تمر الثقافة العربية في العقود الأخيرة بأزمة حقيقية، وصارت تجد نفسها في بيئة تسود فيها الكثير من الأفكار الماضوية والقيم المتخلفة والتناقضات بين ثقافة الحداثة وتقليدانية النسق السياسي، ومما زاد في هذا الانفصام بين الثقافة والواقع السياسي والاجتماعي هو أن العملية التعليمية ركزت على تكوين منظومة معرفية قادرة على تغذية الحاجيات الأساسية المطلوبة لنمو المجتمع وتسيير مرافق الدولة، مع إغفال الرسالة الثقافية التي تتركز على بناء شخصية وهوية الفرد، كمحور للإبداع الفكري والابتكار والإنتاج. كما أن صراع النخب الثقافية حول منظومة الهوية الثقافية والأخلاقية، في المجتمعات العربية، نتجت عنه ثقافات متعددة ومتناقضة، تحد من تطور المجتمع فكريا وسياسيا واقتصاديا. أيضا، ارتباط الثقافة العربية بالأيديولوجيا جعلها أسيرة ومقيدة، إما بالدين من منطلق الفهم غير الصحيح له، أو من منطلق السياسية التي تروم إقبار الفكر المستقل. المثقف العربي وثورة المعرفة إن انتشار الأمّية الثّقافيّة في منطقتنا العربية بين أوساط حملة الشهادات التعليمية والجامعية، في رأينا، سببه الاقتصار على التحصيل الدراسي الرسمي وتجاهل بناء الثقافة المنفتحة والمتجددة، من خلال مواكبة تطور العلوم والتكنولوجيا، أو عن طريق متابعة وسائل الاتصال الحديثة، فضلا عن مواكبة التطور المعرفي والتقني الذي يشهده العالم بشكل عام. وكما قال المفكر الأمريكي الباحث في مجال دراسات المستقبل آلفين توفلر (Alvin Toffler)، وهو يتحدث عن أمية القرن الواحد والعشرين في كتابه "إعادة تفكير في المستقبل": "الأميون في القرن الواحد والعشرين ليسوا من لا يقرؤون ولا يكتبون، لكن أميي القرن الجديد هم الذين ليست عندهم قابلية تعلم الشيء ثم مسح ما تعلموه ثم تعلمه مرة أخرى". على هذا الأساس، فإن المؤسسات التعليمية والجامعية في العالم العربي الآن تواجه تحديات مختلفة تفرض عليها أن تغير من طبيعتها، وأسلوب عملها التقليدي لمواجهة تحديات ثورة المعرفة، وتطور الثقافة والنظام الثقافي والسلوكي، والتحولات اليومية التي يعرفها المحيط الخارجي. لقد انقضى أكثر من ستين عاماً على الاهتمام بقضايا إصلاح التعليم في كثير من الأقطار العربية، ومع ذلك فإنه أنتج ثقافة محدودة الأفق، غير منسجمة مع الواقع ومع تحديات المجتمع. فعلى الرغم من إدخال بعض التقنيات الحديثة في مجال التعليم، إلا أن المناهج الدراسية، وأساليب التعليم، وشكل المدرسة، والإدارة التربوية مازالت متخلفة في كثير من الأنظمة التعليمية العربية، ولا تساير تحديات العصر الثقافية أو العلمية والتكنولوجية التي فرضتها طبيعة التطور. فمن غير الممكن أن تتطور الثقافة العربية لمنافسة الثقافات العالمية الأخرى، وعلى رأسها الثقافة الغربية، إذا مازال التعليم في بلادنا يعتمد على المناهج والأساليب التي تنظر إلى الفرد كأداة في خدمة السلطة الحاكمة من خلال منظومة ثقافية متحكم فيها، يمارس عليها القمع اليومي من قبل السلطة السياسية كلما حاولت الانعتاق من الدائرة الضيقة إلى الفضاء الواسع الذي يجعل الفرد ينعم بالحرية والكرامة الإنسانية ويتطلع إلى عالم المعرفة دون قيود. الثقافة العربية ومشكلة الهوية هناك مشكلة أخرى مرتبطة بأزمة الثقافة العربية، تتمثل في الاختلاف حول مفهوم الهوية ومضمونها بين أقطاب النخبة الثقافية، حتى أصبحت أزمة الثقافة العربية سببا من الأسباب التي تعيق التطور والتقدم بسبب الصراعات بين الفئات الاجتماعية داخل الدولة حول النموذج الأمثل للنظام السياسي والاجتماعي. وفي هذا الصدد، يرى بعض المثقفين العرب أنه كلما لاح في الأفق مشروع نهضة حضارية عربية، فإنه سرعان ما تعود تلك الثقافة إلى الانطلاق من منطقة الصفر (د. عبد الرحمن منيف في كتابه "بين الثقافة والسياسة"). فالثورات العربية السلمية التي شهدتها بعض الأقطار العربية في السنوات الأخيرة كانت ستشكل نهضة حضارية لولا انتكاستها وعودة هذه الأقطار إلى أسوأ مما كانت عليه. وسبب ذلك صراع حول الهوية، بين الحداثيين والمحافظين من جهة، وبين اليساريين والإسلاميين من جهة ثانية، وبين المذاهب الدينية (سنة وشيعة) من جهة أخرى. وهذا عكس الثقافة الغربية، التي عندما انتصرت على الاستبداد والقمع، نهجت الطريق الديمقراطي المنظم لحياة المواطنين في ظل قوانين وأنظمة تضمن الحريات والحقوق لهم، وحسمت في مسألة الهوية. كما أن الإنسان العربي لا يتمتع بالحقوق والحريات كما يتمتع بها نظيره في المجتمع الغربي. ويعود سبب ذلك إلى طبيعة الثقافة السائدة في المجتمعات العربية عامة، وهي ثقافة تقمع الحرية والإبداع، وتتشبث أكثر بالأصالة والتقليد والتراث. ولذلك، فإن مسألة التنمية والحداثة في الأقطار العربية لا يمكن معالجتها ما لم يتم الحسم بين أفراد المجتمع في شكل ومضمون الهوية الثقافية، بمعنى آخر: ما هو النموذج الاجتماعي الأمثل الذي يتوافق عليه الجميع رغم التنوع الثقافي والاختلاف الايديولوجي والتعدد الاثني؟ فالإثنية في المجتمعات العربية تشكل خطرا على الهوية والانسجام المجتمعي، مما قد تنتج عنه الصراعات المتتالية والحروب الأهلية أحيانا وتقسيم المجتمعات جغرافيا، وهذا بدوره ساهم في تخلف البلدان العربية وأعاق مسيرة النمو الحقيقي. فحتى لو يبدو لنا أن هناك نموا في بعض هذه البلدان، فإنه لا يعكس الإبداع الانساني؛ لأن شكل النمو غالبا ما يكون مستوردا من الخارج، لم يساهم فيه بشكل أساسي المواطن أو المثقف العربي. المثقف العربي وسلطة الأيديولوجيا مشكلة أخرى تساهم في تأزيم الثقافة العربية تكمن في ارتباط الثقافة بالأيديولوجيا، مما يجعلها دائما في خدمة هذه الأخيرة. وحينما تخضع الثقافة لسلطة الأيديولوجيا، فإنها تنحرف عن مسارها الأخلاقي والقيمي. وكلما تم تسييس الثقافة، استطاعت الدولة تكبيل الإبداع الانساني. وارتباط الثقافة العربية بالأيديولوجيا، كمثل ارتباطها بالدين أو بالسياسة، يجعلها ثقافة غير خلاقة وفاشلة في خلق الإبداع الإنساني، فيصبح المثقف يدافع عن الأطروحات السياسية للدولة، بوعي أو دون وعي، عوض تحليلها أو معارضتها إن اقتضى الحال، ثم نجده يخضع الثقافة للسلطة السياسية قصد إرضاء الحكام. فهيمنة الايديولوجيا على الثقافة العربية جعلت دور المثقف العربي يتراجع عن الثقافة التقدمية أو ثقافة التغيير والحداثة، وعدم قدرته على الوفاء بمطالب الجماهير الشعبية والالتزام بالدفاع عنها في مواجهة السلطة، وهذا يفسر تراجع الفكر اليساري والأحزاب اليسارية في الأقطار العربية، وظهور أيديولوجية الدين، أو ما سمي بالإسلام السياسي، وظهور أيضا أصحاب المنافع الاقتصادية التي همها الوحيد تكديس الثروة مع انتعاش الفكر الليبرالي في ظل قطبية النظام العالمي الأحادي، أمام ضعف النقابات والأحزاب التقدمية الاشتراكية. وصار هناك تباعد بين المثقف العربي التقدمي والجماهير الشعبية. الثقافة العربية والغزو الثقافي إن أهم المخاطر التي تهدد الثقافة العربية تتجلى أيضا في التأثيرات الثقافية الغربية التي تملك قوة هائلة على نشر ثقافتها. فالثقافة الغربية تريد محو الثقافة العربية وفرض قيمها وتقاليدها وسلوكياتها لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية، وما العولمة إلا شكلا من أشكال الهيمنة على الثقافات المحلية، فهي مظهر من مظاهر الغزو الثقافي. فمن البديهي أن التطور الحضاري الغربي يقوم بفرض منطقه على الثقافات السائدة في المجتمعات العربية، وإجبارها على التطور بعيداً عن جذورها التقليدية. ولذلك، فإن المنظمات الدولية التي صنعها الغرب تدعو، من خلال أنظمتها الأساسية ووثائقها، إلى إقرار السلم والأمن وتنمية البلدان الفقيرة وتكريس مبادئ حقوق الانسان الكونية، لكنها في الواقع تعمل على فرض قيم الثقافة الغربية على المجتمعات، وخصوصا العربية، حتى أصبح النموذج الغربي نموذجا مثاليا في كل مناحي الحياة لشعوب العالم. فكل الأفكار والقيم والسلوكيات أصبحت بالنسبة لغالبية الدول العربية مستوردة وليست أصيلة، وهذا سببه ضعف الثقافة العربية التي إلى حد الآن لم تستطع فرض قيمها ونموذجها، على الرغم من أن هذه الثقافة لها من القدرة أن تحقق ذاتها، من منطلق قيمها الحضارية والإنسانية التاريخية، لو انعتقت من قيودها التقليدية وتحررت من الغزو الخارجي ومن سلطة الأيديولوجيا المدمرة وغير البناءة. فالضعف الذي تعانيه الثقافة العربية دفع بالنخبة المثقفة الحاكمة إلى تقليد الغرب في أفكاره وقيمه، واتجهت الأكثرية من الجماهير إلى التمسك بالقيم الموجودة والمتوارثة، واتباع العادات والتقاليد ومقاومة الثقافة الغربية من منطلق ديني، أحيانا متشدد، وهذا أمر غير صحيح؛ لأن الثقافة العربية لا يمكن أن تتطور وترقى إلى الثقافة العالمية مالم تأخذ من مقومات وأسس الحضارة الغربية والحضارات الأخرى. فالمشكلة هنا، هي أن الثقافة العربية أصبحت أسيرة للثقافة الغربية، مما جعلها منكمشة على ذاتها ومتقوقعة في دائرة ضيقة، تستهلك الأفكار ولا تبدعها. إن الثقافة العربية تعيش حاليا في أزمة، وهي في مفترق الطرق، إما أن تنهض وتتخلص من التقليد والانجرار الأعمى وراء الثقافة الغربية وتتحرر من الأيديولوجيا الدينية والسياسية، وإما أنها ستموت، فتصبح المجتمعات العربية بدون هوية ولا حضارة. *مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية