لم أستغرب كثيرا لما جاء في كلمة وزير أول "التراكتوقراطيين" عباس الفاسي حين تحدث أمام من حضر من نواب الأمة. لم أستغرب للغة الإنشائية التي لم ترق حتى إلى مستوى الخطابة، التي يلجأ إليها العرب عادة كلما تعلق الأمر باحتلال أو انتهاك سيادة. يبدو أن لغة الإنشاء مع عباس الفاسي ستصبح قاعدة لا شذوذ عنها، منذ اعتمدها سيادته في تقديم برنامج الحكومة... لم أستغرب إذن لتلك اللغة التي تعامل بها الفاسي مع قضية سبتة ومليلية... وخصوصا عندما قال: إن "على إسبانيا أن تدرك أن زمن الاستعمار قد ولى إلى غير رجعة". ما أدهشني... هو أن الوزير الأول لم يضف إلى قولته تلك، كلمة "وحدها" لتصبح القولة هي :"على إسبانيا أن تدرك وحدها أن زمن الاستعمار قد ولى إلى غير رجعة"... ولتصبح القولة بذلك، أكثر تعبيرا عنه، وعن حكومته... وعن تعاطي الدولة مع قضية سبتة و مليلية. تذكر المغرب الرسمي فجأة، أن سبتة و مليلية، هما مدينتان محتلتان من طرف مستعمر اسمه إسبانيا، وغضب المغرب الرسمي فقط، لأن عاهل إسبانيا الذي يسود ولا يحكم، قرر زيارة المدينتين المحتلتين... واعتبر رسميو البلاد، أن زيارة على هذا المستوى تحمل كثيرا من الدلالات والرمزية المؤبدة لمنطق الاستعمار... وكأن رفرفة العلم الإسباني كل يوم فوق المدينتين لا يحمل لا دلالات ولا رمزية، وكأن فرض تأشيرة الدخول على المغاربة الراغبين في زيارة مدينتيهما لا يحمل دلالات ولارمزية... في هذا السياق إذن، يمكن أن نفهم المعنى الخفي لكلمة الوزير الأول وكل المغرب الرسمي... ذلك أن قضية سبتة و مليلية، ظلت منذ استرجاع طرفاية وإفني على الأقل موضوعا مهملا لم ينل حقه حتى على مستوى مقررات التاريخ والتربية الوطنية، وظل التعامل معه، يكتسي صبغة عاطفية في أحسن الأحوال بينما ظل كثير من المغاربة يفهمون من شعار استكمال الوحدة الترابية، شيئا واحدا هو حسم مشكل الصحراء... بينما تحركت الدولة على أكثر من مستوى مؤسساتي دولي في قضية الصحراء، ظل ملف المدينتين المحتلتين عرضة للتناسي، وحبيس بضعة أسطر من خطابات سياسية أو حكومية، ما جعل الإسبان يطمئنون إلى سلاسة احتلال المدينتين، ودفعهم أكثر من ذلك، إلى تمتيعهما بوضع خاص. على امتداد عقود من الزمن، لم يكلف المغرب الرسمي نفسه عناء عرض ملف المدينتين على الأممالمتحدة... لم يكلف نفسه حتى عناء رفع دعوى قضائية لدى المحاكم الدولية المختصة التي، يقول كثير من المختصين، إنها لا يمكن إلا أن تحكم لصالح المغرب. في المقابل، طبع نوع من الانفصام، ونوع من الازدواجية... كل علاقة محتملة بين المغرب الرسمي و سبتة و مليلية. هذه الازدواجية، هي في جزء كبير منها، تعبير عن عدم جدية صناع القرار في المغرب، في التعاطي مع قضية تحرير المدينتين... من جهة، يرفض المغرب الرسمي أية زيارة رسمية إسبانية تتم عن طريق سبتة ومليلية، ويرفض حتى قبول مساعدات إسبانية قد تأتي عن طريق المدينتين... ومن جهة أخرى، يقبل المغرب بدون أية عقدة نفسية، أن يلعب دور الدركي على مشارف مدينتيه المستعمرتين، ويمنع مهاجرين أفارقة وغير أفارقة من دخولهما، ليس لأنه لا يمنع الأفارقة أو غير الأفارقة من دخول المغرب... ولكن لأن هؤلاء، ممنوعون من دخول الأراضي الإسبانية بدون تأشيرة... وبالتالي ممنوعون من دخول سبتة ومليلية بدون تأشيرة إسبانية. إن لم يكن هذا اعترافا بالاحتلال... فليقل لنا صناع القرار عندنا ماهو؟ بطبيعة الحال، سيقول بعضهم إن الأمر يتعلق باتفاقيات دولية لمحاربة الهجرة غير الشرعية، لكن حسب فهمي المتواضع جدا الاتفاقيات الدولية لا تقوم مقام السيادة، وكون سبتة ومليلية، هما مدينتان مستعمرتان، لا يعني أن المغرب مضطر للتعامل معهما كجزء من تراب الدولة المستعمرة، وإلا فإن القراءة الوحيدة الممكنة هنا، هي أن المغرب يؤكد شرعية أمر غير شرعي هو... الاحتلال. السؤال إذن، هو لماذا ستتعب إسبانيا نفسها والحالة هذه لكي " تدرك أن زمن الاستعمار قد ولى إلى غير رجعة" كما قال عباس الفاسي؟ هناك أيضا نقطة أخرى ترسخ ازدواجية تعامل الدولة مع قضية سبتة ومليلية، وهي قضية التهريب. فبينما يرفض المغرب حتى المساعدات الإسبانية التي قد تأتي عن طريق المدينتين المحتلتين، فإنه في المقابل، يقبل وبكل برودة أن تغزو البضائع المهربة منهما، أسواقه الداخلية، مما يخلف حسب مختصين خسائر فادحة بالنسبة للاقتصاد المغربي الهش. الاقتصاد المغربي المبني في جزء كبير منه على الريع، أي المؤهل ذاتيا للانهيار، هو مدعو أيضا لتحمل ازدواجية غريبة في التعامل مع قضية احتلال سبتة و مليلية. أما ما يغيض في ماجرى مؤخرا بالمدينتين المحتلتين عقب زيارة العاهل الإسباني لهما، فهو تلك اللغة الهجينة والغبية التي لجأ إليها بعض ساسة البلاد، وإصرارهم على اقتراف ما يعتبرونه "لغة ديبلوماسية"، حيث لم تخل إشارة من إشاراتهم إلى دولة المحتل "إسبانيا" إلا وزوجوها قهرا بكلمة "الأصدقاء الإسبان"... إسبانيا، باحتلالها لتراب مغربي، تكون قد أخرجت نفسها أوتوماتيكيا من لائحة الأصدقاء، واختارت لنفسها طواعية مكانا متقدما في لائحة المستعمرين... والمستعمر قط لم يكن صديقا بل، وبكل بساطة ... عدو. وكأني بأصحاب هذا الطرح، يريدون إقناع زوج أو زوجة ضبط أو ضبطت شريك الحياة في الفراش مع آخر أو أخرى، بأن الأمر لا يستحق كل هذا الغضب... مادام ذلك الآخر أو تلك الأخرى، ليس أو ليست إلا... أقرب الأصدقاء إلى القلب! ثم... لم الإصرار على لغة ديبلوماسية في التعامل مع إسبانيا، والحال أن العاهل الإسباني حين قرر زيارة مدينتين مغربيتين محتلتين، ضرب بكل قواعد الديبلوماسية عرض الحائط. بعض الساسة الذين ابتلينا بهم في هذه البلاد، يريدون إقناعنا أن العلاقات مع إسبانيا لا يجب أن تتضرر كثيرا بما جرى في سبتة و مليلية... لأسباب كثيرة أهمها، دعم إسبانيا للمغرب في قضية الصحراء... وهذا والله استبلاد ما بعده استبلاد، أولا لأن إسبانيا لا تدعم المغرب بالشكل الذي يريد أولئك الساسة إقناعنا به، وثانيا... لأن المفروض في هؤلاء الساسة، أن يتعاملوا بحزم مع قضية استكمال الوحدة الترابية، والتي تعني أيضا وأساسا تحرير الأراضي المغربية من الاحتلال... يقولون أيضا إن حجم الاستثمارات الإسبانية في المغرب يجب أن يجعلنا نتعامل بالكثير من ضبط النفس مع ملف سبتة ومليلية... وشخصيا، لا يمكن لكل ملايير العالم أن تعوضني عن تحرير بعض من بلادي، إضافة إلى أن القاعدة في الاستثمار ... هي أن رأس المال جبان ويكره المخاطرة، وعليه، إن وجد "أصدقاؤكم الإسبان" مكانا استراتيجيا أفضل وبشروط أحسن من تلك التي يوفرها المغرب خصوصا على مستوى الأجور وحقوق العمال فليتفضلوا إليه! الخوف الآن... هو أن يخبو الغليان الذي عشناه مؤخرا، وتعود قضية سبتة ومليلية إلى رفوف صناع القرار، وأن يعود السفير المغربي إلى إسبانيا وكان هذا للإشارة أقصى ما فعلناه لتنسى القضية من جديد... ولنتعايش من جديد مع مستعمر سماه بعضهم ب "الصديق ""