أشرنا، في عدة مناسبات، إلى أن الإسلام ليس واحدا بل متعددا، وإن الإسلامي الأمريكي له خصائصه تجعله متميزا عن الإسلام في باقي المجتمعات. وقد أشرنا إلى الدور الخطير الذي يؤديه "الجامع" في بلورة وتنمية، بل ترسيخ نمط من الوعي الديني لدى الجالية المسلمة، وخاصة لدى أطفال هذه الجالية؛ وذلك عبر عملية التربية والتعليم التي تتم داخل المراكز الإسلامية. وحتى نقترب أكثر من هذا الواقع سوف نسلط الضوء على "كتاب التربية الإسلامية"، المستوى الثاني، الذي تعتمده العديد من المراكز الإسلامية في أمريكا. كان اختيارنا لهذا المستوى، بالضبط، لسبب منهجي بالدرجة الأولى، إذ إن المراحل التعليمية الأولى والطفولة المبكرة يشكلان عاملا خطيرا في تكوين الطفل وبناء رؤيته للمحيط ولذاته وللعالم. قراءة في شكل الكتاب كثيرا ما اهتم النقاد والدارسون بالعتبات وبالغلاف ودورهما في توجيه المتلقي للنص، الذي يكون موضوع القراءة. أما حين يتعلق الأمر بالكتب المدرسية الموجهة إلى الأطفال، فإن الأمر يصبح بعيدا عن أيّ اعتباط أو تأويلات، بحيث لا يمكن التعامل مع الشكل، أولا، من حيث الصور والرسوم والألوان الموظفة والشخصيات والقاموس اللغوي والحقول الدلالية، إلا كدوال لها مدلولاتها، من جهة، ولها وظيفتها التربوية والمعرفية التي يراد من خلالها "صناعة" الجيل الذي ترصد إليه هذه المقررات. لهذا، فإن الكتاب، الذي نسلط عليه الأضواء اليوم، يقدم لنا رؤية عميقة عن طبيعة الجيل "الأمريكي المسلم" الذي يجتهد المنشغلون به من أجل صناعته. هكذا، يقدم لنا المشرفون عنه صورة لغلاف تحتوي على نوعين من الكائنات في الوجود، الإنسان والحيوان. ويتكون الإنسان من فئتين، الأولى هي فئة في مقدمة الصورة تمثل سيدة محجبة وطفلتين صغيرتين محجبتين يبدو عليهما أنهما متجهتان إلى المدرسة، تليهما في الخلف طفلتان غير محجبتين وفي خلفية الصورة طفلة تلهو مع زميلها قرب البحيرة. وحضور هذه الأخيرة في الخلفية يعني إقصاءها من المشهد الذي يود المسلم أن يجعله سياقه؛ فالفضاء الإسلامي لا يمكنه أن يقبل بوجود غير المحجبات، كما ستكشف عنه الصفحات داخل الكتاب. كل الصور الدالة على الأنثى لا نجدها إلا محجبة، عدا واحدة لطفلة دون السادسة، أما ما تبقى فكلهن محجبات، ويهيمن على الأنثى الحضور داخل البيت، فهي إما تقوم بالأعمال المنزلية أو تساعد أمها أو تحضر دروسها أو ترعى أطفالها، في حين أن الذكور يملؤون الفضاء العام. ومن ثم، فإن المسلمة النموذجية هي تلك التي ترتدي الحجاب، وتحلم بأن تكون "أما" في المستقبل، وإن فضاءها المركزي هو البيت. أما الذكور فهم الذين يذهبون إلى المسجد، وهم الذين يلعبون مع أصدقائهم في الساحات. ولكي يتم توجيه الطفل "الأمريكي المسلم" في هذا الاتجاه، أي في رسم حدود الجغرافية الثقافية والاجتماعية التي ينبغي له التحرك فيه والتعامل داخلها، أشخاصا أو فضاءات، فإن المؤلفين حرصوا على إدراج صفحة عبارة عن منارة توجه "سفينة" الطفل المتعلم، إذ في الصفحة التاسعة، وقبل أن يشرع في تدريس الفصل الأول الذي يحمل عنوان "الإيمان هو حياتي"، نجد صفحة تحمل عنوان "أحب الإسلام والأصدقاء والعائلة"؛ وهي صفحة تحتوي على خمس عشرة صورة لأشخاص كلهم يحملون أسماء عربية أو مسلمة. وقد حرص أصحابنا على إدراج صور بملامح تعبر عن الانتماء الإثني إلى المجتمعات الإسلامية. وبهذا، يستثنى من ”الأصدقاء“ باقي الإثنيات التي لها وجود في أمريكا المتعددة. أضف إلى ذلك أنه من بين ست إناث، توجد طفلة واحدة صغيرة هي التي لا ترتدي الحجاب، أما الخمس الأخريات فيرتدين الحجاب رغم صغر سنهن. بل حتى صورة الأستاذة تحضر محجبة، ونحن نعلم مدى تأثير الأستاذة على الطفل وعلى نموه؛ بل إن الأستاذة يعتبرها الكتاب الذي بين أيدينا قدوة للمتعلم المسلم. فهل يعني هذا أن الإسلام الذي يريده أصحاب هذا المقرر هو إسلام الانغلاق على أصدقاء من المسلمين والعائلات الإسلامية؟ ومن ثم، هل ينبغي أن نربي الأطفال على عدم التعامل مع باقي الأطفال الذين لا ينتمون إلى العقيدة نفسها؟ وهل ينبغي أن يحب الطفل الإسلام وأصدقاءه وعائلته، ويجعل من ذلك عالمه وكونه؟ هل يعني هذا أن يكون الطفل مسلما عليه ألا يحب المجتمع الكبير، وأن لا يعترف بأمريكا كوطن له؟ هل الإسلام الأمريكي أكبر من الوطن ويتجاوزه ولا حدود له؟ أم أنه يعتبر نفسه غريبا وهامشيا وإن انتماءه يوجد في المركز "الشرقيّ"، كما تعبر عن ذلك صورة غلاف كتاب المستوى الخامس، حيث يظهر في الصورة ثلاثة رجال، كل واحد يؤدي دورا من طقوس العبادات، أي بين قارئ للقرآن وبين آخر يدعو وبين ثالث وراءهما يقيم الصلاة وجميعهم بزي تقليدي ”شرقي“. وفي أسفل الصورة ، توجد صورة أخرى يتقدم فيها الأطفال في الواجهة بينما سيدتان محجبتان تصليان وهما إلى الخلف؛ وهو ما يعني أن الذكر الطفل أهم من المرأة، وإن كانت أما أو زوجة؟ المسلم صادق يتكون هذا المؤلف من خمس وحدات كبرى تتفرع عنها فصول. يحمل الأول عنوان "الإيمان هو حياتي"، والثاني "أحب محمدا"، والثالث "ولدت للعبادة"، والرابع" الإسلام والعالم"، أما الخامس والأخير فهو "الأخلاق الإسلامية". إن الفصل الأول من الوحدة الأولى يبدأ بأسطورة الخلق، كما وردت في قصة آدم. ولعل التقعير الذي حدث على "إبليس"، والشكل الذي رسمت به حروف "إبليس" وهي تشتعل نارا تجعل من العالم والصراعات التي سيواجهها المسلم كلها تختزل في شخصية اسمها "إبليس". كما أن ترسيخ فكرة "الإيمان" بالصورة المتجاوزة واللاعقلية واللاتربوية تجعل من الأطفال ضحايا اللامنطق في كل مجالات الحياة، إذ إن خلق الصراع "الفانطازي" مع إبليس، والتسليم الحرفي والدوغمائي ببعض الحقائق التي تهيمن على الوعي الإسلامي، من خلال هيمنة نمط التفسير اللاتاريخي والميثي، يجعل الأطفال ضحايا الاعتقاد بأن هذه الحقائق لا تقبل النقاش. وهنا، وجبت الإشارة إلى بحث قام به ريتشارد داكنز R.Dawkins ، حيث قام باختبار تلاميذ مسلمين في إنجلترا كانوا يعتقدون أن الماء العذب لا يختلط مع الماء المالح. وحين قاموا بتجربة مخبرية تأكد للتلاميذ أن الواقع غير ما يؤمنون به. كما سأل التلاميذ عن نظرية التطور، فكذبوها وعبروا عن رفضهم لها، ولم يستطيعوا الإتيان بالحجة على كلامهم مقتنعين بما يؤمنون به، رافعين عبارة في وجهه: "ما دام أنها موجودة في القرآن فإنها صحيحة".. فكيف يا ترى سيواجه التلميذ المسلم، الحقائق العلمية التي تدرس له في المدارس الأمريكية العمومية، أو في الجامعات أو في البرامج العلمية؟ كيف يمكن أن ينمي الطفل المسلم مهاراته وقدراته العقلية وحسه النقدي، ويلج اللامتوقع في فهم العالم من خلال السؤال والتحدي والعقل النقدي؟ ثم لماذا يصر هؤلاء (صناع المقرر) على الخلط بين النص الديني وبين الحقائق العلمية، بالرغم من التعارض الهائل بين الحقيقتين؟ ثم متى كان القرآن كتاب علم؟ ألم يكن دعاة الإعجاز العلمي أكبر أعداء القرآن؟ أليس ما قاله علي من أن "القرآن خط مسطور بين دفتين يقرأه الرجال“، أي أن النص المقدس مفتوح على القراءات. وهذه القراءات تكون تبعا للواقع الذي تتم فيه وتنطلق منه. من غير أن يعني هذا أن ”الإعجاز العلمي للقرآن“ يدخل ضمن ”القراءات“ التي ينبغي أن تتحقق، وإنما هي ”استعمال“ للنص المقدس وتسييس له. ولعل القراءات التي قدمها أمثال أمين الخولي ومحمد خلف الله، خاصة فيما يخص ”قصص القرآن“، يمكنها أن تكون مدخلا مناسبا لفهم مغاير يليق بواقع العصر وكذا بالسياق الذي يحيا ويتربى فيه الطفل الأمريكي المسلم. أما في الوحدة الأخيرة فثمة فصلان مثيران للغاية، الأول والثاني، إذ يحمل الأول عنوان ”من هو بطلي“ ويقصد به النموذج المحتذى به: فبعد ”محمد“باعتباره رسولا يأتي أبو بكر، ثم ”خديجة“ و ”الأم“ و ”الأب“ و”المعلمة" و”عبد الله بن مسعود“ و”حكيم“ (بطل رياضي أمريكي مسلم)؟ فهل هذا التسلسل نموذجي؟ وما هي الرسالة التي يراد من خلالها ذكر ”عبد الله بن مسعود“ الذي عرف عنه صراعه مع عثمان بسبب اختلافه حول بعض آيات القرآن حين جمعه أيام هذا الخليفة، أي في اللحظة التي ”صنع“ فيها “المصحف“؟ ثم لماذا التركيز على مرحلة وزمن النبوة فقط، ولم يتم تجاوزه إلى نماذج ابن رشد والقاضي عبد الجبار والجاحظ؟ أما الفصل الثاني من هذا الباب فيحمل عنوان ”أنا مسلم، إذن أنا صادق". وحول هذا الفصل قمت باختبار بسيط، كان عبارة عن اقتراح هذا العنوان على بعض الأمريكيين اللامسلمين، وطلبت منهم إبداء ملاحظات حول العنوان. ثم قمت بالشيء نفسه مع مسلمين لهم درجة من الوعي النقدي، فكانت النتيجة واحدة تتلخص في: ”إذا لم أكن مسلما فيعني هذا أنني غير صادق". في حوار مع وزير العدل المغربي، المحسوب على التيار الإسلامي، أجاب عن سؤال وضعه عليه صحافي من إذاعة خاصة، فقال: ”المسلم لا يكذب؟“. إذن، فهذه مسكوكة متداولة بشكل واسع، ويتم تعليمها للصغار في مراحل مبكرة. فماذا يعني الصدق في هذا السياق؟ وماذا تعني عبارة ”المسلم صادق (لا يكذب)“؟ ما الكذب يا ترى؟ وهل المسلم حين يكذب فإن كذبه يدخل في باب آخر؟ وهل يعني أن غير المسلم كذاب بطبعه وينبغي أن يسري عليه حكم ”شرعي“؛ لأن الكذب أخطر من أي معصية أخرى، كما جاء في حديث «يا رسول الله هل يزني المؤمن، قال: قد يكون ذلك، قال: هل يسرق المؤمن، قال: قد يكون ذلك، قال: هل يكذب المؤمن قال: لا إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون" (أخرجه ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار/2443-135/ وابن عساكر في تاريخ دمشق /6-272). ولعل مؤلفي هذا المقرر أكثر انسجاما مع النسق الذي يشتغلون فيه، كما أنهم مؤمنون بأن الزمن الإسلامي لا ينبغي أن يكون تاريخيا، وإنما ينبغي أن يكون متعاليا، بحيث يتم إقصاء الحاضر ويختزلونه في العمران الذي تجسده المساجد، باعتبارها قمة الحضارة، ومنتهى ما وصلت إليه الفنون والهندسة. وهكذا، يتم إدراج صور لعدد من المساجد عبر العالم الإسلامي، بالإضافة إلى حضور المسجد في أمريكا. لينهي المؤلفون الكتاب بصورة اعتبروها على شكل "هدية“ ينصحون الأطفال بتعليقها في غرف نومهم، وهي صورة لساحة قصر الحمراء الذي تزينه الساعة المائية. فهل يعني هذا أن أرقى ما وصلته الإنسانية يوجد في العمران الأندلسي الإسلامي؟ وهل يدور الكون والحضارة الإنسانية حول ”المسجد“ فقط؟ وهل إدراج هذه الصورة في نهاية المقرر دلالة على أن الزمن الذهبي لا يوجد إلا في الماضي؟ وهل على الطفل أن ينشغل بالبحث عن ”الأمجاد“ الضائعة في الماضي الإسلامي؟ وهل الزمن الإسلامي لا يمكنه أن يكون إلا في الذي كان؟ الشريعة باعتبارها مصدرا للتعارض لاحظنا كيف يعمل مؤلفو المقرر المدرس للمسلم الأمريكي على رسم جغرافية ثقافية ودينية واجتماعية فيها الكثير من التضييق على مجال التحرك بالنسبة إلى المسلم الأمريكي؛ بل يصبح عاملا مغلقا منشغلا بأحادية المعنى لدين طالما شكل هوية حضارية منفتحة على قراءات وتأويلات وثقافات، وهو ما سيؤدي حتما إلى خلق تعارضات ومفارقات في وعي الطفل الناشئ؛ لأن هذا النسق الذي يهيمن على فئات عريضة من صناع الخطاب الديني، هو نسق ”سلفي“ لا تاريخي، مشدود إلى الماضي التقليدي الذي أدى إلى انحسار الإنتاج المعرفي وقضى على الاجتهاد، إذ إن هذا الوعي المحكوم بنمط من المعرفة الشرعية ينتج عنه تعارض خطير بين الشريعة والمعايير القانونية لحقوق الإنسان، خاصة في أمريكا، إذ تصبح أربعة مجالات رهينة هذا التعارض، ونقصد: الرق، ووضع غير المسلمين، والمرأة، وحرية المعتقد (خاصة ما له صلة بالردة). الشريعة والمعايير العامة لحقوق الإنسان التفاوت بين الذكر وبين الأنثى واضح، ويتم تكريسه بصورة واضحة ومنهجية في مجتمع يحارب هذا التفاوت، وتنادي قوانينه بالمساواة، وعدم التمييز علي أي أساس، سواء أكان عرقيا أو جنسيا أو عقديا. فكيف يمكن للإسلام الأمريكي أن يتعايش مع واقع يتنافى مع قيم مناقضة لما ينادي به أصحاب هذه المؤلفات التي تدرس للأطفال؟ إذا كانت المرأة الغربية قد تمكنت من تحقيق المساواة في العديد من المجالات، فإنها ما زالت تناضل ضد الرأسمالية/ الإمبريالية والبطرياركية وامتداداتهما في النسق المجتمعي والوعي الاجتماعي، في حين تعتبر المرأة المسلمة أن الحقوق التي أعطاها الإسلام أهم وأكبر، بل إنها تعتبر أن القرآن/ الإسلام قد كرمها، وما عليها إلا أن تطبق تلك الامتيازات، ومن ثم فهي ما زالت توكل الرجل للنيابة عنها في إعطائها هذه الحقوق؛ بل أكثر من ذلك، هي لا تعتبر المرأة الغربية نموذجا يمكن الاحتذاء بها، بقدر ما ترى فيها أزمة وانحطاطا أخلاقيا وإهانة للمرأة في خلط واضح بين الحرية بمعناها الفلسفي والحقوقي وبين الهيمنة الباطرياركية للرأسمالية التوحشية التي تناضل المرأة الغربية من أجل القضاء عليها. إن الخطاب الشرعي المهيمن، حين يحصر المرأة في فضاء البيت، وأن تكون تحت وصاية الرجل/ الذكر، فهو يرى في ذلك تكريما لها. والمرأة المسلمة تزداد اقتناعا بأن دورها هو أن تكون ”أما“ أو ”زوجة“، في حين إن اقتصارها على هذين الدورين هو اختزال لكينونتها في الوظيفة الجسدية وتغييب لوجودها وامتداداتها العملية والإبداعية داخل المجتمع الإنساني. فهي أمّ مرضعة ومربية للأبناء، وزوجة لرجل من أجل الاستمتاع بها. وهذان الدوران يشملان إهدارا لشخصيتها، ويعطل طاقتها الإبداعية، وينعكس ذلك في إعادة إنتاج الثقافة البطرياركية التي تشكل إحدى أكبر الإعاقات التي يعانيها المجتمع العربي. ولهذا، يعمل الخطاب الشرعي المهيمن (التقليدي) على إضفاء البعد الأخلاقي على القضية ويجعل من التحرر فسادا ورذيلة، بينما المجتمع الأمريكي ونضالات المرأة من أجل حقوقها بعيد كل البعد عن هذا الطرح. ففي الوقت الذي تعتبر المرأة الأمريكية/ الغربية أن تحررها هو استعادتها لجسدها، وحقها في التحكم فيه، جسدا شهوانيا، وجسدا عمليا، وجسدا خصبا قادرا علي منح الحياة، يجعلها سيدة نفسها، تصبح قدرتها الإبداعية ودرجة مساهمتها في الحياة العامة أكثر وأقوى، بل تضاهي الرجل، بالرغم من تجربته التاريخية في الفضاء العام. في حين أن المرأة المسلمة تحيا على إيقاع الهدر والتبخيس والتشيء. وهذا ما يفضحه ”الحجاب“ الذي لا يعبر عن حرية المرأة، بقدر ما يعبر عن ”إخصاء“ عميق لوعي المرأة، وفقدانها الحرية في المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية؛ فأن يصبح ”الحجاب“ في أمريكا رمزا للهوية الإسلامية، هو تعبير إيديولوجي عن هيمنة ذكورية يستحيل التغلب عليها. لأن الجسد المحجب هو جسد مهدور، مستلب، ومهيمن عليه وليست له القدرة علي الإبداع. خصوصا حين يضفى على هذا الرمز الإيديولوجي صفة الشرعية ويصبح الحديث عنه ”فرض“ من فرائض الدين؛ فالجسد الحجب هو جسد مشيأ و“مجنسن“ وهويته لذية ولا يتجاوزها. فمتى كان ”الحجاب“ بالتقليعة الحالية رمزا للهوية الإسلامية عبر التاريخ؟؟ إلى جانب المرأة هناك مسألة الرق، إذ لم تتعامل الشريعة مع العبودية بالتحريم، بل إنها مؤسسة موجودة شرعا ولا أحد استطاع أن يحرمها، ولا أحد من الفقهاء استطاع أن يجتهد من أجل تحريمها. وما إلغاء الرق إلا نتيجة للقوانين الدولية التي جرمته وألغته. والحالة هذه كيف يمكننا أن نتعامل مع قوانين مجتمع ناضل من أجل قيم العدالة والحرية والمساواة، التي وإن كانت تحتاج إلى نضالات أكبر، فإنها أفضل مما كان عليه الأمر، ونحن ما زلنا نعتمد خطابا ونمطا من القراءات يعترف بمؤسسة الرق؟ وإذا كانت هذه القضية غير مطروحة في الحياة اليومية للمسلم الأمريكي، فإن ”وضعية غير المسلم" تستدعي الكثير من الكلام. فكما جاء في تلك الصفحة التي ترسم جغرافية الصداقة والدين، في هذا المقرر، فإن غير المسلم لا ”يصلح“ أن يكون صديقا للمسلم! وغير المسلم هو شخص له أحكامه الشرعية، بسبب كفره. لهذا، فإن المسلم الأمريكي يفوض نفسه خليفة لله في أرضه، فيجتهد من أجل الدعوة وأسلمة المجتمع الأمريكي. وهذا أقصى ما يوصله اجتهاده، ما دام أنه غير قادر على محاربة ”الكفار“ أو فرض الدين بالقوة عليهم، واستباحة نسائهم وأبنائهم وقتل رجالهم كما تقر بذلك الكثير من النصوص الشرعية المعتمدة. ولهذا، يتم إخفاء هذا الجانب بكثافة الحديث عن التسامح (عوض المساواة) و"التعايش“، دون أن يكون هناك حكم شرعي واجتهادات شرعية واضحة وصريحة، عن قضايا غير المسلمين، ويتم تفعيلها عمليا من خلال مقررات دراسية وخطابات شرعية متنورة تستوجب التفاعل مع نصوص ثقافية كبرى من تراثنا العربي الإسلامي. أما المجال الرابع من هذه التعارضات بين الشريعة وبين المعايير العامة، فتلك التي تتعلق بحرية المعتقد، أو بالأحرى ”الردة“. فالخطابات الدينية المهيمنة، والتي لها القدرة على التأثير في عامة الناس، لم تتخذ موقفا واضحا، مثلها في ذلك الرق وغير المسلم، علما أن الدراسات التي تناولت مفهوم الردة أجمعت علي أن ”حد القتل“ غير موجود. لكن جل الذين يغيرون دينهم أو يتحررون من العقيدة (اللادينيون) يتم عزلهم وطردهم من الجماعة الثقافية التي ينتمون إليها. بل ويحيون على إيقاع عنف رمزي واضح. وبعضهم تبقى حياتهم مهددة إذا كان لهم شأن في الحياة العامة داخل بلدان الغرب. ترى كيف يمكن صناعة ”مسلم أمريكي“ متشبع بقيم المعايير العامة المعاصرة لحقوق الإنسان، في مجتمع قطع أشواطا في مرحلة ما بعد الحداثة، وهو يناضل ضمن جيل جديد من حقوق الإنسان، في الوقت الذي لا يزال الخطاب الإسلامي المهيمن يعتبر ”هدر المرأة“ تكريما لها، وغير المسلمين ”غير صادقين" وأحيانا يجب قتلهم أو على الأقل نبذه والابتعاد عن التعامل معهم، وفي أحسن الأحوال مسلمون بلا إسلام، وعلى المسلم الحقيقي أن ينشر الدعوة الإسلامية بينهم لإرجاعهم إلى الطريق الصحيح؟ وكيف يمكن صناعة ”مسلم أمريكي“ أغلب شبابه يحلم بتطبيق الشريعة الإسلامية بدلا عن القانون والدستور الأمريكيين؟ فأن تقول الإحصائيات الرسمية أن 52 في المائة من المسلمين الأمريكيين يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية في أمريكا و62 في المائة من شبابهم يعني هذا أن صناع الخطاب التقليدي السلفي الذي يصنع لنا هذه المقررات قد نجح في رؤيته الإستراتيجية بأن أنتج لنا جيلا يرى في باقي مكونات المجتمع الأمريكي ”كفارا“ من الواجب أن يتم التعامل معهم ك“آخرين“ ضلوا عن الحقيقة والطريق الصحيح. ما العمل؟ إن الدارس لقضايا المسلمين في المجتمعات الغربية يستنج أن المسلمين يتحملون قسطا كبيرا من المسؤولية في صناعة الصورة النمطية التي تجعل منهم فئة غير مندمجة، ولا ترغب في ذلك، وإنها ترفض التعامل وفقا لمبادئ الحقوق الإنسانية العامة ومعاييرها الكونية. ولعل النموذج الذي حايثناه يكشف بعمق أهداف صناع الخطاب الديني التقليدي عبر أدوات تربوية؛ وهو ما يستوجب إشاعة الوعي بين فئات المهاجرين والمسلمين، سواء في أمريكا الشمالية والجنوبية أو في أوروبا، عن طريق مراقبة ما يدرس لأبنائهم في هذه المراكز، وأن يتحولوا إلى قوة اقتراحية، ومراقبة قبلية وبعدية لمضامين ما يدرسه أبناؤهم، وأن لا يتنازلوا عن دورهم تجاه أبنائهم لفائدة هذه المؤسسات، التي تبرهن أنها تخضع لنمط من الوعي الديني المتجاوز واللاتاريخي يجلي هيمنة ”ثقافة الجامع“؛ لأن الأدوات الموظفة من قبلهم هي أقرب إلى سموم مدمرة للنسيج الثقافي الإسلامي المنفتح. كما أن على منظمات المجتمع المدني المنشغلة بقضايا المهاجر والمسلم في أمريكا والغرب أن تضطلع بهذا الدور من أجل إنقاذ مستقبل هوية ثقافية بكاملها؛ لأن التناقض الذي يشحن به الأطفال لن يؤدي إلا إلى صناعة المزيد من التطرف، فالإرهاب ليس أفرادا أو جماعات يمكن القضاء عليهم، وإنما هو ”نمط“ فكري لن يؤدي إلا إلى صناعة المزيد من ”القنابل البشرية“ التي هي ضحية هذه ”المصانع، وتسهم في خلق المزيد من الضحايا والمزيد من التعصب. والواقع العالمي الجديد يشهد على هذه التجارب الفظيعة التي أفرغت حضارة وتاريخا من كل محتوى الجمال والفن والفلسفة والمستقبل. من الواجب أن نتخلص من ”التعصب“ الذي مصدره العقيدة؛ لأن الخطاب الذي يقال باسم ”الله“ هو خطاب يشتغل على ”القداسة“، والقداسة حين تصبح نمطا من الوعي تصبح مصدرا للكثير من الانكسارات. ولعل أهم المداخل للتغلب عليه هو نقده وتفكيكه على مستوى الوعي، وذلك من خلال تعرية انغلاقيته عبر البحث في الطابوهات التي لا يقبل نقاشها أو مقاربتها. لأن الطابوهات هي المتحكمة في ”اللاوعي الجمعي“ والتي تشكل قوى لا معقولة وخطية. ومن ثم، فإن المحظورات الأخلاقية والتقليدية لها علاقة بجوهر الطابو البدائي. ولهذا، فإن تفسيره قد يساعد إلى حد بعيد على تسليط الضوء على الأصول الغامضة لهذا ”المطلق". قال الجاحظ: و"ينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا، على أنا وجدنا من العبرة أكثر مما وجدوا، كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا فما ينتظر العالم بإظهار ما عنده، وما يمنع الناصر للحق من القيام بما يلزمه، وقد أمكن القول وصلح الدهر وقوى نجم التقية وهبت ريح العلماء وكسد العي والجهل وقامت سوق البيان والعلم“ (الحيوان/ الجزء الأول، ص: 86). هامش: اعتمدنا في هذه القراءة على الكتاب المدرسي: I love Islam (2), Islamic Studies Textbook series. Islamic Service Foundation, 2009. Texas, USA