لا اختلاف من حيث القواعد الدولية المنظمة لتدبير شؤون الأمم عبر التاريخ أن أي دولة قررت لعب دور أكبر من الذي رسمه لها الواقع الموروث و مسافات التحرك المخولة من الدول و الاقطاب العظمى إلا و لا بد أن تكون متوفرة على مقومات ذاتية و أخرى موضوعية و قدرة على التحدي و فرد الذات و المناورة و التوافق على المصالح و الاستعداد لتحمل الأعباء و التكاليف من داخل الوطن قبل خارجه. و لا اختلاف على أن جمهورية الأتاتورك استطاعت أن تخلق الحدث بل احداثا خلال العقدين الأخيرين ابتداء من تبني المبادئ الديمقراطية و قبول نتائج صناديق الاقتراع لتسيير شؤون الدولة مدنيا إلى الإصرار على القطع مع تدخل العسكر المزاجي في شؤونها و التقزيم التدريجي لسلطته و رجالاته الأشاوس من حيث الإيمان بالدور اللاأخلاقي عند الضرورة للإطاحة بنظام أي حاكم تجاوز رقعة اللعب المحدد له سياسيا أو فكر في خلق تأليفة مدنية و سياسية متواصلة الفاعلية بشفافية في تدبير شؤون البلاد وفق قواعد معلومة و ضوابط مبنية على التشريع الوطني و التوافق العام. و لكن المفاجأة و الدهشة هي أن تقوى دولة مثل الجمهورية التركية عاشت التحدي الداخلي و الإكراهات الإقليمية و الخنق الدولي اقتصاديا و سياسيا على مدار عقدها الأخير، و ازدادت معاناتها بعد الولادة القيصرية لتنظيم الدولة الاسلامية و داعش و الإرهاب بالمنطقة و الغير مفهوم مَصدره و مُصدره و المتحكم فيه من حيث الزمكان و الجرعة و الضحايا و الخسائر، و كذا النزاعات الإقليمية التي شملت العراق و سوريا و من بجوارهما حدوديا و التوازن المبني على مصلحة بعض الدول العظمى مع إيران بعد لعبة الحصار و الخطر النووي و المد الشيعي الذي كان من أكبر ضحاياه الرمز الديني السني للدول الاسلامية بالمنطقة و هي أم و حارسة دول مجلس التعاون الخليجي المملكة العربية السعودية، و هو ما جعل دولة خلافة أمجاد العثمانيين و من فرط و تمادي إيمانها بمبادئ العدل و الخير و الشر و الحليف و الصديق لو تكاثر و تنوع من أجله أعداء الجمهورية التركية مما جعلها و بغير حسابات مضبوطة، مشتتة التركيز من حيث الجبهات و مستهدفة من حيث المواجهات ، التي نلخصها حسب رأينا وفق التالي و دون إجمال: 1- تبني حق الشعب الفلسطيني في الحرية و الاستقلال و رفع الحصار و الظلم على سكان قطاع غزة. 2- تبني حق الشعب المصري في الديمقراطية و تحمل نتائج صناديق الاقتراع كيفما كانت انطلاقا من مفهوم الشرعية السياسية و المنافسة الشريفة بغاية التداول حول السلطة بشفافية و وفق نظام معلن فيه الحق و الباطل و حدود العسكر و صلاحيات الدولة المدنية الواسعة. 3- تبنى علنا الدفاع على حقوق الرئيس المصري المنتخب و حقوق ضحايا ميدان التحرير وفق دلالة رمزية و هي إشارة رابعة و رفض الاعتراف بالانقلاب المصري كبديل للانتخاب المدني و السياسي. 4- الندية في التعاطي مع القوة السياسية بالمنطقة المدعمة أمريكيا و أمميا و من قبل غالبية الدول العظمى و هي إسرائيل و فرض قاعدة ذهبية في التعامل الاستراتيجي معها من خلال ما يلي: " نتعامل معكم كما تتعاملون معنا و الخسارة علينا و عليكم و القوة لكم كما لنا و لا خوف منكم كما لا تركيع لكبرياء الأتراك بعد اليوم ". و هي قواعد و مبادئ استثنائية اقليميا جعلت من الطيب أردوغان طيب الخاطر و القلب و محبوب المستضعفين بالمنطقة و وحدت الصفوف بالداخل و وسعت من شعبيته بين الشعوب العربية بالخارج باستثناء معظم قياداتها التي أصبحت تحسب له و منه الحسابات المبطنة قبل المعلنة. 5- تبني القضية السورية أخلاقيا و سياسيا و ماليا و عسكريا و احتضان المقاومة و اللاجئين رغم التكلفة الباهظة التي تحملتها خزينة الدولة التركية و المسار الاقتصادي و السياحي المتأثر سلبا بنتائجها و ضوابط اللعب مع الكبار ( روسيا – USA – فرنسا – اسرائيل – إيران – الأممالمتحدة – الناتو ……). 6- الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا في إطار مبدأ السيادة أولا و لا هوادة للمعتدي عليها حتى و إن كان دولة عظمى لها وزنها الدولي و الإقليمي عسكريا و سياسيا باعتبارها عضوا دائما بمجلس الأمن له حق النقض ( الفيتو). مما أدى إلى قطع العلاقات و ايقاف ملايين السياح الروس من زيارة تركيا بالإضافة إلى وضع حد للتعاملات التجارية. 7- مجابهة التحدي الداخلي المنبثق من فيصل الأكراد المصرين على حمل السلاح و رفض التسوية السياسية بغاية الحصول على الاستقلال التام من الجمهورية التركية. 8- مجابهة التحالف الداخلي للمعارضة و الجيش و القضاة و الصحافيين الموالين و المخلصين للمبادئ العلمانية التي أسسها مصطفى أتاتورك و المؤيدين خارجا من مجموعة من الدول العظمى سرا و علانية و بغطاءات مختلفة و مصطنعة حسب الحاجة و الضرورة و بدعم أخلاقي من المعارض فتح الله كولن. 9- الدخول في التحدي الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي من خلال قاعدة رابح رابح و لا وجود لعلاقات دون مصالح ذاتية و آنية و معلومة للشعب التركي. 10- فرض المقايضة بالدور التركي للحد من الهجرة الجماعية تجاه أوروبا مقابل منافع اقتصادية و مالية و عسكرية واضحة بين الطرفين الأوروبي و العثماني الجديد بكل ندية و شراسة. 11- تحمل الدولة التركية مسؤولية نتائج و أعباء الأعمال الإرهابية المتوالية التي رسمت لها استراتيجية التنفيذ و التخطيط المسبق بغاية إضعاف السلطة السياسية بالبلاد و تحريض الشعب على السلطة و خاصة رئيسها الطيب أردوغان و منه حزب العدالة و التنمية و إن كان من نتائجها السلبية تراجع الدور الاقتصادي و المالي للقطاع السياحي المتأثر بالأمن و الاستقرار. و لعل كل هذه الأسباب متفرقة أو مجتمعة ما كانت لترسم في مخيلة و تفكير أي محلل سياسي أو متدارس للأوضاع و التوقعات الجيوسياسية بالمنطقة بأن يتوقع سيناريو مثيل و شبيه بالذي عاشته الجمهورية التركية ليلة الجمعة 15/07/2016 و ذلك للأسباب و العبر التالية: * محاولة انقلاب عسكري دون غطاء سياسي من أي جهة كانت بالداخل أو الخارج و دون مطالب واضحة تكون خارطة الطريق و آلية التعاقد الأحادي الطرف. * محاولة انقلاب بفيلق عسكري و أمني يفتقر للخبرة و الصرامة و الجرأة و تظهر عليها علامات الخوف و التردد. * انقلاب عسكري حاصرته ثلة من الشعب و أرعبته و عطلت ذباباته و أسلحته و قيدت أهدافه بل احتضنته لمبدأ الشعب من يقرر و يختار ما يريد. * محاولة انقلاب انقلبت على العسكر المتمرد على الشرعية الديمقراطية، بذبابات الدولة و الأسلحة المخصصة لحماية الوطن، بتقنية التواصل السكايب عبر خطاب لم يتعدى 12 ثانية من رئيس الدولة المستهدف في شخصه و حزبه و نظام حكمه. * محاولة انقلاب حاصرت وسائل الإعلام الرئيسية للدولة و منعت بث برامجها باستثناء بيان الانقلاب لتتفاجئ بمناورة رئيس الدولة المستهدف رقم واحد يتواصل مع الشعب عبر وسائل إعلام المعارضة و يضرب ثلاث عصافير بأقصر خطاب سياسي في العالم و هي: 1- الرئيس لا يخاف و يواجه الأحداث بمسؤولية. 2- الرئيس يتشبث بالشرعية المدعومة من الشعب الذي وجه إليه دعوة للتظاهر بالشوارع و المطارات حماية لثوابت الأمة. 3- الرئيس الذي أفزع الانقلابيين بكون المعارضة ضد الإنقلاب. * محاولة الانقلاب التي أبانت أن تركيا لا أصدقاء لها بالوطن العربي باستثناء دولة قطر من خلال قناتها الجزيرة و المملكة المغربية و السودان و بعض الأحرار من المحللين السياسيين الذين أجهروا نبذهم لحكم العسكر كيفما كانت مبرراته. * محاولة انقلاب أكدت أن الشعب هو من يحكم و يقرر و هو من ينصر أو ينقلب. * محاولة انقلاب أبانت أن المبادئ الديمقراطية التي استغلت بها شعوبنا العربية و طمست بها عقولها لا تعدوا عند الدول المصدرة لها سوى ورقة مصلحة تستعمل حسب الحاجة و الضرورة لفائدة أو ضد من ينفعها و لا يعارض سياستها. * محاولة انقلاب أعطت من خلالها دولة تركيا و رئيسها الدرس الفريد لباقي شعوب العالم و هو أن جهود البناء و التكامل و التضامن من الأجدر أن توفر و تختزل للوطن و الشعب أولا أما غير ذلك فواقعة الانقلاب أبانت أن لا أحد من الدول الصديقة للأتراك أدانت علنا الانقلاب خلال الساعات الأربعة الأولى قبل أن تصبح محاولة فاشلة بل الكل أخذ وقته في التتبع و التمعن في نتائج الأرض و الواقع ليحدد نوعية خطابه و موقفه مع المنتصر و القوي حتى و إن حصل على النتيجة بالدم و السلاح و على حساب الديمقراطية و صناديق الاقتراع و حق و إرادة الشعب في الاختيار. * محاولة الانقلاب أبانت أن الدول العربية منقلبة على ذاتها خائفة مما يقع في حواضر غيرها حتى و إن كانت تفصلها عنهم أميال و وديان. * محاولة انقلاب جعلت من المغرب أول دولة عربية تحدد موقفها الرسمي منه بالرفض و تأكيد الشرعية السياسية للطيب أردوغان. * محاولة إنقلاب بطعم الغباء السياسي لأفراد من المعارضة المغربية التي أيدته و طبلت له و احتفلت بنتائجه حتى قبل أن تحسم و بذلك خلقت الحدث أمام رفض المعارضة التركية له و مساهمتها الفعالة و العلنية في الحد منه بل تأكيدها لشرعية النظام السياسي المسير للبلد و دعمها لرئيسه و حكومته المنتخبة. * محاولة انقلاب فاشلة أبانت بأن الانقلابيين سبق لهم و أن نسقوا مع أقلام إعلامية و وجوه إداعية دولية و عربية قبل نقطة الصفر في التنفيذ بدليل ما تابعناه في خمس ساعات الأولى من سخافة التحليل و قلب للوقائع و التضخيم في النتائج و تقليص و تقزيم دور الشعب و سلطته في التصدي لأي انقلاب على الشرعية. * محاولة انقلاب ستجعل السلطة السياسية الحاكمة في تركيا أمام محك جديد يخص الوحدة و التصالح و إعادة إنتاج مفهوم الوطن و المواطنين و احترام الدستور و مبادئ الديمقراطية و حقوق الانسان في التعامل مع المتورطين من الانقلابيين. * محاولة انقلاب أعطت درسا لشعوب العالم في معنى الوطن أولا و أن الوطن بلا شعب كالحياة بلا ماء أو السماء بلا نجوم. * محاولة الانقلاب أكدت العلاقة السرمدية التي تجمع حزب العدالة و التنمية المغربي بالتركي و درجة التضامن و التآزر المعنوي و المبدئي المعلن سواء فترة الانقلاب أو بعده بدليل الرسالة الموجهة من المغرب إلى تركيا بكل ما تحمله من دلالات و تداعيات آنية و مستقبلية لحزب المصباح. * عدم استعمال كل الدول الديمقراطية خلال الساعات الأولى من الانقلاب لفظ رفض الانقلاب أو استخدام الرئيس الشرعي لتركيا و هو علامة استفهام لمفهوم الأخلاق السياسية في منظور الدول العظمى. * انتفاضة الشعب المضادة للجيش المتمرد و المنقلب على السلطة الشرعية للجمهورية دون خوف أو تردد. * فضح بعض القنوات الإعلامية العربية و الأجنبية و صحافييها الذين حسموا في مصير الرئيس التركي و اعتبروا بأن مساره السياسي انتهى بل الأكثر من ذلك أعلنوا بهجتهم و غبطتهم لزوال رئيس إسلامي طاغية حسب تعليقاتهم و موقفهم الشخصي المتنافي مع الدور الحيادي للصحفي في نقل الخبر. الحكمة و الدرس التركي لتهزم أي جيش متمرد و مستغل لأسلحة و دبابات الدولة للانقلاب على الشرعية الانتخابية فأنت لا تحتاج سوى إلى رئيس دولة شجاع له هاتف ذكي متصل بالشبكة العنكبوتية و شعب ناضج مستعد للتضحية بروحه و جسده من أجل وطنه و ثوابته الدستورية. مصطفى يخلف باريس 16/07/2016.