تنبيه: نُشِر هذا المقالُ يوم الفاتح من دجنبر 2011، غداة الإعلان عن نتائج انتخابات 25 نونبر التي بوّأت حزب العدالة والتنمية الصدارة وأسندت للأستاذ عبد الإله بن كيران رئاسة الائتلاف الحكومي. دروس التاريخ: "التاريخ يعيد نفسه" مقولة سارية مسرى الأمثال، مفادها أن أحداثا مختلفة زمنا وربما مكانا تتفق أسبابا ونتائج، في إشارة إلى أن سنن الله في الكون لا تحابي ولا تجامل. وإنما وضعت علوم التاريخ لاستخلاص العبر والدروس ممن سبقوا استشرافا لغد أفضل، فالعاقل من اتعظ بغيره. من هذا المنطلق نقف عند تجربتين سياسيتين لحزبين وزعيمين: عبد الرحمان اليوسفي وعبد الإله بنكيران اللذين اختلفا مرجعية وتصورا وقادا حكومتين في ظرفين حاسمين من تاريخ المغرب الحديث. حكومة الإنقاذ رقم:"1" في نهاية تسعينيات القرن الماضي 1997 عيّن الملك الراحل الحسن الثاني عبد الرحمن اليوسفي زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وزيرا أولا؛ قرار اعتبر وقتها في غاية الجرأة السياسية، إذ قرر النظام مضطرا تسليم مقاليد أمور البلاد للمعارضة تحت ضغوط شتى منها: شيخوخة النظام في شخص الملك الذي كان مؤشر حالته الصحية يتهاوى. هاجس انتقال السلطة وضمان سلاسة الانتقال. تأزم الأوضاع الاجتماعية وانسداد الأفق السياسي. في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية حرجة عنوانها "السكتة القلبية" تولى الزعيم الاتحادي مقاليد الحكم مع وقف التنفيذ، فالحزب الذي بهر المغاربة ببلاغة خطابه السياسي، فضحا لسوء التدبير الحكومي، وكشفا بالأرقام لتلاعب الحكومات المتعاقبة بمقدرات البلاد اكتشف أن ما كان بين يديه من معطيات على الحالة الاقتصادية ومستوى الاختلالات والمعضلات الاجتماعية لا يمثل الحقيقة، فالأزمة أعمق مما كان يتصور. تبين للرفاق أن النظام كان أذكى منهم، فقد عبر بهم أصعب مرحلة وأعسرها، فبهم تمكن النظام من: امتصاص الاحتقان الشعبي والالتفاف على مطالب الإصلاح الحقيقي. ضمان انتقال سلس للسلطة، حتى شاع بين الفئات الشعبية أن اليوسفي أقسم للحسن الثاني على القرآن الكريم أن يبايع ولي العهد بعد وفاته. استهلاك الرصيد السياسي للمعارضة وتوريطها في مستنقع إخفاقات عقود الاستبداد. توظيف رمزية المعارضة تسويقا لحالة استقرار النظام السياسي و"ديمقراطيته" ضمانا للدعم الخارجي. تثبيت مركزية المؤسسة الملكية في المشهد السياسي من خلال الإخفاق في تحسين أوضاع الشعب المعيشية. ربح الوقت لإعادة ترتيب أركان النظام وفق متطلبات "العهد الجديد". أهداف ومكاسب سياسية كبيرة حققها النظام مقابل: إحداث انفراج سياسي/حقوقي بعودة المبعدين وإطلاق سراح معتقلي الرأي باستثناء معتقلي العدل والإحسان الإثني عشر. (سيفرج عنهم بعد استكمال محكوميتهم عام 2000). جبر ضرر ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وإحداث صندوق رُصدت له الملايير من المال العام استفاد منه أساسا الرفاق. حكومة الإنقاذ رقم:"2" في خضم الحراك الشعبي الذي تقوده حركة 20 فبراير الذي طالب بإصلاح سياسي حقيقي يقطع دابر الفساد ويستأصل الاستبداد ويؤسس لمغرب الحرية والكرامة اضطر النظام لتقديم حزمة إصلاحات أطرها باستفتاء فاتح يوليوز وتوجها بانتخابات 25 نونبر2011. سياق عام غير مسبوق، فلواء المطالبة بالإصلاح ترفعه لأول مرة في المغرب معارضة شعبية، قاعدتها شباب ضاق ذرعا بالوعود والمبادرات التي لم توفر الحد الأدنى من الكرامة للمواطن، وفقدت الثقة في نخب سياسية شاخت، ويئست من لعبة سياسية صُممت لإعادة إنتاج الفساد واحتكار الثروة. تحت ضغط الشارع وانحناءً لرياح الربيع العربي جيء بدستور قديم جديد، وأجريت انتخابات سابقة للأوان اقتضت نتائجها أن يُختار حزب المصباح لتشكيل حكومة إنقاذ ثانية لذات الدواعي والأهداف التي نودي بسببها قبل 14سنة على عبد الرحمن اليوسفي لتشكيل حكومة أريد لها أن تؤسس لانتقال ديمقراطي لم ينطلق قطاره بعد. اليوم (يعني خريف 2012)، وفي ظرف حساس من عناوينه البارزة: تأزم الأوضاع الاجتماعية، حيث كشف تقرير برنامج الأممالمتحدة للتنمية لسنة 2011 تقهقر مغرب مبادرات التنمية ومشاريع القرب ب 16 درجة في سلم التصنيف الدولي، ليحتل المرتبة 130 من بين 187 دولة، والمرتبة 15 عربيا من بين 20 دولة عربية؛ مؤشرات تفيد أن نسبة الحرمان بالمغرب بلغت 45 % والسكان المعرضون لخطر الفقر 12.3%. هيمنة اقتصاد الريع وانسداد آفاق أي انتعاش اقتصادي تعضده الشفافية والتنافسية الشريفة. فقدان الثقة في دعاوى الإصلاح من داخل المؤسسات جلاه مسلسل تمرير الدستور. في هذه الظروف تتِم المناداة على الأستاذ عبد الإله بن كيران لتشكيل حكومة إنقاذ ثانية من أجل: إعطاء الشرعية لحزمة الإصلاحات الملكية، كما وصفتها الصحافة الغربية. امتصاص غضب الحراك الشعبي. (لم يتردد بن كيران في تسفيه مطالبه.) تسويق نموذج ديمقراطي يتعايش مع الإسلام السياسي المعتدل. تمكين النظام من وقت مستقطع لإعادة ترتيب أوراقه. أهداف مرحلية ضرورية علاوة على هدفين حيويين: استهلاك الرصيد السياسي لحزب ذي مرجعية إسلامية، يبدو في تقدير المخزن أن شعبيته تجاوزت الحدود المسموح بها، فالنظام يعتبر منافسته في الشعبية خطا أحمر؛ ومن خلال هذا الهدف يسعى النظام لتثبيت مركزية المؤسسة الملكية في الحياة السياسية، لعل من أبرز تجليات ذلك وتيرة التدشينات في أوج الصراع الانتخابي وبعيد الاقتراع في رسالة واضحة أن الذي يعمل في الواقع هو الملك وليس الأحزاب. (نفس الأمر سُجل خلال مسلسل مشاورات تشكيل حكومة 2016، فمقابل تهافت الأحزاب وتصارعها على تشكيل الحكومة، تفرغ الملك ليستعيد المغرب مقعده في الاتحاد الإفريقي محاطا خلال جولته الإفريقية بشخصيات تكنوقراطية في إشارة ألا حاجة لحكومة منتخبة لتدبير شؤون العباد والبلاد.) وإذا كان المقابل الذي دفعه النظام لضمان انخراط المعارضة اليسارية في حكومة إنقاذ 1997 هو إحداث انفراج في الشأن الحقوقي تقوية لموقف عبد الرحمن اليوسفي حتى لا يبدو الانخراط مجانيا، فإنما سيدفعه النظام لحزب المصباح مقابل رصيده السياسي تنازلات شكلية تذكر بقرار إعفاء وزير الداخلية الراحل إدريس البصري وتقديمه كبش فداء لما تغرق فيه البلاد من فساد. المآلات: لو استقبل حزب الوردة ما استدبر من أيامه، هل كان سيقبل العرض المخزني الذي كلفه شعبيته وأفقده ثقة قاعدته وتعاطف فئات شعبية عريضة مع خطابه ومواقفه؟ وإذا قبل الانخراط، هل كان سيوقع للنظام على بياض ودون ضمانات وحد أدنى من الصلاحيات لتدشين انتقال ديمقراطي؟ حال الحزب اليوم غني عن التعليق، فهو يفقد رصيده الشعبي باطراد، وفي هذا السياق سئل عبد الله العروي عن رأيه في دخول عبد الرحمان اليوسفي إلى حكومة التناوب فقال وقتها: "ليس المهم كيف سيدخل إلى الحكومة ولكن المهم كيف سيخرج منها". وقياسا على ذلك نقول: هل سيتخلص النظام من حزب المصباح كما فعلها مع حزب الوردة معلنا انتهاء صلاحيته؟ استدراك: يعمل النظام على إضعاف الفاعل السياسي ولا يسمح له أن يتجاوز مستوى مرسوما سلفا من الشعبية والحضور المجتمعي؛ وبقدر إصراره على إضعاف الفاعلين السياسيين، يحرص على عدم القضاء عليهم، فقد يحتاج لخدماتهم أو توظيفهم في المستقبل: دهاء الاستبداد المخزني. ومثلما جاء "القرار السيادي" على حد تعبير أحد قيادة حزب العدالة والتنمية تبريرا لفرض حزب الوردة في التشكيلة الحكومية رغم أنف أمينه العام ليلتحق حزب الاتحاد الاشتراكي "العتيد" بركب حكومة السيد العثماني تفاديا لموت حزب عبد الرحيم بوعبيد في المعارضة، فإن النظام لا نية له في استئصال حزب المصباح، بل يروم فقط تشذيب شعبيته وإعادته للحجم المرسوم له. إنها لعبة سياسية مجرد لعبة يحدد المخزن قوانينها ويرسم لكل فاعل أي فاعل سياسي مربعه ودوره المؤدى عنه طبعا في المعارضة أو الأغلبية، وإلا تدخل بيان الديوان الملكي ل"تصحيح" الوضع، بصرف النظر عن دستورية التدخل من عدمها، فللنظام في النهاية ما نوى، وإن لم يسعف النص الدستوري تُوُسّل بروحه، وإلا فالتعامل الإيجابي مع فحوى بيانات القصر مطلوب لحل الإشكال، ففي النهاية، لا يقال للملك أو ديوانه "لا"، وإلا ما الذي منع أمانة حزب العدالة والتنمية ومجلسه الوطني من الاصطفاف في المعارضة إذا لم يكن الذهاب لانتخابات مبكرة ممكنا؟ وأين استقلالية قرار الحزب التي اعتبرت من عناصر قوة الحزب، قبل 15 مارس 2016؟