أمام هجمات شرسة من أبناء جلدتنا، لم يكن غريبا أن يقسو الغرب على حجاب المرأة المسلمة، ليراه مظهرا من مظاهر اضطهادها، وظلم الرجل لها، ولعل الغربيين معذورون في رؤيتهم هذه، اذ أنها ناتجة عن ميراث تاريخى مثقل بالعداء مع الشرق، وزاد من تشويش الصورة كتابات الرحالة والمستشرقين التي صدرت صورة مغلوطة عن المجتمعات الإسلامية. لكن ما أقوى أن تأتى شهادة الإنصاف ممن يقفون في صف الأعداء، فهؤلاء الذين يهاجمون الحجاب تقليدا للأفكار الغربية، جهلوا أو تجاهلوا أن هناك دراسات غربية دافعت عن حجاب المرأة المسلمة، وحاولت تغيير الصورة النمطية التي ترسخت عبر قرون طويلة. ومن بين هذه الدراسات المنصفة «نظرة الغرب إلى الحجاب» للباحثة الأمريكية كاثرين بولك إذ تكشف المؤلفة في بحثها زيف أساطير شائعة وراسخة عن المرأة المسلمة وحجابها. تقول الباحثة الأمريكية «كنت أشعر أن الحجاب مجرد تراث ثقافي يمكن للمسلمات أن يسعين إلى القضاء عليه، ولكن عندما عرضت على آيات القرآن، التي يعتقد كثير من المسلمين أنها تفرض الاحتشام على الرجال والنساء جميعًا تبدد عندى كل شك في فرضية الحجاب، إذا كانت الآيات بهذا القدر من الوضوح، فحينئذ يكون الحجاب فرضًا على كل امرأة مسلمة». وتوضح بولوك الأصل التاريخى المغلوط لدى الغرب عن الحجاب، قائلة «إن أي نقاش يطرح فكرة أن الحجاب رمز لقهر النساء يعتمد – على نحو صريح أو خفي – على الخطاب الاستشراقى والاستعمارى بشأن الحجاب، لا عجب أن يُسبب النقاب هذا الضيق للرحالة، فهو الذي يمنعهم عن رؤية حسناوات الشرق الشهيرات، فكيف كانوا يجدون رؤية الجمال الغريب البعيد سهلة المنال في أوربا قبل مجيئهم، حيث لم يكن في تصورهم أن الحجاب عائق يمنع رؤية المرأة الشرقية»، مضيفة « والحقيقة أن سخط الرحالة بسبب عجزهم عن الظفر بنظرة إلى ما جاؤوا ليروه، كان أكثر من مجرد حالة إحباط عابرة، بل كانت ضربة أصابت جوهر وجودهم والغرض من رحلتهم واكتشافهم». وتحت عنوان «لماذا الحجاب؟» حددت الباحثة الأمريكية ثلاث مزايا رئيسية لارتداء الحجاب، أولها تحسين علاقات الذكور بالإناث، فالعديد من حديثات الإسلام ممن تحجبن في العشرينيات من العمر عبرن عن شعورهن باحترام أكبر في تعامل الرجال معهن بعد الحجاب، وإن تعامل الرجال كان بوصفهن «بشرًا» لا «كائنات جنسية»، وقد سمح لهن ذلك بالتركيز على ما في أيديهن من أعمال، ووفر عليهن ذلك التشتت الذي تسببه ضرورة مواجهة تحرش الرجال. الميزة الثانية تكمن في أن الحجاب منفعة للمجتمع، اذ تعى المسلمات التأكيد النسوى على أن النساء اللاتى يغطين أجسادهن؛ ليساعدوا الرجال على عدم التشتت الذهني، يقبلن فكرة ذكورية تخفى وراءها تضحية نسائية بالذات من أجل الرجال، ولكن النساء اللاتى قابلتهن في المقابلات الشخصية لم يتفقن مع هذا التخريج، فهن يعتقدن أن النساء شقائق الرجال وأخواتهم في الدين، ولم يجدن غضاضة في أن تساعد النساء الرجال على أن يرتقوا بسلوكهم الدينى، حتى إن احداهن رأت أن الحجاب منفعة للرجال والنساء جميعًا، إذ يحمى النساء من الاهتمام الذكورى «غير المرغوب»، ويعين الأزواج على عدم الانجذاب لغير زوجاتهم، وتساءلت «إذا أردنا مجتمعًا سليمًا، عادلًا، فلماذا لا يعين بعضنا بعضا؟». وترى بولوك الميزة الثالثة للحجاب في أنه يحمى النساء، بقولها « اذ أن معظم المتحدثات ممن أجريت معهم المقابلة الشخصية يرين في الحجاب شكلًا من أشكال الحماية للمجتمع، رجالًا ونساء، تؤكد إيلين فكرة الحماية في فهمها للحجاب: ملبسى لا يكتمل دون غطاء رأسي، أي حجابى.. وهكذا لم تعد تعانى من أصوات الصفير وكلام المعاكسات في الشارع، وتُعد إيلين الحجاب نعمة، وهى تشعر براحة حقيقية عند ارتدائه». وحول الأسباب التي دفعت المسلمات إلى التحجب، تقول كاثرين أن أكثر ظواهر العودة إلى الحجاب عنفًا في القرن العشرين هي تلك المرتبطة بحركات الكفاح الثوري المناهض للاستعمار، إذ كان اتخاذ غطاء الرأس يعنى أن هذه المرأة ضد الاستعمار أو ضد الحكم النخبوى المتعاطف مع الغرب وكل ما يرمز إليه. وأردفت: «من الواضح أن جزءً الا يتجزأ من الاحتجاج السياسي ضد التغريب والعلمنة هو الاقتناع بأن الإسلام نظام سياسي واجتماعي واقتصادي بديل، وقد شملت هذه الحركة الدولية نداءات للرجال والنساء أن يلتزمن شروط الزى الإسلامي. وقد قررت نساء كثيرات ارتداء الحجاب استجابة لهذه الدعوات». وهناك دراسة للمرأة القاهرية، وجدت أن مرتديات الحجاب والنقاب يعددن التحجب إشارة إلى الهوية الدينية، على عكس اقتناع غيرهن بأن التحجب ليس فرضا. كما وجدت الدراسة أن للسن والطبقة الاجتماعية أثرًا مهمًا على درجة استقبال الرسالة الإسلامية الجديدة، فقد وجدت ارتباطًا عكسيًا بين التحجب والسن، فالأصغر أقرب إلى ارتداء الحجاب من الأكبر سنًا، والطبقات المنخفضة الدخل أقرب إلى التحجب. ومن الموضوعات الشائعة حول الجانب الإيجابى للحجاب، قالت الكاتبة «حسب ما يذكره النساء اللاتى يرتدينه، أنه يعنى أن يُعامل النساء حسب «شخصياتهن وعقولهن»، ولا يُعاملن بوصفهن كائنات جنسية، كما يمنع الحجاب تقويمهن من خلال المظهر». كما أن هناك سببًا آخر لارتداء الحجاب لا سيما عند المسلمات في الغرب، وهو إعلان الهوية الشخصية، وهذا ما وجدته كارمن كاير في مقابلاتها الشخصية للمسلمات الهندوباكستانيات من الجيلين الأول والثانى اللاتى يعشن في تورونتو، فقد اختار كثير من نساء الجيل الثانى ارتداء الحجاب ضد إرادة أسرهن، خلافًا للنظرة السائدة في الغرب التي ترى أن الحجاب علامة قهر. وإذا كانت المسلمات في الغرب يرتدين الحجاب تعبيرًا عن الهوية الشخصية، فإن كثيرًا من السعوديات يرتدينه للسبب نفسه، فقد خلصت نستا رمزانى من مقابلاتها الشخصية مع سعوديات في العام 1985 إلى أن المرء قد يقابل نساء سعوديات، تعلمن تعليمًا أمريكيًا، ويُعلنّ بفخر أنهن يرتدين الحجاب لأنه يظهر تقاليدهن وثقافتهن الوطنية. وتحت عنوان «معنى الحجاب – رؤية الإعلام الغربي»، قالت الكاتبة الأمريكية «من السهولة بمكان إثبات الاختلافات بين الصورة النمطية التي يقدمها الإعلام الغربى لدوافع الحجاب ومعانيه؛ فالإعلام الغربى يرى الحجاب كله رمزًا للقهر، وكلمة تختزل كل فظائع الإسلام (التي تسمى الآن الأصولية الإسلامية) من إرهاب وعنف وتخلف». ليس الحجاب هو الموضوع الرئيسى في كثير من المقالات الرائجة والكتب ذات التوزيع الضخم، ولكنه يُستخدم رمزًا لمدى واسع من «ألوان القهر» يدّعى أن النساء يعانينها في ظل الإسلام، وهكذا يرتبط الحجاب بمقولات راسخة عن دونية مكانة المرأة في الإسلام، ويفترض أن الحجاب «شعارًا صارخًا على قهر الإناث» ترغم عليه النساء. وتؤكد جان جودوين أن الحجاب غير مريح في الحر، وأن ارتداءه يمكن أن يسبب الأمراض بسبب قلة الشمس. وكما رأينا سابقًا، يرتدى كثير من المسلمات في الدول الإسلامية الحجاب طواعية وعن اقتناع، ومع ذلك فإن هؤلاء النساء يصورهن أمثال ديبورا سكروجنز وجان جودوين «غبيات ومغفلات» أو مشوشات على أحسن تقدير. تنتعش الصورة النمطية السلبية عن الحجاب في محاولات الإعلام الغربى وصف ما يجرى في العالم الإسلامى من أحداث، وثمة علامات تغير في السنوات الأخيرة مع نشر صحف بارزة عددًا أكبر من المقالات الإيجابية من منظور المسلمات المحجبات. وانتهت الباحثة إلى أن الحجاب في مجمله سلاح ضد سلعنة الجسد الأنثوى، قائلة تحت عنوان «الحجاب والتدين»: نظريتى الإيجابية عن الحجاب إنه أداة تقوى المرأة على المقاومة في الثقافة الرأسمالية الاستهلاكية للقرن الواحد والعشرين، بما فيها سلعنة الجسد الأنثوي، وأقول إن الحجاب لا يخنق الأنوثة، ولا يدل على غياب الاختيار، والحجاب أمر ديني، إذا ارتدته المرأة احترامًا للدين، فإنه يمثل لهن بوابة دخول إلى الدين الإسلامي. واختتمت بالقول « كان كتابى محاولة لتقديم قصة أخرى عن الحجاب: قصة نساء مثلى يجدن السكينة والسعادة في الإسلام، نساء لا يعتقدن أن الإسلام يقهر النساء، أو أن الحجاب يكبتهن.. كتابى هذا محاولة لفتح خطوط اتصال مع من يريدون أن يسمعوا، وهو طلب أن تُعامل المسلمات اللاتى يسعدهن ارتداء الحجاب باحترام، وأن يُستمع إليهن بأدب.. ينبغى أن نكون قادرين على الاختلاف، ومع ذلك نظل شركاء في هذه القرية الكوكبية.