يعتبر الأخد بالوسائل البديلة لحل المنازعات في الوقت الراهن ضرورة حتمية نظرا لما لها من دور مهم في تخفيف العبئ عن القضاء الرسمي و كذا تمكين المستثمر الأجنبي و المواطن المغربي من طرق فعالة في تسوية المنازعات بشكل سريع و فعال و عادل. و في هذا الإطار عمل المشرع المغربي في قانون 05-08 للتحكيم و الوساطة الاتفاقية على تمكين قضاء التحكيم باعتباره من الوسائل البديلة لحل النزاعات من مقتضيات قانونية كفيلة بتحقيق الغاية التي وضع من أجلها، حيث عرف هذا القانون عدة مستجدات سواء فيما يخص إضافة التحكيم الدولي أو تدعيم صلاحيات الهيئة التحكيمية أو فيما يخص إجراءات التحكيم إلا أنه لازال النقاش مستمر حول طبيعة مهمة الهيئة التحكيمية و قضاء التحكيم بالمغرب خاصة في ظل المعطيات المقدمة من طرف الباحثين في هذا المجال و التي تدفع في اتجاه إضفاء الطابع التعاقدي على مهمة الهيئة التحكيمية. حيث يرى الرأي الغالب 1 وهم من أنصار الطبيعة التعاقدية لمهمة المحكم 2 أن العلاقة بين المحكم و الطرفين هي علاقة تعاقدية فيوجد بينهما عقد يمكن تسميته - تمييزا له عن اتفاق التحكيم- بعقد المحكم و ينعقد العقد بايجاب من الطرفين باعلان إرادتهما باختيار المحكم لمباشرة مهمة التحكيم و بقبول من المحكم لهذه المهمة و يستمر هذا العقد إلى حين الانتهاء من التحكيم بإصدار الحكم و ما يتعلق بتفسيره أو تصحيح الأخطاء المادية به أو الفصل فيما أغفل الفصل فيه و قد ينتهي قبل ذلك بتنازل الطرفين عن التحكيم أو بوفاة المحكم أو بتنحيه أو عزله أو الحكم برده، وهذا العقد ينعقد سواء كان التحكيم حرا أو مؤسساتيا، وطنيا أو دوليا، كما ينعقد ولو كان المحكم قد تم تعيينه بطريق غير مباشر من الغير أو من مركز أو من المحكمة 3 . و من هذا المنطلق ظهر هذا الاتجاه في الفقه القانوني يرجح الطبيعة التعاقدية لعمل المحكم و يرى أنصار هذا الاتجاه أن اتفاق التحكيم و قبول المحكم للمهمة و تحقيق غايتها – حكم تحكيمي فاصل في النزاع – يكونان كلا واحدا و تتجمع عملية التحكيم في شكل هرم قاعدته الاتفاق و قمته الحكم الذي يبدو مجرد عنصر تبعي في هذه العملية، و ذلك لأنه لا يعدو كونه مجرد تحديد لمحتوى عقد التحكيم الذي وقع عليه المحكم و التزم بتنفيده و لا يعد قضاء مستقل عن اتفاق التحكيم 4 . و حسب هذه النظرية فإن مهمة المحكم ذات طبيعة تعاقدية و دوره هو تنفيد عقد الشروع في مهمة التحكم على اعتباره عقد رضائي ملزم لجانبين و المحكمون ليسوا قضاة بل أشخاص عاديين يعهد إليهم بتنفيد الاتفاق طالما أن مهمة المحكم تؤسس على إرادة الأطراف. و تتمحور فلسفة هذا التحليل حول ثلاثة محاور تتمثل أساسية و هي 5: - مبدأ الثقة في التحكيم لا في القضاء. - مبدأ التحكيم بديل عن القضاء و ليس بقضاء. - و مبدأ أن عمل المحكم عمل خاص « Acte privé » لا قضاء. و إذا كانوا أنصار هذا الاتجاه يتفقون في أن المحكم يقوم بعمل أساسه عقد فقد اختلوا في تكييف عقد المحكم فهناك من اعتبره عقد مقاولة من نوع خاص6 سيما إذا فوض الأطراف المحكم بالصلح حيث يحقق ذلك قطعا مصلحة مشتركة لطرفي النزاع فيقول أصحاب هذا الاتجاه أن جانب لمقاولة في هذا العقد واضح من حيث أن المحكم يلزم بأداء مهمته مستقلا عن إرادة الأطراف و دون تبعية لهم عليه أو رقابة و ذلك مقابل أجر يلزم الأطراف بأدائه للمحكم، و تتجلى خصوصية عقد المقاولة في أمرين : - الأول أن المصلحة التي من المفترض أن تتحقق لرب العمل في المقاولة يجب أن تتسع عن مفهومها التقليدي فقد ينتهي النزاع بحكم لا يتفق و مصلحة الطرف الدي اختاره، و هذا ما يدعو للنظر إلى المصلحة التي يرمي إليها رب العمل - أطراف النزاع- في عقد المقاولة بمفهومها الواسع المتمثل في حسم النزاع وفقا لصحيح القانون بصرف النظر عن الطرف الذي ربح القضية. – الثاني أن مهمة المقاول )المحكم( مهمة غير تقليدية سواء على مستوى الدهني أو المادي و هي ممارسة سلطة قضائية خولها له القانون و الأطراف في النزاع. و هناك من الفقه - و يؤيد هذا الموقف فتحي والي - من اعتبر أن عقد المحكم هو عقد له طبيعة خاصة « sui generis » وهو إن كان يقترب من عقد المقاولة إلا أنه يختلف عنه و لا تنطبق عليه ما ينص عليه القانون من أحكام عقد خاصة بعقد المقاولة و هو ما دعى البعض إلى تكييفه بأنه عقد ولاية Contrat d'investiture » « باعتبار أن الأطراف يخولون به للمحكم ولاية الفصل فيما بينهم من نزاع، و يلتزم المحكم بموجب هذا العقد باستعمال سلطاته التي يمنحها له القانون أو الأطراف للفصل في النزاع7. و قد تفاعل الاجتهاد القضائي مع الطبيعة التعاقدية لمهمة المحكم حيث تبنت محكمة النقض الفرنسية هذا الطرح في وقت سابق حينما أقرت بالطبيعة التعاقدية لقبول المحكم للمهمة إلى غاية إصداره الحكم التحكيمي وذلك عندما سطرت في حكمها الصادر 27 يوليوز 1937 أن قرارات التحكيم الصادرة على أساس عقد التحكيم تكون وحدة واحدة مع هذا العقد و تشاركها جنبا إلى جنب صفتها التعاقدية8 كما تفاعل القضاء مع الاتجاهات الفقهية لتكييف عقد المحكم فبعدما قضت محكمة استئناف لندن في حكمها في قضية Jiraj v. Hashawani في القضية رقم A2/209/1963بتاريخ 22/6/2010 مفاده أن المحكم يعتبر عاملا لدى الأطراف تسري عليه القواعد القانونية المنظمة للعاملين ، إلا أن المحكمة العليا البريطانية ألغت هذا الحكم باعتبار أن المحكم لا يعمل لدى الأطراف و لا يربطهم به عقد عمل بل هو يؤدي خدمة بصفة مستقلة مثله مثل القاضي 9. و رغم وجاهة الطرح الذي قدمته هذه النظرية و التفسيرات المرتبطة بها فيما يخص تحديد طبيعة قبول المحكم لمهمة التحكم إلا أنها أغفلت دور القانون في مباشرة المحكم لهذه المهمة على اعتبار أن التسليم بالطبيعة التعاقدية لمهمته تحيل على اعتبار أنها تتمحور حول الكشف عن إرادة الأطراف و تنفيد بنود الاتفاق بل أن مهمته لا تنهض فيما تم التعاقد عليه فحسب بل تتمحور بالأساس في مرحلة سابقة على هذا التعاقد الذي خول له مكنة قبول مهمة التحكيم و الاشراف على عملية الفصل في المنازعات عن الكشف عن إرادة القانون و تطبيقها على النزاع و ليس الكشف عن إرادة الأطراف و تنفيد بنود الاتفاق فحسب. كما أغفلت هذه النظرية الطبيعية القضائية لمهمة المحكم الذي أقر بها المشرع المغربي و اعتبر أن الحكم التحكيمي يحوز حجية الشيء المقضي به في الفصل 26-327 كما لا يجوز عرض النزاع مجددا أمام المحاكم لكن يجوز الطعن فيه شأنه شأن سائر الأحكام القضائية، حيث يقول الفقيه أحمد عبد الكريم سلامة في هذا الإطار 10: أن الأصل الاتفاقي أو التعاقدي « origine contractuel » للتحكيم، لا يضمن تقليلا لقدر قرار التحكيم و احترامه، فالأصول الفنية للتحكيم و نظامه، تبصر بأن إرادة الأطراف تعهد للمحكم بسلطة قضائية حقيقة و ليس مهمة صلح أو توفيق ينبني على ذلك، إن القرار الصادر هو قرار قضائي. هوامش: 1- و يؤيد الطبيعة التعاقدية لمهمة المحكم:محمد السيد التحيوي، التحكيم في المواد المدنية و التجارية و جوازه في منازعات العقود الادارية ، دار الجامعة الجديدة للنشر، دون ذكر مكان الطبع، 1999 ، ص 395. أنظر : أسامة أحمد حيسن أبو القمصان ، مدى استقلالية شرط التحكيم عن العقد الأصلي، رسالة استكمال متطلبات الحصول على درجة الماجستير في القانون الخاص، جامعة الأزهر، كلية الحقوق قسم القانون الخاص ، غزة، السنة الجامعية 2010 ، هامش رقم 4 ، ص 123. 2- و يعتبر النائب العام الفرنسي « Merlin » أول من تبنى النظرية العقدية فقد دافع أمام محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 15 يوليوز 1812 على أن مهمة المحكمين ليست قضائية و ليس للمحكم ما للقاضي من سلطة عامة و إنما تحركه فقط إرادة الأطراف. و حسب هذه النظرية فإن التحكبم عقد رضائي ملزم للجانبين و المحكمين ليسوا قضاة بل أشخاص عاديين يرتبطون مع الأطراف في إطار تعاقد يحدد مهمته من بداية التحكيم إلى نهايته. حازم المرابط. مهمة المحكم، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية سلا، السنة الجامعية 2008-2009 ، ص 35-36. 3 -فتحي والي، قانون التحكيم في النظرية و التطبيق، منشأة المعارف، الاسكندرية ، طبعة 2007، ص 277. 4- عيسى بادي سالم الطروانة ، دور المحكم في خصومة التحكيم، رسالة ماجستير مقدمة استكمالا لمتطلبات الحصول على الماجستير في القانون الخاص ، جامعة الشرق الأوسط، كلية الحقوق قسم قانون خاص، عمان ، السنة الجامعية 2011 ، ص 48. 5- حازم المرابط ، مرجع سابق، ص 36. 6 -الشهابي ابراهيم الشرقاوي و مصطفى أبو العينين .الطبيعة القانونية لعلاقات التحكيم و المسؤولية المدنية الناشئة عنها. مقال منشور بمجلة العلوم القانونية، العدد الأول، كلية القانون، جامعة عجمان للعلوم و التكنلوجيا، دولة الامارات العربية المتحدة، 2013 ، ص 111. 7- فتحي والي، قانون التحكيم في النظرية و التطبيق، مرجع سابق، ص 364. 8- و في هذا تقول المحكمة :« une décision arbitral.. , c'est le compromis qui lui donne l'être, c'est du compromis qu'elle tire toute se substance , elle n'existe que par la compromis, elle a donc comme le compromis le caractère d'un contrat.. » note prof jean robert l'arbitrage droit interne et international, édition 4 n° 409. 9- فتحي والي ،التحكيم في المنازعات الوطنية و التجارية الدولية علما و عملا، مرجع سابق، ص 363- 364. 10- أحمد عبد الكريم سلامة ، نظرية العقد الدولي الطليق، دار النهضة العربية، 1989، ص 214. *باحث قانوني ووسيط في حل النزاعات