعدد. ومثلما أن التحديث الفكري يتطلب صداما مع السلط اللاهوتية بالفكر والمعرفة والنقد فإن التحديث السياسي يتطلب مواجهة للسلط الدكتاتورية بالنضال والخروج إلى الفضاء العام والمساهمة في المجتمع المدني. ولما أتيحت لتونس فرصة التخلص من كابوس القمع كان الطالبي من أكثر المفكرين الذين اقتحموا الفضاء العام والمنابر الإعلامية ليصدح برأيه في التحديث الفكري ويصدم الوعي العادي والجمعي بأفكاره، ولم يتراجع رغم علمه بأن بعض الإعلاميين التافهين جعلوا منه مصدر إثارة إعلامية.. أظنه كان واعيا بذلك ولكنه كان سالكا طريقه ولم يتراجع إلى أن توفاه الله. نضال الطالبي ضد الجهل المركب والتسلط، هذا من طبائع الأمور والمشتركات الثقافية في المجتمع الثقافي والسياسي والمدني التونسي الذي يقع خارج السلطة.. ولكن الطالبي كان أعمق. لا يكفي أن نصرخ ونموت حتى يهرب الدكتاتور ذات مساء؛ فقد عادت خفافيش الدكتاتورية والظلامية مع الليل تتربص بالبلاد والعباد. كان الطالبي يعتبر ما أنجز خطوة مهمة ولكنه كان يسعى إلى أن نقتل استعداد تقبل الدكتاتورية فينا. والمسألة متشابكة ومركبة؛ فمن يقبل الاطمئنان إلى كل ما قيل عن الأولين من الأولين واللاحقين ولا يسائل لا الأولين ولا اللاحقين بعقل حر يقبل حتما ألا يسائل لا الأمير ولا الخفير بخطاب سياسي حر. من يريد أن يفهم الطالبي فلا بد أن يطرق ذينك البابين؛ باب الزاوية وباب المدرسة الصادقية. من هناك بدأ وإلى هناك انتهى محلقا بين إيمان وعقل نحو حريته مناديا بحرية الآخرين. عاش غير مرتاح إلى فائض الهواء الداخل من البابين.. كان يجلس في فسحة الحرية بين الدفتين.. كانت له رئتان يتنفس بهما... رحم الله محمد الطالبي *إعلامي تونسي