منذ انبلاج فجر الاستقلال، طفا على السطح، صراع دموي على الوجود والغلبة، بين الجناح اليساري في الحركة الوطنية، الذي تشرب توجهاته، إبان الاستعمار، من اليسار الاشتراكي الفرنسي، ومن الشيوعية العالمية، وبين المؤسسة الملكية مسنودة بالجناح المحافظ في الحركة الوطنية، وترتب عن هذا الصراع السياسي والدموي، إشهار سلاح الإيديولوجيا في الفرز بين خندقين، خندق الحرب على التقاليد والأبنية الماضوية بما فيها نظام الحكم الملكي ومرجعية الثقافة الدينية، في مقابل الانفتاح على قيم الغرب واعتناق الفكر الاشتراكي، والنموذج الجمهوري في الحكم، وخندق الدفاع عن إسلامية المجتمع والدولة، والتشبث بمرجعية التاريخ والهوية المغربية والتقاليد، بما فيها مرجعية الدين في الحكم واعتبارها أساسا للملكية وضامنا لها ولنظامها. في الخندق الأول انتصب حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة الزعماء الوطنيين المهدي بنبركة والفقيه البصري وعبد الرحيم بوعبيد، يسنده من الخلف حزب ليون سلطان وعلي يعتة، الحزب الشيوعي المغربي، وفي الخندق الثاني، انتصبت المؤسسة الملكية، مسنودة بحزب الاستقلال بقيادة الزعيم الوطني: علال الفاسي، وبحزب الحركة الشعبية بقيادة مؤسسها وعقلها السياسي ومدبرها الزعيم الوطني الدكتور عبد الكريم الخطيب، ثم رابطة العلماء بزعامة الدكتور عبد الله كنون. بينما التزم الحياد البطل الرمز المجاهد عبد الكريم الخطابي، وحزب الشورى والاستقلال بقيادة الزعيم الوطني بلحسن الوزاني . وبالرغم من أن الملك الحسن الثاني أعلن الحرب الإيديولوجية المدمرة، في مواجهة يسار الحركة الوطنية، بإعلان دستورية إسلامية الدولة، وإسباغ صفة وصلاحيات أمير المؤمنين على الملك الدستوري، تكريسا لامتداد نظام الإمامة العظمى في تراث الخلافة الإسلامية، باقتراح من الدكتور الخطيب الذي استقاها من استشارة كبار قادة الحركة الوطنية، وكبار قادة وعلماء الحركة الإسلامية العالمية. بالرغم من ذلك، تصاعدت موجة المد اليساري الذي يقوده حزب الاتحاد الوطني في مواجهة المرجعية الدينية الذي يستند عليها نظام الحكم الملكي لتسويغ السلطة السياسية المطلقة، فكان الاضطرار واللجوء إلى إطلاق مشروع الحركة الإسلامية في أوساط الشعب، سنة 1966 برعاية الدكتور الخطيب والزعيم علال الفاسي وبالموافقة التامة للملك الحسن الثاني، الذي رفع الحظر في وجه هذا المشروع . وفي الوقت الذي كان الاتحاد الوطني بصدد وضع أسس استراتيجيته السياسية الجديدة والتهيؤ للخروج في حلة جديدة هي حلة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وخوض المعركة في مواجهة نظام الحكم عبر 0لية النضال الديموقراطي، ومواجهة قيم المجتمع عبر 0لية الاشتراكية العلمية، سعت الحركة الإسلامية، سباقا مع الزمن، لتطويق الخطر القادم المهدد للقيم الدينية للمجتمع، بإنتاج 0لية حاسمة في غرس التنظيم الإسلامي في الأوساط الشبابية الشعبية وذلك بتأسيس جمعية الشبيبة الإسلامية سنة 1972. وأصبح الصراع الإيديولوجي والسياسي قاسيا ومريرا وعلى مستوى دولي، وفي جميع الأقطار العربية، بين تيارات اليسار الاشتراكي، وأحزاب القومية العربية والأحزاب الشيوعية، وبين تنظيمات الحركة الإسلامية، اتخذ طابع الاستيلاء على السلطة وتغيير أنظمة الحكم، والزج بجموع الإسلاميين في السجون وتعليق قادتهم على أعواد المشانق، حدث ذلك في سوريا والعراق ومصر والسودان والصومال واليمن وتونس والجزائر وليبيا. هذا الجو المشحون بالشقاق والعداء على الصعيد العالمي: هو الذي هيأ النفسية التي أدت إلى تورط شباب جمعية الشبيبة الإسلامية في اغتيال القيادي المرموق والعقل المدبر والدينامو المحرك لحزب الاتحاد: عمر بنجلون سنة 1975، بعد عام فقط من تأسيس حزب الاتحاد الاشتراكي، ولولا حكمة الزعماء الاتحاديين بوعبيد واليوسفي واليازغي الذين ألجموا عواطف الانتقام لدى شباب الاتحاد لمقتل زعيمهم، لسقط الجميع في دوامة الدم والدم المضاد. وفيما شن الاتحاد الاشتراكي حملة تشهيرية ضد الشبيبة الإسلامية واصما إياها بكونها صنيعة للنظام السياسي الذي تعارضه، وبكونها طابورا خامسا للقوى الرجعية العالمية، ردت الشبيبة الإسلامية الصاع صاعين وألصقت بالاتحاد تهم الإلحاد والزندقة ومحاربة الدين والعمالة للمعسكر الشيوعي، وكانت المحطات الانتخابية الجماعية والتشريعية سنتي 1976 و1977، فرصة للشبيبة الإسلامية لاحقت فيها حزب الاتحاد في كل مدينة وفي كل مسجد بحملات دعائية مضادة تصد من خلالها المواطنين للحيلولة دون التصويت الانتخابي لفائدة الحزب، بما كان له الأثر الجلي في جانب من حجم النتائج الانتخابية المتراجعة ضدا على موقع الاتحاد ونفوذه وشعبيته. فقد كانت الشبيبة الإسلامية تخشى هيمنة الاتحاد الاشتراكي على البرلمان وعلى الحكومة، خشيتها من تسخير إمكانيات الدولة وسلطاتها في ضرب الحركة الإسلامية، والانتقام من تنظيم الشبيبة. ورغم المراحل الزمنية التي مرت، وتبدل المواقع والمواقف، وتحول الشبيبة الإسلامية إلى ما سمي بالجماعة الإسلامية، بعد إبعاد عبد الكريم مطيع عن القيادة، والتحول بعد ذلك إلى ما سمي بالإصلاح والتجديد، ثم التوحيد والإصلاح، رغم ذلك، فقد ظل حزب الاتحاد الاشتراكي ينظر إلى الإسلاميين أنهم قتلة عمر بنجلون، لا تشفع فيهم تحولاتهم ولا مواقعهم الجديدة ولا حتى تبرأتهم من دم عمر بنجلون. وخلال التسعينيات، وعندما قرر الملك الحسن الثاني إنهاء حالة التنافر بين المعارضة والقصر، واستهلها بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، يساريين وإسلاميين، والسماح بعودة المنفيين السياسيين، سنة 1994، في أكبر مصالحة سياسية من حجمها عرفها تاريخ المغرب، قرر معها إدماج حزب الاتحاد الاشتراكي في الدولة والحكم، في ما سمي بحكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، وقرر معها أيضا في سابقة تاريخية إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية، والسماح للدكتور الخطيب بتعهد هذا الإدماج، واستعادة المسك بزمام أمور المشروع الذي أطلقه ورعاه سنة 1966، مشروع الحركة الإسلامية، وذلك باحتضان حركة التوحيد والإصلاح في حزب الحركة الشعبية الدستورية، والتحول إلى حزب العدالة والتنمية. وهكذا ومن واقع استرتيجية الملك الحسن الثاني في إعادة ضبط التوازن السياسي في البلاد، وتفكيك التناقض بين المعارضة الاتحادية والقصر، وجد حزب الاتحاد الاشتراكي نفسه مرة أخرى، وبقيادة الزعيم الوطني: اليوسفي، في مواجهة العدو التاريخي، الإسلاميين الذين أصبحوا هذه المرة حزبا سياسيا، وبقيادة الزعيم الوطني: الدكتور الخطيب. المواجهة التي ضمنت بها استراتيجية الملك الحسن الثاني تدبير التوازن والاستمرار، بتوزيع الأدوار بين طرفين سياسيين: الأول، حزب الاتحاد الاشتراكي، بإبعاده من الصراع مع القصر، وتمكينه من مفاتيح الحكم، وإدارة الدولة، والثاني: حزب الخطيب بوصايته على الإسلاميين وكفالة تأهيلهم السياسي، وإبعادهم من خطر التشرذم والتسيب ومناهضة الدولة، وتمكينهم من مهمة حراسة الثوابت الاستراتيجية الكبرى للحكم والدولة. وقد تجلت فاعلية هذه الإستراتيجية الذكية، في المحطة الزمنية الدقيقة، لحظة إنتقال الملك، عند وفاة الملك الحسن الثاني، سنة 1999، عندما كان الاتحاد الإشتراكي بقيادة زعيمه اليوسفي ، من موقع رآسة الحكومة، يتولى ضمان الانتقال السلس للملك، بين يدي الملك محمد السادس، وكان حزب العدالة والتنمية بقيادة زعيمه الدكتور الخطيب، من موقعه في المعارضة، يتولى حراسة هذا الضمان للانتقال السلس للملك والحكم. ففي الوقت الذي كان يرى اليوسفي، بصفته رئيسا للحكومة، أن يحتكم إلى المشروعية الدستورية، وحدها، في استخلاف الملك محمد السادس، وجلوسه على العرش العلوي، كان الدكتور الخطيب ، يتصدى لهذا التمرير المنقوص والمقصود للسلطة الملكية، ويفرض بقوة وحزم، إستخلاف الملك على أساس المشروعية الدستورية، وعلى أساس المشروعية الدينية، بشكل أولي وجوهري ورئيسي، بالبيعة الشرعية الدينية للملك بصفته العليا، كأمير المومنين، كما تقتضيها مقومات الإمامة العظمى في الشرع الإسلامي وفي الثرات السياسي الإسلامي المتواتر والمتعاقب عليه. وقد تمكن الدكتور الخطيب، في هذه اللحظة التاريخية، من تفعيل دور الحراسة اليقظة للثوابت الجوهرية للملكية، والانتصار لها، في تلك المواجهة السياسية الخفية والمتكتمة والسريعة التي جرت في كواليس الإعداد لإنتقال العرش، بما تسبب في غصة كتومة في حلق المتضايقين من سلطان المشروعية الدينية، وألحق نكسة بالمخطط الرامي إلى الالتفاف على المضامين الماضوية والتقليدية لمؤسسة البيعة. غير أن هذه المواجهة السياسية الخفية، التي أشعلها الخلاف حول تصور مشروعية الحكم الملكي، سيأخذ أبعادا أخرى بشكل علني وصدامي بالتعبيرات التعبوية والجماهيرية المختلفة عند عرض حكومة اليوسفي ماعرف بمشروع مخطط إدماج المرأة في التنمية، وتبين معها أن الشارع الذي كان يستقوي به الاتحاد الاشتراكي، في عقود سابقة قد أصبح في قبضة العدو التاريخي: قوى التيار الديني، مسنودة بالمؤسسة الدينية الرسمية وملحقاتها. وقد تبلور هذا الإختلال في موازين القوى بين الاتحاد الاشتراكي، وتعبيرات الإسلام السياسي، في الإنتخابات التشريعية لسنة 2002، التي تراجعت فيها حصيلة الاتحاد، بينما تم الإفساح لمرور حزب العدالة والتنمية بحصيلة انتخابية أقوى، حملت إلى البرلمان، 42 إسلاميا، كان واضحا معها، أن الترتيب السياسي الجديد، قد رفع الحظر على الاستقواء السياسي الإسلامي، كسبيل واضح نحو الاستغناء عن شروط وعقود سنة 1998، سنة تنصيب حكومة التناوب، والصدارة السياسية للاتحاد الاشتراكي. وقد تجلى هذا الاستغناء في التعيين الملكي لشخصية تكنوقراطية في الوزارة الأولى، واستبعاد الشخصية السياسية، عبد الرحمان اليوسفي، فيما إعتبره هذا الأخير خروجا عن المنهجية الديموقراطية، في إيحاء ضمني إلى إلغاء العقد السياسي بين الاتحاد والحسن الثاني سنة 1998. الآن، ومنذ سنة 2002، وإلى الزمن الراهن، في سنة 2017، يبدو أن كل مظاهر السجال السياسي، والتدافع السياسي، إن على المستوى الإيديولوجي، أو على المستوى الميداني، أو على المستوى الحكومي، ماهي إلا إمتداد لتداعيات الصراع الدائر منذ بدء الاستقلال، بين مشروع يسار الحركة الوطنية، وبين الإسلام السياسي، إن من جانب الحكم، أو من جانب القوى المحافظة، أو من جانب قوى الحركة الإسلامية. فهل سيطوي التوفيق السياسي القادم رحلة هذا الصراع الطويل؟