حين يتعلق الأمر بحقبة فرنسا الاستعمارية يلجأ السياسيون الفرنسيون إلى أقصى درجات الحذر والغموض، ما يجعل مواقفهم محكومة، في معظمها، بتضارب وارتباك لافت يمضي بحسب قناعات كل منهم وانتمائه الأيديولوجي والسياسي. فبين "واجب الذاكرة" و"رفض التوبة" أو "إنكار" جرائم فرنسا في مستعمراتها السابقة، تتقاطع مواقف الطبقة السياسية الفرنسية إلى حد تبني خطاب مزدوج أحيانا، هربا من مواجهة تحمل في طياتها حمما قادرة على نسف الواقع السياسي الفرنسي الداخلي، وبعثرة ترتيب رموزه بشكل كامل. الجدل حول هذا الملف الشائك طفا على السطح مجددا، إثر تصريحات المرشح المستقل للانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي تنطلق 23 أبريل المقبل، إيمانويل ماكرون، في الجزائر قبل أيام، والتي وصف خلالها استعمار بلده للجزائر (1830- 1962) ب"الجريمة ضدّ الإنسانية". لكن هل يظل ماكرون على موقفه من تلك الحقبة الاستعمارية حتى نهاية السباق الانتخابي أو إذا فاز بانتخابات الرئاسة؟ سؤال ربما تجيب عنه مواقف سياسيين وحكام فرنسيين آخرين بشأن ذلك الملف. فيون.. تبادل للثقافات أم استعمار بغيض؟ مرشح اليمين الفرنسي للانتخابات الرئاسية المقبلة، فرانسوا فيون، يعتبر خير مثال على تضارب واضح في المواقف بشأن الماضي الاستعماري لبلده. ففي شتنبر الماضي، أي قبل أقل من شهرين من الانتخابات التمهيدية لليمين (نونبر الماضي)، وصف فيون الاستعمار الفرنسي بأنه "تبادل للثقافات"، مندّدا باعتبار البعض أن "الاستعمار شرّ سقط على البلدان التي غزتها فرنسا". المرشح الرئاسي أضاف أنه سيعمل على تغيير كتابة تاريخ فرنسا في مستعمراتها السابقة، ضمانا ل "نظرة مغايرة للأجيال عن الاستعمار"، على حد تعبيره. فيون، وهو أكثر المرشحين قربا من نظريات اليمين المتطرّف، بدا في أحد خطاباته، حينذاك، داعما لروح قانون "تمجيد الاستعمار"، الصادر في فبراير2005، حين قال إن فرنسا "غير مذنبة، وكل ما أرادته هو تقاسم ثقافتها مع شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية". ويستخدم هذا القانون مصطلح "وجود" بدل "استعمار"، معتبرا أن هذا الوجود "نقل الحضارة إلى تلك البلدان وأخرجها من التخلّف". لكن، وفي تحوّل "مفاجئ"، وفق الإعلام الفرنسي، وصف فيون، في مقابلة يوم 11 فبراير الجاري، مع صحيفة "لو كوتيديان" الفرنسية، الاستعمار ب "البغيض" تماما مثل العبودية. ووفق وسائل إعلام جزائرية، فإن الجانب الإيجابي من تصريحات ماركون وفيون يستهدف كسب تأييد أكثر من 1.5 مليون ناخب فرنسي من أصول جزائرية. ساركوزي.. استغلال وليس جرائم حرب الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي (2007- 2012)، لم يشذّ عن ازدواجية التصريحات بشأن ملف الاستعمار. ففي دجنبر 2007، وصف ساركوزي، خلال زيارة صداقة للجزائر، النظام الاستعماري الفرنسي في البلد العربي بأنه "ظالم ويتناقض مع شعار الجمهورية: حرية- مساواة- أخوة". ومضى قائلا إن "هذا النظام لا يمكن أن يكون سوى مؤسسة استغلال، وأخطاء وجرائم الماضي لا تغتفر"، رافضا في الوقت نفسه استخدام مصطلح "جرائم حرب" أو "جرائم ضد الإنسانية". غير أنه بعد 4 سنوات، وتحديدا خلال حملته للانتخابات الرئاسية في 2012، تغير موقف ساركوزي تماما، إذ قال إنه لا يمكن لفرنسا "إعلان التوبة (الاعتذار) عن قيادتها" لحرب الجزائر، وإنه يتحتّم عليها "تحمّل مسؤولية تاريخها". ساركوزى تابع بقوله: "لكن أين تكمن مسؤولية فرنسا.. في أنها كانت قوة استعمارية أو أنها قبلت مسار إنهاء الاستعمار في الجزائر كما أجبرت على فعل ذلك جميع القوى الاستعمارية الأخرى (؟)". وهكذا تراجع ساركوزى عن عباراته المنددة بالاستعمار، ليوظف ملف الاستعمار، وهو من المواضيع فائقة الحساسية لدى الرأي العام الفرنسي، في حملته الانتخابية سعيا إلى عودة لم تحدث إلى قصر الإليزيه. أولاند.. وحشية دون اعتذار كيف تنظر فرنسا إلى ماضيها الاستعماري؟.. هذا الاختبار العصيب لم ينج منه أيضا الرئيس الحالي، فرانسوا أولاند. ففي دجنبر 2012، استنكر أولاند، في أول زيارة له إلى الجزائر إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية، ما وصفه آنذاك ب"النظام غير العادل بعمق والوحشي"، معترفا ب"المعاناة التي كبّدها الاستعمار للشعب الجزائري". وهو موقف بدا "مؤثرا"، وفق الإعلام الفرنسي، غير أن تعاطف الرئيس الفرنسي كان منقوصا من اعتذار كان سيعني الكثير بالنسبة للشعب الجزائري. حديث أولاند رأى فيها مراقبون "رمزية" تطغى على أبعاده الواقعية، بمعنى أن تصريحاته لم تتجاوز محاولات إخراج علاقات فرنسا مع الجزائر من الفتور الطاغي عليها؛ بسبب عدم اعتراف واعتذار باريس عن الجرائم التي اقترفتها خلال 132 عاما من استعمارها للجزائر. وهو توجّه ترجمته "الحركات الرمزية"، بحسب وصف الإعلام المقرب من الاشتراكيين الفرنسيين، والتي ظهرت في بعض محطات ولاية الرئيس الاشتراكي الرئاسية. ففي أبريل 2015، زار كاتب الدولة الفرنسية المكلف بشؤون قدامى المحاربين، جان مارك توديسكيني، مدينة سطيفالجزائرية، وهي مسرح المجازر الفرنسية المرتكبة بحق الجزائريين في 8 ماي 1945. وأولاند هو أول رئيس فرنسي شارك في 2016 في الاحتفالات المخلدة لوقف إطلاق النار بين "جيش التحرير الوطني" في الجزائروفرنسا، في 19 مارس 1962، ما يدعم، بحسب مراقبين، "الارتباك الشديد" للطبقة السياسية الفرنسية في التعامل مع إرثها الاستعماري، وخصوصا جرائمها الاستعمارية في الجزائر. ومنذ الاستقلال عام 1962، تدعو الجزائر، رسميا وشعبيا، إلى اعتذار فرنسا رسميا عن "جرائمها" الاستعمارية، غير أن باريس تعتبر أنه لا حاجة لأن يعتذر الأبناء عما ارتكبه الآباء والأجداد. وما بين مطالب الجزائر وموقف فرنسا، يخيم أكثر من قرن من الاستعمار على العلاقات بين البلدين، في انتظار اعتراف واعتذار قد يخفّفا "ديْنا" وقد يثقل أو يربك السياسين والحكام المتعاقبين في باريس.