باعتبار أن المحكم هو ذلك الشخص الذي يلجأ إليه الأطراف المتنازعة من أجل تسوية نزاع نشأ أو قد ينشأ بينهم من خلال تعيينه في اتفاق التحكيم، فإن قبوله لهذا التعيين و انعقاد قضاء التحكيم للإشراف على تسوية النزاع بواسطة حكم تحكيمي يثير عدة إشكالات نظرية و عملية بخصوص إعطاء الوصف القانوني الملائم لمهمة المحكم و قضاء التحكيم بالمغرب، هل تعد تعاقدية أم قضائية و هل يمكن اعتبار المحكم وكيلا أو محاميا عن الخصوم أم قاضي مستقلا عنهم و يتولى مهمة قضائية أم أن مهمة المحكم تحمل طبيعة خاصة يمتزج داخلها عدة خصائص تجعل من عمل المحكم طبيعة خاصة على اعتبار أن التحكيم سابق عن قضاء الدولة و أن المحكم لا يعتبر قاضيا أو مهنيا بل يباشر مهمة فصل في المنازعات اعترفت بها جل الدول رغم وجود سلطتها القضائية ؟ و بناء على ذلك اختلفت الآراء و التحاليل بخصوص تحديد طبيعة قبول المحكم لمهمة التحكيم حيث ثارت جدلية كبيرة بخصوص الاختيار بين إظفاء الطابع التعاقدي على قبول المحكم للمهمة و عمل قضاء التحكيم و بين إضفاء الطابع القضائي عليها على اعتبار أن محل القبول هو الفصل في المنازعة و إصدار حكم تحكيمي فاصل في الموضوع، مما كان لهذه الجدلية الأثر الكبير على تمييز المحكم عن القاضي و في تحديد مهمته بدقة و تبيان طبيعتها القانونية. حيث يرى بعض الفقه المناصر للطبيعة القضائية لمهمة المحكم أن العلاقة التي تربط المحكم بالأطراف ليست علاقة تعاقدية و إنما يحكم هذه العلاقة نظام قانوني ينطوي على حقوق للمحكم و التزامات عليه مصدرها القانون، و يستند هذا الرأي إلى أنه باختيار المحكم و قبوله هذا الاختيار تنشأ حقوق و التزامات تمكنه من أداء وظيفته القضائية يحددها القانون و لا تستطيع إرادة الطرفين استبعادها، كما يرى هذا الاتجاه أنه لا توجد بين الأطراف و المحكم التزامات متبادلة و إنما توجد بينهم روابط قانونية متتابعة و قد بدأت هذه النظرية في الانتشار خاصة بعد حكم مجلس الدولة الفرنسي في 17 مارس لسنة 1893 في قضية سككك حديد الشمال، و ذلك بأن اعتبر التحكيم ومهمة المحكم لاسيما الحكم الذي يصدر عنه عملا قضائيا . كما تتجلى ملامح هذه النظرية في التشريع المغربي في الفصل 321 من قانون 05-08 للتحكيم و الوساطة لاتفاقية الذي اشترط على المحكمين الذين يزاولون مهام التحكيم بصفة اعتيادية أو في إطار المهنة بمهام المحكم أن يصرحوا بذلك إلى الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف مقابل وصل بالتصريح الذي يثبت تقييد المعنيين بالأمر في قائمة المحكمين لدى محكمة الاستئناف بعد دراسة وضعيتهم، حيث يتبين لنا أن المشرع المغربي خول للسلطة القضائية احتضان هذا القضاء الخاص و الاشراف عليه فلو كانت مهمة المحكم ذات طبيعة غير قضائية لكان الاشراف عليها خاضع لجهة مستقلة أو منتمية لنفس مجال اختصاص الهيئة التحكيمية. و ينطلق أنصار هذا الاتجاه من أن المحكم يعد بمنزلة القاضي و عمله عمل قضائي على اعتبار أنه يحل محل القاضي فتكون له وظيفته و صفته و أن اللجوء إلى المحكم قضاء إجباري ملزم للأطراف متى اتفقوا عليه، كما أن المحكم لا يعمل بإرادة الأطراف وحدها و إنما له طبيعة قضائية أيضا لها الغلبة على طبيعة عمله. كما يرى أنصار هذه النظرية ضرورة الأخذ بالمعيار الموضوعي المتعلق بأصل وظيفة المحكم و ليس المعيار العضوي أو الشكلي المتعلق بشخص من يقوم بهذه الوظيفة، فالتحكيم و القضاء يقومان بوظيفة واحدة و هي حسم النزاع و تحقيق العدالة بين المتخاصمين و في سبيل ذلك فإن نظر النزاع أمام القاضي أو المحكم يمر بنفس المراحل و ينتهي بحكم حاسم للنزاع يكتسب حجية الشيء المقضي به شأنه شأن القاضي كما أن المحكم يمارس مهامه في إطار قضاء التحكيم المعترف به قانونا و بأحكامه و يعترف بهما شأنه شأن أحكام القضاء الاجنبي التي تديل بالصيغة التنفيذية وقد سار القضاء المغربي في هذا المنحى حيث سبق و أن اعتبر أن حكم التحكيمي يؤخد نفس قوة الأحكام الصادرة عن محاكم المملكة حيث جاء في إحدى حيثيات المحكمة الإستئناف بالدار البيضاء ما يلي: " حيث أن المشرع حين أعطى لقرار هيئة التحكيم صفة حكم إلا ويجب أن يتضمن كل عناصر الحكم الحقيقي للمسائل التي بت فيها، و إن قانون المسطرة المدنية لم يكتف بمجرد إلحاقه بالأحكام من حيث الوصف ، وإنما يعتد به من ناحية إثارته كحكم لا كالتفاق. وبالتالي فإن حكم المحكم يعد بمثابة حكم صادر عن جهة قضائية في البلاد". و سند قيام المحكم بوظيفة القاضي، هو قانون الدولة التي اعترفت بالتحكيم كوسيلة بديلة عن القضاء لحسم المنازعات و اعترفت بعمل المحكم في الحلول محل قاضي الدولة في نزاعات معينة و لا يمكن اعتبار اتفاق التحكيم إلا وسيلة لانعقاد وظيفة المحكم في النزاع المعين فيه نظرا لكونه له الاختصاص بتولي وظيفة حل النزعات بموجب القانون و ليس بموجب التعاقد و بالتالي يمكن القول أن أساس الطبيعة القضائية لقبول المحكم لمهمة التحكيم يتجلى في ناحيتين هو اعتراف الدولة بالتحكيم و مهمة المحكم في الفصل في النزاعات ثم في تفويض الأطراف و قبول هذا التفويض من قبل المحكم لتولي المهمة القضائية في ذلك النزاع لا في اعتبار العقد مصدر اختصاص المحكم في تولي المهمة الفصل في النزاعات. لكن أنصار الطبيعة القضائية لمهمة المحكم اختلفوا حول أساس الوظيفة القضائية التي يباشرها المحكم فمنهم من اعتقد بأن أساس سلطة المحكم في تسوية النزاعات و قبول مهمة التحكيم هو تفويض الدولة للمحكم بإقامة العدل بين الأطراف المتنازعة استنادا إلى النظام القانوني للدولة في حين اعتقد آخرون بأن أساس سلطة القاضي في الدولة هي ذاتها التي يتمتع بها المحكم بل أن هذا الأخير يبق ظهوره سابق على قضاء الدولة فإنه يشكل قضاء من نوع خاص له تنظيمه المستقل و أصالته الخاصة حيث دافع على هذا الرأي بقوة فتحي والي إد أنه دقق في الأمر و ميز بين مصدر التحكيم الذي هو الاتفاق و بين طبيعة وظيفة المحكم فيقول : "إن اتفاق التحكيم لا يمس الطبيعة القضائية للتحكيم إد تجب التفرقة بين المصدر و الوظيفة، فاتفاق الأطراف هو مصدر وظيفة المحكم و لكن المحكم يقوم بنفس وظيفة القاضي الذي تعينه الدولة ". و بالتالي فقبول المحكم لمهمة التحكيم حسب أصحاب الطبيعة القضائية لمهمته تأتي نتيجة التزام الاطراف باللجوء إلى المحكم بغض النظر عن شخصه عوض القضاء، كما أن الخصوم يبقون ملزمين بقرارات المحكمين ذات الطبيعة القضائية بعد قبول المهمة في كل ما يخص إجراءات التحكيم حيث يظل يمارس دوره في هذا الإطار للإجبار أطراف النزاع على الامتثال للقانون الإجرائي و الموضوعي الوارد في اتفاق التحكيم إضافة إلى ممارسة سلطاته ذات الطابع القانوني إلى غاية صدور الحكم التحيكيمي فاصل في النزاع. باحث قانوني ووسيط في حل النزاعات