يُقال إن "التاريخ يكتبه المنتصرون"، ونحن سننتظر تاريخ ما بعد الجولة الثانية لرئاسيات فرنسا 2017 حتى تكتمل صورة مسلسل انتخابات مثيرة لا تخضع لمعايير ميكانيكية، بل إن عنصر المفاجأة يُواصل إثارة ذهولنا جميعا. فالطريق الى قصر الإليزيه بباريس محفوف بالمخاطر والمفاجئات، ولازال يُخلف وراءه ضحايا من عيار كبير، كنيكولا ساركوزي الذي اعتزل السياسة وآلآن جُوبي، بعد خسارتهما في تمهيديات حزب وسط اليمين في نوفمبر 2016. وهي تمهيديات انتخابية عرفت تغطية إعلامية كبيرة؛ حيث وقًع حوالي أربعة ملايين 4 ناخب على "شهادة ميلاد" فرانسوا فيون كمرشح لوسط اليمين الفرنسي في رئاسيات 2017، الذي تعهد بإعادة تنظيم وسط اليمين وإعادة الثقة إلى الناخبين بعد فضائح ساركوزي. لكن فيون، صاحب "البرنامج الثوري والصادم "، سيتعثر مسيره نحو الإليزيه بنشر فضيحة استغلال النفود بالتوظيف الوهمي لزوجته، ثم لابنيه! ورغم نفيه لكل الوقائع واعتبارها من وحي الخصوم، إلا أن هذا الحادث قلص كثيرا من حظوظه بالفوز وأفقده المصداقية لدى العديد من الناخبين الفرنسيين... وتشاء الأقدار أن يذوق فيُون من كأس آلآن جوبي نفسه عندما أثار أثناء تمهيديات نوفمبر 2016 قضية التوظيف الوهمي في بلدية باريس التي كان بطلها آلآن جوبي! من جهة أخرى، يرى العديد من الملاحظين أن فرانسوا فيون، اليميني المحافظ الملتزم بالقيم الكاثوليكية والعائلة الكلاسيكية، قد فقد الكثير من وزنه السياسي ومن مصداقية خطابه بعد نشر الصحافة لغسيل عائلته، بل هناك من طالبه بالانسحاب من سباق الرئاسيات. فهل سيُغامر حزب وسط اليمين بتشبثه بفرانسوا فيون ممثل تمهيديات 2016 رغم ضجة فضيحة الوظائف الوهمية أم سيتم تعويضه بآلآن جُوبي صاحب المركز الثاني في تمهيديات نوفمبر أم سيتم استدعاء ساركوزي من جديد رغم اعتزاله للسياسة؟ في المقابل، لم تعرف تمهيديات اليسار الفرنسي (يناير 2017) الزخم الإعلامي نفسه والاهتمام ذاته للرأي العام بتمهيديات وسط اليمين؛ حيث لم يتجاوز المشاركون مليونا ونصف المليون، الشيء الذي برره أكثر من ملاحظ بتأثير حكومة فرانسوا هولاند اليسارية، وتسليم اليسار بحظوظه القليلة للمرور إلى الجولة الثانية في 6 ماي 2017. تمهيديات اليسار أطاحت بإيمانويل فالس رئيس الحكومة السابق أمام الشاب بينوا هامون، وزير التعليم السابق في حكومة هولاند، وسيكون إذن هامون مُمثل اليسار في رئاسيات 2017 الذي اختار الرفع من دقات قلب فرنسا كشعار لحملته الانتخابية، وعلى الرغم من أن أغلب التوقعات تجمع على توقف سباق بينوا هامون في رئاسيات فرنسا عند جولة 23 أبريل، فإن طموحه هو توحيد الأسرة اليسارية. من جهة أخرى، تُعْتبر ماري لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية، مرشحة قوية للجولة الثانية من رئاسيات فرنسا؛ لذلك فهي لا تكل من تحديث شعارها وبرنامجها الانتخابييْن. فمارين لوبان، ومنذ 2011، عملت على إحداث قطيعة مع كل الأفكار الراديكالية لوالدها جون ماري، ورفعت شعار ثورتها الشعبية ضد حكومات النُخب! وقد استغل كل من اليمين واليمين المتطرف الضربات الارهابية بفرنسا، آخرها متحف اللوفر (فبراير 2017)، وأيضا تداعيات الأزمة الاقتصادية ومشكل الاندماج، لإطلاق شعارات شعبوية وعنصرية تخُص الهجرة واللجوء والاسلاموفوبيا وتقليد بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، وأيضا توسيع تحالفات اليمين المتطرف في دول أوروبا وأمريكا. ولتأكيد القطيعة مع أفكار والدها، فقد اكتفت في ملصقاتها الانتخابية بكتابة اسمها فقط، "مارين"، دون اسم والدها، "لوبان"، كما تبنت شعارات اشتراكية كحماية حقوق العمال والرفع من الحد الأدنى للأجور ومحاربة جشع الوحدات امتعددة الجنسيات. ونحن هُنا نتساءل عن تعريف المواطن لدى السيدة مارين؟ وهل سيشمل أيضا الفرنسيين من أصول مهاجرة؟ ستظهر في ملصق حملة مارين "وردة الاشتراكيين" لكن باللون الأزرق، فهل في الأمر مُغازلة للناخب اليساري الغاضب من سياسة فرانسوا هولاند؟ من جهة أخرى، فقد تضمن برنامج مارين "144 التزاما" من أجل فرنسا حرة، آمنة، آملة، عادلة، فخورة، قوية ودائمة! الأكيد أن كبش الفداء الانتخابي، لا بالنسبة لبرنامج اليمين ولا خطابات اليمين المتطرف، سيكون هو الجاليات المسلمة بفرنسا، وسيكون هو الطبقة الوسطى الفرنسية. وأمام عدم اقتناع الناخب الفرنسي بإجابات الأحزاب الكلاسيكية من خلال برامج مُرشحيهم؛ أي فرانسوا فيون وبينوا هامون ومارين لوبان، فكان لابد من طريق ثالث؛ بحيث لا يجب أن يكون فقط اليسار أو اليمين بل يجب أن يكون الفرنسيون أيضا. وهو الشعار الذي رفعه مانويل ماكرون (39 سنة)، وزير الاقتصاد السابق في حكومة هولاند، الذي أعلن إفلاس كل من اليسار واليمين، بل إنهما لا يعنيان أي شيء ولا وجود لهما، وأنهُما وجهان لعملة واحدة، وأشهر خصومته السياسية ضد الأحزاب السياسية الكلاسيكية وضد شعبوية عائلة لوبان. مانويل ماكرون، وحركته "ماضون قُدُما"، لقي صدى إيجابيا لخطابه الصريح لدى العديد من الغاضبين، سواء من اليسار أو اليمين أو من جمهور المقاطعين؛ لذلك قيل بأن حركة "ماضون قُدُما" نشأت في حُضن اليسار وتأكل أصواتا من صحن اليمين. ولهذا لم يتعجب المراقبون من آلاف الحضور (أكثر من 16 ألفا) خلال مهرجانه الخطابي بمدينة ليون العمالية، وفي مقدمتهم اليساري جيرار كولومب، عمدة المدينة، في فبراير 2017؛ حيث طيلة ساعتين تجاوبت انتظاراتهم مع خطاب ماكرون، مما جعل منه "ظاهرة" رئاسيات 2017 ومرشحا بقوة للجولة الثانية أمام مارين لوبان. ويسعى ماكرون إلى أن يكون هو من يُمثل الطريق الثالث أو البديل بعد إفلاس كل من اليسار واليمين؛ لأن الناخب الفرنسي يحتاج الى التغيير والأمل، ولأن جمهور "حزب المقاطعين" متعطش لوجوه جديدة ولخطاب سياسي جديد يُلامس انتظاراته. ويبدو أنه، وإلى حين حُلول موعد جولتيْ 23 أبريل و6 ماي من رئاسيات فرنسا، فإننا سنعيش العديد من المفاجئات التي لا تحتكم إلى قواعد ميكانيكية؛ لأن السباق نحو الإليزيه يُشبه السباق فوق رمال متحركة! وتظهر صعوبة التكهن بمن سيكتب تاريخ النصر في نهاية صراع سياسي مُتجدد عند كل تمرين ديمقراطي، لكن الجديد هذه المرة أن الصراع ليس بين أحزاب كلاسيكية، بل بدخول حركات احتجاجية إلى الساحة السياسية كحركة خمسة نجوم بإيطاليا، وبوديموس في اسبانيا، وأخيرا حركة "ماضون قُدُما" لماكرون في فرنسا. إذا فعلها ايمانويل ماكرون وفاز برئاسة الجمهورية الفرنسية في ماي 2017، سيحق له كتابة صفحة جديدة في التاريخ كمنتصر أولا، وكقادم من حركة احتجاجية وليس حزب سياسي بخلفية ايديولوجية ثانيا، وأخيرا سيكون قد نجح فيما فشل فيه الآخرون. ننتظر مع غيرنا إعلان المنتصر في الرئاسيات الفرنسية لسنة 2017، وننتظر معه قراءة جديدة للتاريخ!