ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المؤسسة الملكية ورهان التحول الديمقراطي في المغرب
نشر في هسبريس يوم 10 - 03 - 2017


على سبيل التقديم:
للمغاربة مسار حضاري وديني غني. وهو مسار محكوم بعنصر استمرارية تاريخية يكاد يكون فريدا في العالم. تجسد أول ما تجسد في رسوخ وعراقة اجتماعهم السياسي، وتعدد روافد أمتهم وامتدادها في الزمان والمكان. وهو الاجتماع الذي انتظم، أكثر وأجلى ما انتظم، في تضافر مع إمارة المؤمنين القائمة على البيعة الشرعية، المؤسسة للمضمون الشرعي التاريخي، والدستوري الحديث للمؤسسة الملكية التي تكاد تتماهى في مخيال المغاربة مع دولتهم.
وأي فاعل سياسي يخوض غمار التدافع السياسي بمعزل عن الوعي العميق بهذه الحقيقة التاريخية والحضارية كمن يخوض عباب البحر بلا بوصلة ولا وجهة ولا يقين، ليس أمامه من خيار إلا أن يَضِلَّ أو يُضِلَّ!!
أولا: حتى لا نخطأ موعدنا مع التاريخ
إن نجاح المغرب في تجاوز منعطف "الحراك الثوري" بكيفية حضارية مبدعة يعود، بعد لطف الله تعالى، إلى رصيد الثقة الذي راكمته المؤسسة الملكية، في التحامها وتفاعلها مع قوى الشعب الحية، ليس بفضل شرعيتها الدينية والتاريخية والدستورية فحسب، وإنما بفضل شرعية الأداء من خلال هامش الإصلاحات السياسية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والحقوقية الذي ما فتئ يتسع ويتعزز رغم كل التحديات.
وهو ما جعل عموم المغاربة يستجيبون للدعوة الملكية لتوسيع هامش هذه الإصلاحات تفاعلا واستجابة للحراك الشعبي المطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهو ما ترجمه دستور 2011 والانتخابات التي أعقبته. و بالمقابل، فإن غياب رصيد الثقة الناتج عن غياب أي هامش حقيقي للإصلاحات هو الذي يفسر عدم استجابة الشعب المصري والسوري والليبي واليمني لوعود الإصلاح التي أعلنها رؤساء هذه الدول.
فبينما كانت جل الأنظمة السياسية العربية تعاني من حالة انسداد وجمود وتكلس في مجال الإصلاح السياسي؛ المؤسسي والدستوري، سواء على مستوى القنوات المؤسسية الواصلة بين مدخلات ومخرجات النظام السياسي، أو على مستوى العلاقة بين مختلف مكونات هذا النظام، أو على صعيد العلاقة بين السلطة الحاكمة ومختلف القوى المعارضة، وكذا مختلف مكونات المجتمع المدني..
بينما كانت جل الأنظمة السياسية العربية كذلك، كان المغرب يؤسس لتجربة إصلاحية راكم خلالها العديد من الإصلاحات المؤسسية الهيكلية، والتعديلات الدستورية، وبوجه خاص التعديلين الدستوريين لسنة 1992 و1996.
وهي الإصلاحات والتعديلات التي ترتبت عليها أول تجربة انتقال ديمقراطي قادها اليسار متمثلا في حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بزعامة أمينه العام الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي. كما تأسست عليها واحدة من أهم تجارب العدالة الانتقالية في العالم، والأولى من نوعها في العالمين؛ العربي والإسلامي قادتها هيئة الإنصاف والمصالحة..
وهو ما أضفى زخما على الهامش الهام الذي ظلت تتمتع به مؤسسات المجتمع المدني وفي قلبها المنظمات الحقوقية. وكذا الصحافة المستقلة التي تمتعت في ظل العهد الجديد بقيادة جلالة الملك محمد السادس بحضور وتأثير غير مسبوقين، وهو العهد الذي شهد إصلاحات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية معتبرة، انطلاقا من تصور ومفهوم جديد للسلطة ولتدبير الشأن العام يقوم على سياسة القرب، ويراهن على إرساء أسس دولة الحق والقانون.
وبفضل هذه الإصلاحات الهيكلية التي شرع فيها المغرب بشكل مبكر نسبيا رغم العديد من التحديات والمعوقات الموضوعية، وبفضل هذا الهامش الهام من الحريات السياسية والنقابية والمدنية التي لم ترض يوما القوى الراديكالية، تمكن المغرب من اجتياز موجة الحراك الثوري الذي أسقط أنظمة سياسية عربية، وخلخل أركان أخرى، من خلال إقرار دستور متقدم (2011) كرس التوازن والتعاون والفصل بين السلطات؛ التنفيذية، والتشريعية والقضائية. ووسع مجال الحقوق والحريات بكل أنواعها، وحفظ المجال السيادي الإستراتيجي التحكيمي للمؤسسة الملكية، التي شكلت، بحق، صمام الأمان الأوثق للمغاربة في مواجهة كل التحديات.
وذلك لأنها تعبر عن روح الدولة المغربية بما هي خلاصة توافقات وإجماعات وتعاقدات تاريخية تشكلت عبر الزمن. وهو ما يفسر أن أفق ومقاصد رهاناتها يتجاوز، ويتعين أن يتجاوز أفق الفاعلين السياسيين الحزبيين المحكومين، عادة، بمنطق السلطة لا بمنطق الدولة.
ولذلك يتعين أن نربأ بها عن الارتكاس إلى حضيض الاستقطابات السياسوية الضيقة، وأن نحترم إرادتها التاريخية في أن تأخذ نفس المسافة من كل القوى الوطنية. وأن يحرص الجميع على تعزيز مكانتها الإستراتيجية والمعيارية والأخلاقية باعتبارها ضمير الأمة المغربية ورمز سيادتها وقطب رحى دولتها، وعدم السعي إلى إبرازها كطرف في الصراع على السلطة. والكف عن تغذية الإيهام بالتنازع والتنافس بين المؤسسة الملكية ومؤسسة رئاسة الوزراء.
فلا يمكن لأي رئيس للوزاراء، مهما على شأنه، أن يحوز على عناصر الشرعية والمشروعية التي تحوز عليها المؤسسة الملكية. فضلا عن أن الزج بالملكية في هذا التنافس لاعتبارات مغرضة من شأنه أن يقلل من قيمتها، ورمزيتها، فهي أعلى وأسمى وأقوى. والمطلوب هو تفعيل النظام الدستوري للدولة، وتعزيز دور المؤسسة الملكية ومكانتها بما يفعل ويحفز باقي المؤسسات الدستورية ولا يعطلها أو يضعفها؛ لأن قوة المؤسسة الملكية من قوة مؤسسات الدولة الدستورية.
إن قوة وفاعلية المؤسسة الملكية تكمن في بروزها باعتبارها الفاعل الإستراتيجي والسيادي المهندس لعملية الإصلاح والتحديث والمحفز عليها، والساهر على تحققها ونجاحها. وهو ما تقوم به الملكية فعليا بطريقة بالغة الدينامية والفاعلية. لكن ليس بمنطق الفاعل السياسي العادي، وإنما بكيفية استراتيجية ومعيارية تعبر عن ضمير الجماعة الوطنية لبث الروح والمعنى في الحياة العامة، وتحديد الوجهة، ورد الأمور إلى نصابها، والحسم في القرارات المصيرية.
ولذلك، فإن أية مبادرة أو مشروع إصلاحي، أو اجتهاد يصدر عن تيار أو حزب أو هيئة، أو شخصية وطنية اعتبارية، ويعبر عن روح الإجماع والمصلحة الوطنية العامة والثوابت الدستورية، فإن الملكية تساندها وتدعمها وتباركها انطلاقا من الالتزام بهذين المعيارين: معيار الإجماع ومعيار والمصلحة الوطنية العامة في صلتهما العضوية بمعيار الفاعلية وشرعية الأداء.
وبذلك يتم تحصين المؤسسة الملكية من شتى محاولات الإستقواء والاحتماء المغرضة بها، أو الاستقطاب على أساسها.وبذلك يتم تحصين وتحرير الإرادة الوطنية العامة لكل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين لإنتاج الثروة ومراكمتها، وتثمير مقدرات البلاد المادية والرمزية وتعزيز السلوك المدني بناء على شرعية الأداء، واستلهاما لروح الفاعلية التاريخية كشرط لأي تقدم ونهوض حضاري لبلدنا..
ولا ريب ّأنه بفضل تمثل الملكية لهذه الروح استوعبت الأحداث، ووجهتها الوجهة التي تحقق المصلحة الوطنية الكبرى. وهو ما وجد ترجمته في انبثاق أول حكومة صادرة عن روح الدستور الجديد بزعامة حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية. رغم ما اعترى أداءها من تعثر وتردد ومماحكات لم ترق إلى مستوى روح الدستور الجديد، والممكنات والصلاحيات التي يتيحها للحكومة بمختلف مكوناتها. وهو ما أدى إلى إدخال تعديل موسع عليها، على أمل أن يتم تجاوز ما اعتور أداءها من قصور، وما أثاره من استياء فئات عريضة من الشعب المغربي.
ثانيا: الثقة والتعاون والتوازن والتنافس البناء، بدل الشيطنة والاستعداء والإقصاء !!
لقد نجحت المؤسسة الملكية، وهي تجدد ذاتها باستمرار، في استيعاب مختلف القوى الوطنية، إسلامية كانت أو علمانية ضمن دائرة المشروعية..والوحدة الوطنية الجامعة؛ حيث تم تدبير عملية الاستيعاب السياسي والمؤسسي لانتقال اليسار من الاختيار الثوري إلى الاختيار الديمقراطي منذ اواسط السبعينيات من القرن الماضي. كما تم الإدماج التدريجي للتيار الإسلامي الذي أبدى استعدادا ومرونة في مراجعة مواقفه الراديكالية من المؤسسات الدستورية، واستعدادا للمشاركة السياسة في إطار المشروعية بعد التسليم بالثوابت الدستورية للمملكة. وقد تم ذلك، كما هو معلوم، من خلال تأطير مزدوج؛ من طرف كل من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ووزارة الداخلية.
وهكذا فإن المؤسسة الملكية تكون قد أسهمت في بلورة الخيارات الوطنية التي أمكن للقوى الشعبية أن تراهن عليها في العمل على تلبية مطالبها انطلاقا من الدعوة إلى الإصلاح في ظل الاستقرار واحترام الثوابت الدستورية للبلاد.
فمع أن حزب العدالة والتنمية قد بدى في نظر الكثير من المواطنين كخيار أساسي راهنوا عليه بعدما جربوا سائر التنظيمات الحزبية في مرحلة تاريخية فارقة، ومع أن هذا الحزب قد تحلى بقدر غير يسير من المسؤولية التاريخية في تعامله مع استحقاقات هذا الحراك على الصعيد الوطني، إلا أن التجربة السياسية العملية أثبتت مدى محدودية الخيارات التي يحوز عليها هذا الحزب على المستوى الإستراتيجي والتدبيري، ومدى العجز الذي يعاني منه، على غرار باقي الأحزاب السياسية، في بلورة المشاريع والحلول الناجعة لمختلف المعضلات التي تواجه البلاد.
ليتكشف أن نجاحه "الظاهر"، على غرار باقي الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية التي وصلت إلى السلطة على صهوة "الحراك الثوري العربي"، يعبر عن أزمة فراغ وفشل للمشاريع القائمة أكثر من تعبيره عن امتلاكه للمقومات الذاتية والموضوعية الكفيلة بأيلولته نموذجا سياسيا يمتلك رؤية تؤهله لبلورة بدائل حقيقية قادرة على مجابهة مختلف التحديات التي تواجه المجتمع المغربي في مختلف المجالات..
لكن هذا لا ينفي أنه أكثر الأحزاب المغربية القائمة تنظيما وفاعلية وانسجاما، بفضل حداثة نشأته وتطوره من فكرة، إلى مشروع، إلى جماعة، إلى حركة، وإلى حزب سياسي قائم على ديمقراطية داخلية متينة، وبفضل ما يرتكز عليه من حامل اجتماعي يتمتع بدرجة معتبرة من الحيوية والتأطير.. وبفضل قدرته على مراجعة ذاته وتطوير آليات عمله، وكذا قدرته على التكيف مع مختلف المتغيرات.. فضلا عما يحوزه من صدقية ورصيد أخلاقي بدأ يتآكل تدريجيا بفعل الهيمنة المتنامية للسياسي على الدعوي.
ومع ذلك، فهو لا يمتلك الخيال السياسي ولا الإستراتيجي الذي يجعله قادرا على إحداث فارق نوعي بالمعنى التاريخي، أو إحداث اختلال في بنية التوازنات السياسية والاجتماعية الكبرى؛ والدليل على ذلك؛ أن النتائج التي حصل عليها في الانتخابات التشريعية الأخيرة لا تعد محصلة قوته الذاتية بقدر ما تعد نتيجة لتصويت اضطراري لعدد كبير من غير المنتمين له درءا لما اعتبروه الأسوء.
وفي هذا السياق، الملاحظ أن هناك مخاوف مبالغ فيها في غالب الأحيان من حزب العدالة والتنمية. والحاصل أن الخصومة الإيديولوجية والسياسية والدفاع على المواقع والمصالح يجب أن لا يجعلنا ننسى أن هذا الحزب ملأ فراغا حقيقيا في مرحلة حاسمة من تاريخ بلادنا المعاصر، وموقفه من الثوابت الدستورية وفي مقدمتها الملكية ليس وليد مشاركته الجارية في السلطة وفي الحياة السياسية، وإنما نتيجة لمواقف تمت ترجمتها في عملية تنشئة سياسية موصولة بدأت منذ مرحلة" جمعية الجماعة الإسلامية"انطلاقا من أواسط الثمانينات من القرن الماضي وتطورت في المراحل اللاحقة. ومسار اندماجه في الحياة السياسية تختلف عن مسار باقي الحساسيات الإسلامية في المشرق.
فالحزب ومشروعه لا يمثل خطرا ولا تحديا للدولة؛ ومع ذلك فإن حفظ الدولة لعملية التوازن بين مختلف القوى السياسية بما لا يخل بروح التطور الديمقراطي للبلاد يظل مشروعا، لكن إقصاؤه أو إضعافه في هذه المرحلة الحرجة بالذات غير مجدٍ؛ خاصة في ظل غياب بدائل سياسية حقيقية يمكن الركون إليها والاطمئنان إلى مشروعية أدائها وليس فقط ولائها.
خاصة وأن الخطر الحقيقي على اختيارات الدولة الكبرى وعلى ثوابتها الدستورية قد يأتي من مكونات إسلامية حركية أخرى تستبطن نموذجا ومشروعا سياسيا عقائديا إقصائيا وحديا.. أو من قوى راديكالية انفصالية تستغل مضلومية عرقية مزعومة. والأخطر من ذلك؛ الكتلة الصامتة التي تمثل الأغلبية الساحقة للشعب المغربي، والتي يمثل الشباب قوتها الحيوية، وهي الكتلة التي لا يمكن توقع ردود فعلها في أوقات الأزمات والاضطرابات الاجتماعية لا قدر الله.
وسوف يكون من الخطأ التاريخي وسوء التقدير السياسي، حسب رأيي المتواضع، التعامل معه بمنطق التوظيف الظرفي المغرض، والاكتفاء باستغلال "عذريته السياسية" لتدبير عملية النجاة من مضاعفات الحراك الثوري الذي اجتاح العديد من الدول العربية. أو التعامل معه بمنطق التخويف منه، أو شيطنته..
فقصارى ما يمكن أن يسهم به حزب العدالة والتنمية في هذه المرحلة التاريخية أمران أساسيان:
أولا: الإسهام في تخليق الحياة العامة والعمل السياسي
وثانيا: الإسهام في خلق دينامية سياسية محفزة لباقي المكونات السياسية الوطنية على الفعل والتنافس والتدافع الديمقراطي في اتجاه مراجعة خطاباتها وأدبياتها وأولوياتها، وتوجهاتها، وآليات عملها.. بما يفضي إلى فرز تكتلات سياسية منسجمة قوية فاعلة ومتوازنة (يمين، يسار، وسط..).
بحيث أن الأحزاب والقوى التي لها القابلية للحياة والتطور سوف تتفاعل مع هذه الدينامية بإيجابية لتجدد ذاتها وتنخرط بفاعلية في المجال العام، أما التي تفتقد لهذا القابلية فسوف تنحل من تلقاء ذاتها؛ فتكف عن أن تشكل عنصر عبئ وإعاقة للتطور السياسي والتاريخي لبلدنا.
طبعا، من حق الدولة، من خلال مؤسساتها الدستورية وفي صدارتها المؤسسة الملكية، أن تواكب كل هذه التحولات وكل هذه الدينامية وتوجهها لما يحقق المصلحة العامة الوطنية، وتسهر على تلافي كل ما من شأنه أن يهدد بنية التوازنات السياسية الكبرى الكافلة للاستقرار. لكن دون أن يفضي ذلك إلى تعطيل هذه الدينامية التاريخية التي تعد الشرط الضروري لانضمام بلادنا إلى مصاف المجتمعات والأمم المتقدمة، ضمانا لمصالح فئوية ضيقة، أو إخفاء للعجز عن مواكبة هذه الدينامية وما تتطلبه من فعالية وجهد وإبداع من قبل النخب السياسية.
وهو ما سوف يجعلنا نتجاوز إيجابيا عقدة الخوف المفتعلة من هيمنة مكون من المكونات الحزبية على الحياة السياسية. كما سوف يسعف بلادنا لكسب الرهانات التاريخية التي رفعتها وفي مقدمتها:
أولا: رهان إيجاد حل متوافق عليه لتكريس السيادة على أقاليمنا الصحراوية انطلاقا من مقترح الحكم الذاتي. وهو المقترح الذي لا يمكن تنزيله وإقناع المنتظم الدولي، وكذا إقناع إخواننا المغرر بهم بتندوف بجديته؛ إلا بإنجاح مشروع الجهوية الموسعة. ولا ريب أن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بالذهاب بالخيار الديمقراطي إلى منتهاه ونحن مستصحبين للوعي بالمسؤولية التاريخة اللازمة. وهو رهان إن نجح المغرب في كسبه، فسوف يسهم في خلق دينامية مغاربية حقيقية في اتجاه التحول الديمقراطي، والتقدم الإجتماعي والتنمية الإقتصادية والاندماج الإقليمي.
وهكذا سوف يفضي كسبنا لرهان وطني إلى التأسيس والتمهيد لكسب رهان إقليمي سوف يعزز لا محالة المكانة الإقليمية والقارية والدولية لبلدنا. وهكذا سوف يجدد المغرب مجده "الإمبراطوري" التاريخي، لكن بمنطق العصر القائم على التكتلات الإقليمية والتعاون الدولي. وهو ما عززته الديبلوماسية الملكية النشيطة غير المسبوقة من خلال اعتمادها لشراكة مغربية إفريقية شاملة قائمة على الإنتاج والاستثمار واقتسام الخبرات، وهو ما مكن المغرب من العودة إلى الإتحاد الإفريقي من موقع قوة وفاعلية كبيرين انطلاقا من رؤية استراتيجية بدأ تنزيلها منذ أكثر من عقد من الزمن.
وهو ما شكل وسوف يشكل تجاوزا للمنطق الريعي الذي طالما اعتمده النظام الجزائري في مناوئته لوحدتنا الترابية ومسارنا الإصلاحي الواثق. وفي تعارض صارخ مع مصالح الشعب الجزائري الشقيق و تطلعات باقي شعوبنا المغاربية.
ثانيا: رهان الانتقال من اقتصاد وطني نام إلى اقتصاد صاعد. ولا ريب أن هذا الرهان الحضاري يستلزم أخذ مسألة الإصلاح الشامل في ظل الاستقرار بالجدية اللازمة. وهو ما يستدعي من جهة أولى؛ إجراء إصلاح وتحديث حقيقي لمنظومتنا التعليمية والعلمية تحفيزا للإبداع والابتكار التكنولوجي كشرط واقف لكل تطور في منظومة الإنتاج.
ولا ريب أن المدخل الحاسم لتحقيق شرط التقدم لبلدنا يكمن في الإصلاح العميق لمنظومتنا التعليمية والعلمية عبر مختلف مستوياتها وأسلاكها وتخصصاتها؛ لأن مخرجات النظام الاجتماعي الكلي ترتبط جميعها بالنظام التعليمي؛ بحيث لا يمكن تصور مجتمع متقدم في غياب نظام تعليمي متقدم وفعال، ليس على مستوى أدواره في التنشئة الوطنية؛ الاجتماعية والسياسية، وإنما كذلك على مستوى أدواره في البحث العلمي والابتكار التكنولوجي..
ولا أدل على ذلك من أن القطاعات السيادية التقليدية (الخارجية، والدفاع ، والحقل الديني..) لا يمكن أن تستمد سياديتها موضوعيا، ولا يمكن أن تثبت فعاليتها إلا من سيادية وأولوية وفاعلية النظام التعليمي؛ لسبب بديهي مفاده أن هذا النظام هو الذي يمد هذه القطاعات وغيرها من القطاعات الوطنية بالكفاءات والموارد البشرية اللازمة.. ومن هنا تنبع أهمية، بل وحيوية تحرير هذا القطاع من المزايدات السياسوية، والنظر إليه باعتباره قطاعا سياديا استراتيجيا يستمد استمراريته وديمومة النظر فيه من استمرارية ورسوخ المؤسسة الملكية، وكذا رسوخ الدولة المغربية.
ومن جهة ثانية؛ إجراء إصلاح وتحديث حقيقي للإدارة والقضاء كشرط لازم لشفافية الصفقات العمومية لخلق الأجواء والشروط المناسبة لجلب الاستثمارات الأجنبية، وتشجيع الرأسمال الوطني على الاستثمار في أرض الوطن، وهو ما لن يتحقق إلا من خلال محاربة كل مظاهر الفساد الذي بات ينخر النسيج الاقتصادي لمعظم الدول النامية. خاصة وأننا من الإقتصاديات التي تدبر مواردها بمنطق الندرة لا بمنطق الوفرة.
وفي هذا الإطار فإن الحياة السياسية ببلدنا في حاجة ماسة لكل قواها الوطنية ولكل أبنائها دون وصم ولا تمييز، بما في ذلك الأحزاب التي درج البعض على نعتها بالأحزاب "الإدارية" أو "الكرطونية"؛ فمثلما استقطبت هذه الأحزاب جماعات مصالح استغلت صلتها بالدولة لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة للدولة، فإن الفاعلين الأساسيين الذي آمنوا بمشروعها مناضلون لا يقلون وطنية عن غيرهم.
لأنهم انخرطوا في صراع فرض على الملكية فرضا من قبل قوى راديكالية يسارية وعسكرية تحالفت مع قوى إقليمية ودولية سعيا لقلب نظام الحكم. مما اضطر الملكية للدفاع عن نفسها بل ووجودها بكل الأسلحة الممكنة. وفي هذا السياق جاءت نشأة الأحزاب المسماة إدارية.
ومع أن حصيلة هذا الصراع كانت دامية ومكلفة لكلا الطرفين، ومعطلة لمسيرة التطور التاريخي لبلدنا، ومستنزفة لجزء كبير من طاقته الاقتصادية والإستراتيجية، إلا أن النتائج كانت ستكون أكثر وخامة إذا ما تصورنا نجاح الخيار "الإشتراكي التقدمي" القائم على التصنيع والتأميم في بلد زراعي متخلف تصل فيه الأمية نسبا مخيفة، ولا يوجد فيه نفط ولا غاز؟!
ودون التشكيك في النوايا الوطنية للقوى الراديكالية التي ذهبت ضحية وعي لا تاريخي مستلب؛ تعامى عن الحقيقة الأنتربولوجية والسوسيولوجية والإقتصادية والتاريخية والحضارية لبلدنا. مثلما ذهبت ضحية استقطاب سياسي أيديولوجي واستراتيجي دولي يتجاوزها ولا يعبر عن حقيقتها ولا عن مصالحها الموضوعية، ودون تبرير للتجاوزات الحقوقية والمآسي الإنسانية التي وقعت، والتي كان للدولة فضل الاعتراف بها، والاعتذار عليها، وجبر الضرر الناتج عنها لاحقا، فإن الفضل في إجهاض هذا المسار التاريخي يعود، في جانب مهم منه، إلى مناضلي هذه الأحزاب "الإدارية" الواعين بطبيعة الصراع الذي فرض عليهم، و ما كان عليهم إلا أن يخوضوه بكل ما أوتوا من قوة.
ثالثا: في ضرورة مراجعة القوى السياسية الوطنية لذاتها
غير أن المطلوب الآن بعد انتفاء الشرط الموضوعي التاريخي لنشأة هذه الأحزاب؛ أن تمضي قدما في عملية تجديد خطابها وأولوياتها وبرامجها ورهاناتها بما ينسجم مع التحديات والاستحقاقات التي تنتظر بلدنا. كما يتعين على قوى اليسار وغيرها من القوى الوطنية كل من موقعه وتجربته ومساره أن تمضي جميعا قدما في عملية المراجعة هاته في التفاف واحتكام للمؤسسات الدستورية وليس في تنازع معها.
ولما كانت المعركة التي يتعين على المغاربة خوضها هي معركة الإصلاح والتنمية والتحديث كشرط للإنخراط في العصر إلى جانب الأمم المتحضرة؛ فيتعين التخفف ما أمكن من التخندقات والسجالات الأيديولوجية والإنخراط في تفاعل جدلي منتج بين مختلف التصورات والإجتهادت في معركة التنمية والحضارة.
وتلافيا لمزالق وكلفة السجال حول تدبير العلاقة بين الدين والسياسة في بلدنا، فإن كل الأحزاب السياسية الوطنية يتعين أن تتمثل ثوابت الأمة الدستورية وتفعلها بدل أن تجعل منها بؤرة استقطاب معطلة للتطور التاريخي للجماعة الوطنية.
وفي هذا السياق، يتوجب أن يمثل الإسلام ومنظومة قيمه الأخلاقية رأسمالا جماعيا ومصدرا أساسيا لكل الأحزاب المغربية، وبهذا يغدو الإسلام في صلته التاريخية الوثيقة بالملكية مصدر إجماع ولحمة وطنية، وليس مصدر احتراب وصراع.. وعلى أساسه يتم تخليق الحياة العامة في انفتاح على منظومة القيم الكونية التي تمثل كسبا إنسانيا أسهمت فيه كل الحضارات..
ومثلما يتعين على القوى الإسلامية ببلدنا أن تستوعب أن الشأن السياسي شأن اجتهادي عقلي قائم على الترجيحات والمصالح، وليس شأنا عقائديا، فكذلك يتعين على النخب الحداثية أن تعي أن المنظومة القيمية الحاكمة للحياة السياسية في أي مجتمع لا تستمد إلا من معتقدات المجتمع وثقافته؛ فهي ملك للجميع ويتعين مراعاتها واحترامها من قبل الجميع..
كما يتعين العمل على بلورة تحالفات سياسية منسجمة تحقق التوازن وتضمن الاستقرار السياسي على المدى البعيد؛ بحيث يتم الاصطفاف والتحالف ضمنها، ما أمكن، على أساس اعتبارات سياسية و اختيارات استراتيجية وليس بالضرورة على اعتبارات أيديولوجية عقائدية ما دامت كل الأحزاب المغربية أقرت والتزمت منذ البداية بنفس الثوابت الدستورية؛ على مستوى المرجعية كما على مستوى الهوية، والانتماء..
وفي هذا الإطار يبدو من الضروري الإلتزام بمبدأ العتبة كشرط للمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، الأمر الذي لا يضمن البقاء في الحياة السياسية إلا للأصلح والأنفع والأجدر..
ذلك أن تدبير حياة سياسية فسيفسائية؛ مكوناتها مترهلة وطفيلية عادة ما تكون كلفتها غالية، وغير منتجة؛ بحيث لا يمكن التأسيس على مخرجاتها أو تحقيق فعل التراكم بناء عليها، أو التعويل عليها باعتبارها وسيطا بين الدولة والمجتمع في التأطير والتنشئة السياسية، والتعبير عن المطالب، والإسهام في تكييف الأزمات، واستباق توقعها، واقتراح الحلول الأنجع لاستيعابها أو حلها..
لأن قوة الدولة من قوة المؤسسات الوطنية التي تتوسط بينها وبين المجتمع وبوجه خاص الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية، ومؤسسات المجتمع المدني..بما ينسجم مع المسار المتطور للتاريخ الإنساني الذي تسوده وتحدد وجهته المجتمعات الأكثر حداثة وتقدما..
وبالمقابل، إذا ما تهيكلت الحياة السياسية على أساس أقطاب (يمين ليبرالي، يسار ديمقراطي اجتماعي، ووسط "إسلامي"..)، فإن ذلك سوف يسهم في ضمان التوازن والاستقرار، ويجعل النظام السياسي، وفي قلبه المؤسسة الملكية، في حالة من "الارتياح"؛ فبالإضافة إلى أدوار المؤسسة الملكية السيادية والإستراتيجية الحاسمة في إدارة دفة الحكم في مستوياته العليا والتنفيذية على حد سواء، سوف تتركز وظيفتها، بشكل أساسي، على ضبط التوازنات السياسية الكبرى، وضمان احترام الثوابت الدستوري وقواعد العملية الديمقراطية، وإعلان المبادرات والمشاريع الإستراتيجية الكبرى.
ومن هنا فإن التحدي الحقيقي الذي بات يواجه بلادنا لا يكمن في وصول الإسلاميين إلى الحكم من خلال حزب العدالة والتنمية، لسبب بسيط هو أن هذا الحزب لم يصل إلى الحكم، وإنما قصارى ما أنجزه أنه وصل للمشاركة في السلطة الحكومية إلى جانب أحزاب وطنية أخرى، أما الحكم فيقع موضوعيا وتاريخيا ودستوريا في يد المؤسسة الملكية، وهناك مطالب متصاعدة لكي يظل في يدها بدعوى أن أحزابنا السياسية لا زالت تعاني في معظمها من أعطاب بنيوية ووظيفية عميقة تحول دون قدرتها على إنتاج نخب مؤهلة لبلورة مشاريع إصلاحية مندمجة وقابلة للتنزيل، وليس مجرد جماعات مصالح أو "دكاكين" لبيع الأوهام للمواطنين وإفساد ذممهم بمناسبة كل استحقاق انتخابي.
رابعا: معالم تشكيل الحكومة المقبلة
ومن هنا أهمية ترسيخ الإجماع حول المؤسسة الملكية كمؤسسة وطنية حاكمة وقائدة لعملية الإصلاح. وأهمية تحلي هذه المؤسسة، كما هو ديدنها دائما، بمعيارية رمزية أخلاقية وطنية عالية، وبفعالية تاريخية تجعلها أسمى معبر عن ضمير وإرادة وطموحات الجماعة الوطنية بمختلف مكوناتها.
وحتى لا نخطأ موعدنا مع التاريخ؛ يتعين إلى جانب العمل على تعزيز التوافق والإجماع على مركزية ومحورية المؤسسة الملكية في بنية النظام السياسي وبنية الدولة المغربية، وترسيخ مكانتها السيادية والتحكيمية والإستراتيجية بل والتنفيذية..يتعين، كما سلفت الإشارة، عدم الإمعان في وضع صلاحياتها الدستورية في تعارض مع صلاحيات باقي المؤسسات الدستورية وبوجه خاص مؤسسة رئيس الوزراء مهما كانت هويته الحزبية. كما يتعين الرفع من فاعلية مختلف هيئاتنا الحزبية والمدنية.
ذلك أن الرهان على التحويل الديمقراطي لا يتعين أن يقتصر على الدولة، وإنما يجب أن يتعداها إلى الأحزاب السياسية ومختلف مؤسسات المجتمع المدني. كما أن معيار الانتماء لمنظومة الحداثة السياسية يستلزم الالتزام والعمل على التحويل الديمقراطي لمختلف القوى الراديكالية غير الديمقراطية؛ إسلامية كانت أو غير إسلامية، وليس العمل على إدانتها ووصمها تمهيدا لإقصائها، خاصة إذا كانت تتمتع بحامل اجتماعي قوي من شأنه أن يجعل منها قوى منافسة في العملية السياسية.
فإذا كانت أحزابنا السياسية الحداثية والديمقراطية لا تراهن في مشروعها التحديثي العام للمجتمع، وبشكل مبدئي، على القيام بكل ما من شأنه أن يحث جماعة العدل والإحسان، على سبيل المثال، على الإنخراط في العملية السياسية الديمقراطية والتسليم بالثوابت الدستورية، فإن هويتها الحداثية ومشروعها الديمقراطي التقدمي يصبح موضع تساؤل؟
ذلك أن الحداثة السياسية لا تتحقق إلا من خلال حرص القوى الحداثية الديمقراطية على توسيع دائرة المشاركة السياسية، والتمكين الثقافي لمنظومة القيم الديمقراطية الحديثة..وكذا الارتقاء بمستوى الولاء؛ من الولاءات ما قبل حديثة إلى الولاءات الحديثة المتمثلة في الدولة ومؤسساتها الدستورية وفي صدارتها المؤسسة الملكية.
ولأن الملكية في بلدنا تحكم بمنطق الدولة باعتبارها حصيلة التوافقات والإجماعات والتعاقدات التي تشكلت عبر التاريخ، وهو ما يضفي عليها قدرا كبيرا من الاستقرار والثبات والديمومة، وليس بمنطق السلطة القائمة على موازين القوى والمصالح المتغيرة بتغير الاستحقاقات الانتخابية، فإنها (أي الملكية) عادة ما تعبر في القرارات التاريخية والمصيرية، تلقائيا، عن ضمير الأمة المغربية ومصالحها العليا..ولو كان ذلك على حساب حريتها وحياتها ومصالحها الخاصة؛ ولعل في اختيار المغفور له الملك الراحل محمد الخامس، رحمه الله رحمة واسعة، للمنفى هو وأسرته بدل الإذعان للضغوط الاستعمارية الرامية لتفريطه في السيادة الوطنية مقابل كل الامتيازات الخاصة.. ولعل في اتخاذ المغفور له الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، لقرار استرجاع أقاليمنا الصحراوية من خلال تنظيمه للمسيرة الخضراء رغم كل التحديات والمخاطر التي قد تصل إلى حد مجازفته بعرشه..خير دليل على ذلك.
وهو ما يجعلنا شبه موقنين بأن تشكيل الحكومة سوف يرى النور فور وصول جلالته إلى الديار. وان مسار الإصلاح الشامل في إطار من التوافق الوطني المحكوم بروح الإجماع على الثوابت الدستورية سوف يستمر و تتعزز وثيرته؛ فعلى قدر التحديات تكون الإستجابة. والحاصل أن بلدنا باتت تواجهه تحديات حقيقية يتعين التجند جميعا لمواجهتها بروح المسؤولية والفاعلية التاريخية اللازمة.
فلو تمسك الأستاذ عبد الإله بنكيران بالمنطق الحاكم لتشدده في رفض مشاركة الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية في الحكومة المنتظرة، لما أمكنه تشكيل حكومته الثانية بتحالف مع الأحرار أصلا.
ورغم ما يمكن تسجيله بخصوص الغموض والازدواجية التي حكمت موقف إدريس لشكر من الدعوة التي وجهت له للمشاركة ابتداء، فإن ذلك لا يبرر الإمعان في رفض مشاركته التي أصبحت تمثل العائق الوحيد عمليا لتشكيل الحكومة وتجاوز حالة الجمود السياسي التي طال أمدها..
فإذا كان رموز الحركة الوطنية يصرون على التمييز بين العرش والجالس على العرش، ألا يمكن للأستاذ عبد الإله بنكيران أن يميز بين حزب الإتحاد الاشتراكي باعتباره مؤسسة حزبية وطنية أصيلة لها سخصية اعتبارية، رغم ما باتت تعانيه من معضلات، وبين كاتبه الأول؟ هل تغيرت طبيعة وبنية الحزب ومشروعه بتغير موقف كاتبه العام؟ طبعا لا يمكن.
الأمر الذي يؤكد أن موقف الأستاذ عبد الإله رغم أحقيته الظاهرة، يظل محكوما باعتبارات ذاتية أكثر منها موضوعية، وإلا فإن الوضعية التي يعيشها الإتحاد وتعيشها البلاد أدعى لاستيعابه رغم ما يمكن أن يكون قد خضع له من ضغوط أو انخرط فيه من تسويات..
ولا ريب أن الأستاذ عبد الإله يعي جيدا أنه رغم الأهمية القصوى للبعد المعياري والأخلاقي في السياسة والمجال العام، إلا أنها (أي السياسة) تظل تعبيرا عن وجود موضوعي لقوى اجتماعية وسياسية لها مصالح ونزوعات وأهواء ومصالح ورهانات متباينة؛ ولذلك فهي "فن الممكن" قبل أن تكون "فن ما ينبغي أن يكون" على أهميته. لأن السعي إلى ما ينبغي أن يكون معياريا وأخلاقيا لا يمكن أن يتحقق إلا بمنطق وعلى أرضية ما هو كائن موضوعيا؛ فالواقع لا يرتفع. لكنه يتغير انطلاقا من رؤية وفلسفة ومنهاج ومشروع وفاعلية تاريخية..
*أستاذ زائر بكلية الحقوق جامعة محمد الخامس/ سلا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.