عزيزي مارك، في رسالتك الأخيرة**، ليوم الاثنين المنصرم، دعوتنا إلى تحسين سلوكياتنا والقيام بما يتطلب منا ويتحتم علينا كمواطنين في هذا البلد، أعني المملكة الهولندية، أما إذا تعذر ذلك واستمررنا في غينا وزيغنا، فما علينا إلا أن نرضخ للأمر الواقع وأن نجمع حقائبنا ونغادر أرض الوطن.. ذهبت إلى القول بأنك تنزعج كثيرا، إذا استغل هامش الحرية المتوفر لجميع المواطنين في دولة ديمقراطية كهولندا، للقيام بأعمال مشينة تعكر صفو المجتمع وتكدر نقاء وسعادة حياتنا وراحتنا. أجزم بأنك تقصد طبعا مجموعة المواطنين الهولنديين من أصول تركية، الذين خرجوا في مظاهرات إلى الشوارع للتعبير عن ولائهم ودعمهم اللامشروط للرئيس التركي الطيب أردوغان. وبما أنك مؤرخ، فإنك تعلم أكثر مني بأن التظاهر مثل الخط الأحمر في تاريخ مجتمعاتنا؛ فالذي يتظاهر بهدف الدفاع عن قضاياه كائنا من كان، ولعمري إنه من أعلى مراتب الاندماج. ربما تنزعج بعض الشيء لهؤلاء الهولنديين من أصول تركية، كونهم يتظاهرون لقضايا تتعلق بوطنهم الأم؛ لكننا لا نراك تنزعج عندما يتعلق الأمر بالهولنديين اليهود، الذين يناصرون قضاياهم في دولة إسرائيل، وبذلك لا تعدهم ضمن فئة غير المندمجين في مجتمعاتنا. كما أنه، حسب ما يبدو لي، أنك غير راض بشأن موقف مجموعة تنتمي إلى مجتمعنا وفي الوقت نفسه رافضة لقيمنا وعاداتنا، فدعنا نواجه الأمر بأكثر شجاعة، ونقلص من أعدادهم بمئات الآلاف التي ستشمل الجيل الأول والجيل الثاني والجيل الثالث من الهولنديين، الذين استقروا وأضحوا مواطنين كاملي المواطنة، يبذلون قصارى جهدهم للمساهمة والمشاركة الفعلية في مجتمعهم، وبذلك سيحصل الشهرة لرئيس وزرائهم بتحقيق هذه الإنجازات. أثبتت مجموعة من البحوث أن الأقليات متى ما سمح لها ومكنت من ممارسة بعض عاداتها وحافظت على هويتها، أسهمت بشكل أكثر في تنمية مجتمعاتها. لقد نجحت في تشخيص الداء، فالمجموعات السكانية التي يصعب إدماجها في مجتمعاتنا، ينبغي أن نجد لها حلولا عاجلة. ومن هذه الحلول، التي تقدمتم بها، طرد هذه المجموعات دونما شرط أو قيد؛ لكنني أخال أن لنا تجارب مشينة مع عملية الطرد هاته. تجاربنا مخجلة في هذا المجال، إذ إن مجموعة الشباب الهولنديين الذين التحقوا بداعش يشكلون اليوم خطرا حقيقيا على شعوب الدول العربية، وعلى مجتمعاتنا في حالة عودتهم. لذا فقد أنشئت أجهزة ماكنات استخباراتية ضخمة، بغرض متابعة تحركات هؤلاء الشباب، ويوما بعد يوم نشهد تقليص حرياتنا نحن كمواطنين أوروبيين، جراء هذه الإجراءات. لذا، فإنني شخصيا أرى أن هذه الحلول غير ناجعة البتة. -لماذا تشهد الأقليات الصينية بهولندا تحقيق نجاح باهر على كل الأصعدة والمستويات؟ أود في البداية أن أقرر مسلمة مفادها أننا نتحمل المسؤولية الكاملة تجاه هؤلاء الشباب الذين التحقوا بالدولة الإسلامية، فلو أن مجتمعاتهم أتاحت لهم فرص العيش كمواطنين أصليين، ومكنتهم من مزاولة حقوقهم المشروعة وواجباتهم كسائر المواطنين، في الدول الديمقراطية التي تحترم حقوق الإنسان، لما غادروا بلدهم وبذلك كنا قد أسهمنا بتقديم بدائل حقيقية بدل تقديمهم كبش فداء. إنني منهمك على إعداد سلسلة من المحاضرات في هذا الباب، لذا أتقدم بطلب دعوتكم إلى الحضور معنا، ولو لمرة واحدة. وما دمنا بصدد الحديث في موضوع الاندماج، الذي تضمنته رسالتكم، التي وصلتنا ليلة واحدة قبل صدور تقرير بيت الحساب العام حول تقييم دروس المواطنة، الذي خلص إلى أن النتائج كانت كارثية للسياسة الفوقية التي اعتمدتموها طيلة هذه السنوات الأخيرة. وبهذه المناسبة، أود أن أؤكد على ضرورة إعادة النظر في سياسية الاندماج التي نهجتها الحكومات المتعاقبة، والدفع في اتجاه التشجيع على الاعتماد على القدرات الذاتية للمشاركة في الحياة العامة. وكما يبدو لي، سنعمل معا على طرح ما أسميتموه "طريقة عيشنا" في شكل عقد اجتماع، ونطلب بعد ذلك من مختلف الأقليات أن يستعملوا ثقافاتهم كعصى نجاة، إذ تغدو الثقافة بناء على هذه المقاربة أقرب إلى المحفز على المشاركة في مجتمعاتنا على أساس من القبول والاحترام المتبادل. كما تجدر الإشارة إلى أن هذه الوصفة المقارباتية سبق أن أتت أكلها في موضوعات وقضايا تتعلق بقضايا حقوق الإنسان. أضحى المجتمع الصيني بهولندا مثالا يحتذى في هذا المجال، فالصينيون في هولندا يحتلون المراتب الأولى مقارنة مع كل الفئات الاجتماعية الأخرى، بمن فيها الهولنديون الأصليون، وبخاصة فيما يتعلق بالنجاح على المستوى الاقتصادي والأكاديمي. وهذا لم يتحقق نتيجة إمضاء عقد مشاركة في دروس المواطنة أو الاندماج التي تفرضها الدولة على القادمين الجدد، بل نتيجة الإخلاص والتفاني للقيم الصينية الأصيلة التي تحث على العمل الجاد والشغف بروح المقاولاتية وحب المعرفة والاعتماد على الذات. بالاعتماد على هويتهم الثقافية والحضارية تمكن الصينيون من إيجاد مكانة محترمة لا يستهان به داخل المجتمع الهولندي. لا ينبغي كبت الوازع الديني لدى المسلمين بالاعتماد على المقاربة سالفة الذكر نفسها، فإنك ستجني الثمار نفسها بشأن المسلمين في هولندا. بالنسبة إليهم فإن الدين يكاد يكون الحافز من الدرجة الأولى، في عملية الاندماج، فعلى الرغم مما يعتري هذا الكلام من مفارقات، فللسهر على عملية اندماج المسلمين بشكل لائق وصحيح، وجب ضرورة تمكينهم من حرياتهم في مزاولة شؤونهم التعبدية دون ضغوط ما، تحجمهم عن أدائها أو ممارستها. هذا يسري أيضا على تمكينهم من حقوقهم المشروعة في تأسيس المدارس الإسلامية، والكف على الترويج للأطروحة السائدة، التي مفادها أن تلاميذ هذه المدارس أقل جاهزية وقدرة من غيرهم على خوض غمار الانصهار في المجتمعات الحديثة، فبمجرد ما تمنح الفرصة للتلاميذ لتطوير هويتهم الذاتية في مجتمع تسوده الثقة، تجدهم يحرزون نجاحات باهرة في المجتمعات التي تستوعبهم. وفي بعض الحالات التي تكون هذه المدارس في حاجة إلى مساعدة أو دعم أو تشجيع، فتقتضي الأعراف أن يتم مساعدتهم؛ لكن دعنا لا ننسى أن المدارس الإسلامية تحقق نتائج أفضل مقارنة بالمقارنة مع باقي المدارس الأخرى، فيما يتعلق بالامتحانات الوطنية والتوجيهية. إن فكرة الاندماج بالاعتماد على القدرات الذاتية تنسجم والأطاريح المؤسسة للثقافة الليبرالية. لهذا، أتقدم لدعوتك إلى النظر في هذه الأفكار والعمل بها خلال رئاستك للحكومة المقبلة التي أتمناها لك بصدق. مع تحياتي الليبرالية، توم زفارت. *توم زفارت: عضو الحزب الليبرالي الذي يرأسه رئيس الحكومة الهولندية الحالي مارك روتا، أستاذ جامعي في مدينة أترخت لمادة حقوق الإنسان، بناء على طلب من خيرت فيلدرس، رئيس حزب الحرية اليميني المتطرف، شارك كشاهد وخبير أثناء عملية محاكمته. **الرسالة هاته وجهها رئيس الحكومة الحالي مارك روتا عن الحزب الليبرالي إلى كافة الهولنديين؛ وذلك يوم 22 يناير 2017.