تفاعَل السيد إلياس العماري مع تصريح كان كاتب السطور قد أدلى به لموقع "لكم" الإخباري، أجاب فيه عن سؤال يحوم حول إمكانية مشاركة حزب الأصالة والمعاصرة في الحكومة وما إذا كان هناك تنافسا بين إلياس العماري وأخنوش حول مواقع حكومية. إذ تضمّن الجواب بعض المسائل المتعلقة بالحزبين، تُفيد بأنه من الصعب مشاركتهما معا في حكومة واحدة، وقد تضمن التصريح العديد من المؤشرات حول ذلك، غير أن جملة واحدة، جعلت السيد إلياس العماري يشعر بنوع من الظلم في حق الهيئة الحزبية التي يتولى قيادتها، وهي الجملة التي تضمنها التصريح والتي تفيد أن مسألة دخول البام والتجمع للحكومة، غير مرتبطة بإرادة الحزبين وإنما بالتوجهات الكبرى ل "الدولة". وإذا كان من حق أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة أن يتفاعل مع مضمون التصريح، ويعبر عن عدم موافقته على ما جاء فيه، وهذا الأمر يحسب للرجل؛ فهو من القلة السياسية التي تتعاطى مع ما ينشر في الاعلام، وينشر مقالات وتدوينات يعبر فيها عن رأيه أو يعقّب فيها على ما يطرح في الساحة السياسية من نقاشات، عكس العديد من الساسة الذي يختفون وراء لغة الصمت، ويكلفون وسائل الاعلام التي يُنفقون عليها بتحسين صورتهم، وأحيانا يلجؤون إلى لغة التكذيب، أو يهرعون نحو المحاكم من أجل إخراس الأصوات المنتقِدة. أقول أن السيد العماري رد على إحدى أفكار التصريح من خلال بسطه عديد ملاحظات، أحاول في هذا التفاعل التعليق عليها، ليس من أجل الانتصار للذات، وإنما من أجل خلق نقاش حول الفعل السياسي المغربي من الواجهة الحزبية، وهذه أبرز الملاحظات: أولا: جاء في مقال التعقيب، أن المحلل الأكاديمي عليه أن يعزز تحليله بمعطيات ومعلومات قابلة للتصديق أو التخطيء وأن لا يطلق الكلام على عواهنه. لكن صاحب التعقيب لم يميّز هنا بين مهمة المحلّل أو الباحث وبين وظيفة الصحفي، فالأخير هو من عليه تعزيز مادته الخبرية بالمعلومات، دون أم يكتفي بنسبة المضمون للمجهول، أما المحلل، فهو لا يسعى لأن يجلس مكان الصحفي، وإنما غايته أن يجمع المعطيات، ويحاول استجلاء ما بين السطور، ويعود إلى الأرشيف، ويتتبع المؤشرات الدالة، لكي يخلص إلى تحليل يصدر عن عملية تفكير عقلية لا عن مصادر معلومة أو مجهولة. فهو في آخر المطاف ينطق برأي قد يُوفّق فيه وقد لا يُوفق، كما أنه لا يستعمل التعابير الحاسمة، وإنما غالبا ما يلجأ إلى عبارات من قبيل: يبدو، تبين لي، من الوارد، قد يكون، على الأرجح، مستبعد، يحتمل....إلخ. ثانيا: جاء في مقال السيد الأمين العام (أين تُصنع قرارات حزب "الأصالة والمعاصرة"؟.. ردا على الأستاذ عبد الرحيم العلام ) ما يلي: "على الأقل كان على الأستاذ العلام، وهو أدرى مني بذلك، أن يستند في المعطى التقريري الذي بنى عليه "تحليله" إلى تصريح أو مكتوب أو تسجيل لمسؤول تخول له قوانين الحزب تبليغها وتبيانها للرأي العام. أو كان، على الأقل، قد كلف نفسه عناء البحث والتنقيب في أدبيات ومرجعيات "الأصالة والمعاصرة" للكشف عما يشفع له بادعاء تفويض قرارات الحزب لجهات معينة غير أجهزته التقريرية. وإلا فإنه قد وقع خطأ أو سهو في نسب صفة "المحلل السياسي" لصاحب التصريح في هذا الموضوع". بخصوص هذه النقطة، أختلف مع الرجل في الشق الأول واتفق معه في الشق الثاني: ليس بالضرورة أن يلجأ المحلل السياسي إلى التصريحات المكتوبة لكي يتوقف على مرامي السَّاسة، بل ينغي عليه أن يبتعد عن التصريحات المكتوبة لكي يبحث عن ما هو غير مكتوب، وعليه أيضا أن لا يرتكن إلى ما يصدر من تصرحيات، وإنما عليه تتبع التلميحات. أما الشق الثاني، فأي، نعم على المحلل السياسي أن يعود إلى أدبيات الحزب ويُنقّب في أرشيفه لكي يُسند آراءه ويمنحها نوعا من المصداقية. ولأن الحيز الذي تمنحه التصريحات الصحفية المنجزة عبر الهاتف، لا تساعد على التطرق للمؤشرات المعتمدة من أجل الخلوص إلى نتائج التحليل، فإنها فرصة للعودة مع السيد العُماري إلى الخلف قليلا لكي نفهم ماذا حصل، ولماذا أرجّح أن حزب الأصالة والمعاصرة لا يستيطع أن يقرر بشكل مستقل في مسألة دخوله للحكومة من عدمها. يحاول الأمين العام الجديد للحزب أن ينقله من دائرة "أحزاب الإدارة" التي ارتبط بها منذ تأسيسه على يد كاتب الدولة في الداخلية المستقيل آنذاك، وبوّأه المرتبة الأولى في البرلمان دون أن يخوض أية انتخابات، ويبتلع مجموعة أحزاب، ويستولي على مقدّراتها (يمكن مراجعة حوارات القادري الأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي)، إلى دائرة الأحزاب المدنية الشعبية، المستقلة عن السلطة، وهي محاولة حميدة يمكن أن يُوفّق فيها أو يُخفق، لكن ما نستشفّه من خلال عديد محطات أن الحزب لم يقوَ بعد على التخلص من إرث الماضي، وهذا ما أبانت عنه تصريحات السيد العماري نفسه، فهو القائل "جعلنا التسونامي يتحول إلى رياح عادية" (يقصد رياح 20 فبراير)، بمعنى أنه يفتخر بكونهم وقفوا في وجه حراك شعبي كان كل هدفه اسقاط الاستبداد والفساد. وهو الذي صرّح خلال الندوة التي عقدها بنادي "ليكونوميست" أبريل 2016، أن "الشيخ بيد الله، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة سنة 2011، أخبر قيادات الحزب بأن جهات في الدولة ألحت عليه عدم رغبتها في احتلال الحزب الرتبة الأولى في الانتخابات...". فمن طلب منهم ذلك؟ ولماذا لم يكونوا مستقلين في اتخاذ القرار؟ هل تسعى الأحزاب إلى الحصول على الأغلبية التي تؤهلها للوصول إلى السلطة من أجل إنجاز برامجها أم غايتها إرضاء جهات داخل الدولة؟ نعم، إن السيد العماري يسعى جاهدا إلى إعطاء صورة مغايرة للحزب الذي نشأ في ظروف ما قبل "الربيع الديمقراطي" الذي أطاح بالأحزاب التي كانت تسمى "وطنية" في كل من تونس ومصر، والتي يبدو أن الحزب الذي أسسه كاتب الدولة في الداخلية المستقيل آنذاك، كان يسعى إلى التشبه بها، قبل أن تثبت الأحداث فشلها. لكن إلى حدود اللحظة لم يحدث أي فعل سياسي أو حركة قوية تجعل المراقب يراجع تصوره عن حزب الأصالة والمعاصرة، ويُخرجه من دائرة الأحزاب التي تأسست على يد السلطة وتحت دعمها ورقابتها. وإن كانت هناك بعض التلميحات التي لم تصل إلى درجة المؤشرات، تفيد أن هناك رغبة أكيدة في الابتعاد عن نهج المرحلة السابقة، سيما وأنها تلميحات صادرة عن شخص واحد هو نفسه الأمين العام، وذلك من خلال تعاطيه الاعلامي، وتصريحاته التي بدأت تعود إلى "أيام زمان". عدا ذلك، فإن الحزب لا زالت لديه حمولة زائدة عليه التخلص منها، فعدد ال 102، والرتبة الثانية، يخفيان رزمة من الترهّلات التي قد تعيق عمل الحزب، وهذا ما يتركه الانطباع الذي يتولد بعد تفحّص عميق لبروفايلات جلّ أعضاء الحزب في البرلمان، لا داعي للاستطراد في هذه النقطة، فالسيد إلياس ورفاقه أدرى مني في هذا الموضوع. فربما حزب جديد خير من مواصلة الفعل السياسي من خلال حزب سيظل طول حياته مُرتهن إلى ظروف النشأة حتى ولو جدّد نفسه كليا. ثانيا: إن التصريح لا يتطرق إلى كون حزب الأصالة والمعاصرة لا يملك حق الدخول إلى المعارضة كما جاء في مقال التعقيب، وإنما يفيد أن حزب البام والتجمع لا يملكان القدرة على تقرير الدخول في الحكومة من عدمه. وأكيد أن الفرق واضح بين التعبيرين، فالمعارضة لا تحتاج إلى قرار مستقل من أجل الدخول إليها، لأنها هي الوضع الطبيعي، إذا لم يكن الحزب هو الحائز للمرتبة الأولى. أما قرار الدخول إلى الحكومة فهو لا يخضع لرغبات الحزب وإنما إلى التوجهات الكبرى ل "الدولة" (في المغرب)، فحتى ولو أجمع حزب الأصالة والمعاصرة بكل أعضاء على رغبته في دخول الحكومة، فهو لن يستطيع أن يدخلها إذا لم ترغب الأطراف الأخرى في ذلك، وها هو حزب الاستقلال يُجمع ويُلح على المشاركة في الحكومة ومع ذلك هناك "خط أحمر" على مشاركته (على الأقل في المرحلة السابقة)، يكاد يعصف بوحدته التنظيمية، أما حزب الاتحاد الاشتراكي، فهو بدوره يَرغب في المشاركة ويُجمع على ذلك، إلا أن جهات أخرى ترفض مشاركته، الأمر الذي أدى إلى التخلي عن رئيس حكومة مكلف وتعيين شخص آخر، بل من الوارد أيضا أن تعمل "التوجهات الكبرى للدولة" على فرض حزب بوعيد على العثماني، علما أن غرفة البرلمان الأولى أصبحت في حضنه وهو المحتل للرتبة السادسة في ترتيب نتائج انتخابات 7 أكتوبر، وقد تم ذلك بمباركة من "التوجهات الكبري"، وبتصويت ودعم من حزب الأصالة والمعاصرة نفسه، وضد على رغبة الحزب الفائز بالرتبة الأوى. ما أقصد قوله هو أن "التوجهات الكبرى" لديها الرأي الحاسم في إشراك الأحزاب في الحكومة، وبالضرورة وبالتبع لديها القدرة على تركها في المعارضة. في جميع الأحول، أثمّن تفاعل السيد إلياس العماري، وربما هي من المرات القليلة التي أتمنى فيها لرأيي بخصوص حزبه أن يكون خاطئا، لأن ذلك سيكون في صالح المواطن والوطن، لأن استقلالية الأحزاب وقدرتها على الفعل الحر، تساعد على النهوض بالالتزامات وتحرر الارادة. كما أشكره على دعوته لي من أجل حضور بعض لقاءات حزبه التقريرية. * أستاذ العلوم السياسية