شكل الوصول إلى سدة الحكم، وامتلاك السلطة السياسية والشرعية، مطمح العديدين عبر التاريخ، فمنهم من حصل على مراده بطريقة سلمية كالانتخاب أو التولية... ومنهم من حصل عليه قهرا وغلبةً بالانقلاب والحرب... ومنهم من وصل بالمراوغة والحيلة والدسائس والمؤامرات واللعب تحت الطاولة، وتاريخنا كعرب ومسلمين مليء بالأمثلة في هذا الصدد... ومنهم من مات دون تمكنه من ذلك. ومن تعريفات السلطة التوفر على القوة اللازمة الكافية للتأثير على الأفراد وفرض الإرادة من خلال أنماط سلوكية معينة لا يسمح بالخروج عليها بالجبر والإكراه. أما السلطة السياسية فهي القدرة المتوفرة لجهة عليا (منتخبة أو متسلطة)، تستطيع من خلالها فرض إرادتها وضبط المجتمع باستعمال القوة، من خلال سن القوانين والتشريعات... وتدخل السلطة السياسية عندنا تاريخيا كمسلمين في إطار ما يعرف بالسياسة الشرعية والأحكام السلطانية، التي أدلت بدلوها في عدة أبواب وتصنيفات شملت مفهوم الحكم في الإسلام، فنجد مثلا الخلافة والإمامة وإمارة المؤمنين والبيعة والشورى وتوحيد الحاكمية... مفاهيم أُلِّفَت فيها مؤلفات ومجلدات، وسال فيها مداد وحبر، وتناظر فيها وتساجل فقهاء وعلماء، وتصادمت وتحاربت من أجلها جيوش وسرايا، ونشأت بسببها مذاهب وفرق، وانشقت من أجلها وتفرخت أحزاب وطوائف... من هذا المنطلق، فإن الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي جرى يوم الأحد 16 أبريل 2017 قسم المجتمع التركي تقسيما حادا جدا، تدل عليه النسبة المتقاربة للغاية بين من وافقوا ومن عارضوا تلك التعديلات. صحيح أن الآلية الديمقراطية اعتمدت من خلال الاحتكام للشعب عبر صناديق الاقتراع، وصحيح أن الشعب التركي قال كلمته، واختار الاصطفاف وراء قائده رجب طيب أردوغان، وقال نعم للنظام الرئاسي عوض النظام البرلماني؛ غير أن الديمقراطية كما يقال ليست مجرد صندوق، بل هي بالدرجة الأولى مفاهيم وتصورات. لم يتردد أردوغان ولو للحظة في التباهي بالفترة العثمانية والحنين لها، ولهذا الأمر دلالته قطعا، وهو ما بات مصدر قلق لمختلف القوى الإقليمية والدولية (خصوصا الأوربية منها)، التي باتت ترى في هذا الرجل مصدر إزعاج، وترى في طموحاته خطا أحمر لا ينبغي السماح بتجاوزه. وكانت ردة فعل تلك القوى قاسية وعنيفة من خلال محاولة تأليب الجيش ضده، فكانت محاولة الانقلاب عليه الصيف المنصرم، والتي باءت بالفشل، نظرا لكون الشعب التركي خرج عن بكرة أبيه رافضا ذلك التمرد العسكري. وقد زاد ذلك الحادث من شعبية الرجل لدى شعبه، وهو ما استثمره بكل احترافية من خلال تصفية الحسابات قديمها وجديدها مع قطاعات واسعة من رجال الجيش والشرطة والقضاء والتعليم والصحافة... فكان العزل والسجن والإحالة على التقاعد والإعفاء... الآن، وبعد أن حصل أردوغان على موافقة الأتراك على تعديلاته الدستورية، سيصبح حاكما بأمر الشعب من جهة، إذ سيحكم على الأقل إلى سنة 2029 (فترتين رئاسيتين من خمس سنوات لكل فترة)، وأيضا سيصبح حاكما بأمر الله؛ كيف لا وهو الذي قال في خطاب الاحتفال بالنصر إن ما حصل نصر من الله وفتح. وفي النهاية، سواء اختلفنا أو اتفقنا مع الرجل، فيبقى رمزا بالنسبة لشعبه ولشعوب أخرى؛ وعلى كل الأحوال فهو قد نجح حيث فشل آخرون، مثل السيسي وحفتر وبشار الأسد، من حيث أنه، وإن كان سيصبح ديكتاتورا متوجا، فنسبة هائلة من شعبه تقف وراءه وحتى بعض معارضيه، فهو ممن يُختلَف معه ولا يُختلَف عليه، وظهر ذلك جليا عبر محطتي محاولة الانقلاب الفاشلة، والتصويت بنعم على التعديلات الدستورية. *باحث في القانون والإعلام والنوع الاجتماعي.