أصبحت مواضيع الامتحانات الإشهادية تعرف في السنوات الأخيرة متابعة منقطعة النظير للتطور التكنولوجي لوسائل الاتصال التي يسرت هذه العملية، فأصبحنا نجد نسخا من هذه الامتحانات دقائق بعد تمرير الامتحان وأحيانا قبل تمريره، في ما يعرف بالتسريب الذي أصبح يقض مضجع المسؤولين عن الشأن التربوي وطنيا وجهويا وإقليميا ومحليا (وليس هذا موضوعنا الآن)، وتأخذ هذه المتابعة وجها آخر ذا طبيعة موضوعاتية تهتم في الغالب بمضامين هذه التقويمات التربوية، كما هو الشأن بالنسبة للامتحان الموحد الجهوي لمادة التربية الإسلامية دورة يونيو سنة 2015 بجهة سوس ماسة درعة الذي أثار موضوعه ردود فعل كبيرة دفعت اللجنة الجهوية المشرفة عليه إلى تقديم اعتذار للرأي العام (ليس هذا موضوعنا مرة ثانية)، والامتحان الموحد المحلي لمادة اللغة العربية بإحدى مؤسسات التعليم العمومي بمديرية تزنيت لدورة يناير 2017 (هنا مربط الحصان). ولعل أهم المآخذ على الامتحان الأخير، بحسب وجهات النظر المنتقدة له، هو إيغاله في التطرف والإشادة بالإرهاب بالنظر إلى الكم الهائل من الألفاظ والعبارات الدالة على تيمة الحرب، دونما مراعاة لنفسية التلميذ الذي سيجد نفسه بحسب هذا الرأي يخوض غمار حرب بدل الإجابة على أسئلة الامتحان!! أما بخصوص المؤسسات التي تفاعلت مع القضية، نشير إلى الجهة المسؤولة عن القطاع بالإقليم، ويتعلق الأمر بالمديرية الإقليمية للتربية والتكوين، من جهة، بإدلاء المسؤول الأول برأيه معتبرا أن هذه الضجة بعيدة عما هو تربوي صرف وترتهن لخلفيات سياسية محضة، ومن جهة ثانية بإيفاد لجنة تربوية إلى المؤسسة المعنية للتقصي في النازلة، بينما نجد من الهيئات الجبهة الوطنية لمناهضة التطرف والإرهاب بالمغرب، التي لم تبتعد وجهة نظرها عن "دعشنة" نص أدبي. من المؤكد أن المتتبع لهذه القضية يقف على تكتل كبير حول الانحياز إلى موقف "الدعشنة" والدعوة إلى الإرهاب والتطرف استنادا بالأساس إلى الكم الهائل من العبارات التي فصلت من سياقها لتخدم الموقف المعبر عنه (نترك للقارئ عملية إحصائها)، ويصبح النص مجردا من موضوعه الدال أساسا على عملية الإنقاذ والإغاثة لأحد عناصر منظمة الخوذة البيضاء خلال مجزرة حلب السورية تحت قصف الطائرات الروسية، وسقوط البراميل المتفجرة على رؤوس المدنيين العزل الذين يعانون ويلات الحرب، ويقاسون دمارها وآثارها الوخيمة ماديا ونفسيا أمام تنكر المجتمع الدولي لمسؤوليته الأخلاقية والمعنوية تجاه المدنيين الأبرياء، ويكفينا دليلا هنا بالطريقة نفسها استنطاق بعض العبارات والجمل الدالة على هذا المقصود: توجب عليّ القفز من سريري إلى موقع آخر هجوم بغية تقديم المساعدة في أعمال الإغاثة والإنقاذ... أهرع إلى المكان المستهدف، فأبحث مع بقية فريق الانقاذ، وبما توفر لدينا من معدات بسيطة، عن ضحايا القصف خصوصا وأني أصبحت خبيرا في تمييز العمق الذي توجد فيه الضحية... نجتهد في انتشال جثت الضحايا أو إخراج الناجين العالقين تحت الأنقاض، لننقذهم من براثن الموت إلى المستشفيات القريبة أو المناطق الآمنة بعيدا عن القصف الوحشي... أتألم لسماع عويل الثكالى وصراخ المستغيثين فلا يغادر مسمعي ولا ينسيني قساوة ذلك الإحساس إلا صورة المنكوبين وهم يحتضنونني بقوة وفرح بعد انقاذهم من تحت ركام منازلهم وقد بعثوا إلى الحياة من جديد... قبل أسبوعين سمعنا نداءات استغاثة عبر اللاسلكي، وكالعادة وصلتُ بعد فتح المعابر والمسالك... صعقت وتملكني الذعر عند رؤيتي جثة شاب ملقى على بطنه مصابا إصابات بليغة في أماكن متفرقة من بدنه، قلبته بأيد مرتعشة لأرى وجهه فإذا هي جثة ولدي. تلك كانت أصعب لحظات حياتي... بعد هذا الجرد نترك لهواة المنهج الإحصائي المقارنة بين نسبة تلك العبارات المجتزأة من بيئة النص وسياقه، وهذه الأخيرة التي تغطي مساحة كبيرة منه. وهنا نطرح السؤال: لم تم غض الطرف عن هذا النوع من العبارات والجمل الدالة بقوة على قيمة إنسانية أصبحت تفقدها مجتمعاتنا: قيمة التضحية بالذات لإنقاذ الآخر وإغاثته؟ مما يعني بصيغة أخرى أن إثارة هذا الموضوع تمت بعيدة عما هو تربوي. ولتعميق هذا البحث لابد من الالتفات إلى طبيعة الأسئلة المذيلة بالنص؛ ذلك أن من شأنها التعبير بشكل صريح عن نوايا واضع هذا الامتحان: هنا لا نجد أي سؤال من أسئلة الفهم والتحليل والتركيب يثني على التطرف أو يشيد بالإرهاب، بل على العكس من هذا نجد السؤالين الأخيرين من مكون النصوص يدعوان المتعلم إلى تحديد نموذجين من حقوق الإنسان المنتهكة ( السؤال السابع) بهذه الصيغة: استخلص من النص نموذجين من حقوق الإنسان المنتهكة، بينما السؤال الثامن يحيل إلى تيمة النص الدالة على التضحية والتطوع للإغاثة ويدعو المترشح إلى التعليق عليها: علّق على دور البطل المتطوع للإنقاذ في حدود سطرين. أما بخصوص مطالب الدرس اللغوي فنعرض الجمل المقتطفة من النص المرتبطة بالتعليمات الموجهة إلى المتعلمين على الشكل التالي: الشكل: غارة عسكرية /المتناثرة أشلاؤهم. التحويل مع توظيف اسم الزمان: حان وقت انطلاق الصاروخ القاصف. استخراج الاسم المنسوب من الجملة: المقاتلات الروسية تقوم بذلك بدلا عني. الإعراب: المحروقة أجسادهم / مدينتي البئيسة. من الواضح أن دلالة هاته الجمل بشكل مستقل أو داخل النص لا تحرض على أي عنف ولا تمجد الفكر "الداعشي" المتطرف، بل تتحدث عن أجواء الحرب ونتائجها في سوريا. ولنا في الكتب المدرسية المقررة بهذا المستوى (الثالثة إعدادي)، والصادرة عن الوزارة الوصية، الكثير من مثيل هذه العبارات والمفردات المعجمية المشحونة بعنف الحرب لكنها لا تدعو إليها، ولو تم اقتطاعها من سياقها ولي عنقها لأدت مقاصد كثيرة هي بريئة منها وبعيدة عنها، ونورد هنا بعض النماذج: من كتاب الأساسي في اللغة العربية وهو الكتاب المقرر بالمؤسسة: النموذج الأول: نجد في هذا الكتاب نصا شعريا لمصطفى المعداوي معنونا ب: فداء (على لسان شهيد)، فلو اقتصرنا على دلالة العنوان لأمكننا تحميلها الكثير من التحريض، خاصة مفردتي (فداء/ شهيد)، ألا يمكن فهم أن الفداء والاستشهاد من أجل جماعة متطرفة إرهابية داعشية؟ ويعزز هذا الفهم ما ورد في النص: رُحْتُ أذود بِكفِّي السلاح/شهيد البطولة...الخ، فالفرق كبير بين في كفي غصن زيتون وبين بكفي السلاح، لكن السؤال الأهم هو هل هذا الفهم هو المقصود من النص؟ أبدا لأن هذا النص الشعري يتغنى بقيمة الدفاع عن الوطن. النموذج الثاني: على هذا المنوال لنقرأ المقتطفات الآتية من المرجع نفسه، وهي للإشارة للكاتب مصطفى البرغوثي: ''استشهد أكثر من 696... في الخمسة عشر يوما الأخيرة، كما وصل عدد الجرحى إلى ما يقارب 23 ألفا... وهو ما تساوي نسبته تسعة أضعاف عدد الذين قتلوا في الاعتداءات التي وقعت في الولاياتالمتحدة... متورطة في عملية تطهير عرقي... فأكثر من58 بالمائة... الذين استشهدوا... وقد ارتفعت هذه النسبة إلى 90 بالمائة، مما يعني أن الأغلبية الساحقة قتلوا... تجمع ما بين عدة وسائل لإنزال أقصى أثر مميت...، وهو ما يمكن رصد من خلال نمط الإصابات التي يعانيها... ستقود بالضرورة إلى استنتاجات خطيرة تشير إلى أن 99.4 بالمائة... الذين قتلوا بالذخيرة الحية أصيبوا في القسم العلوي، مما يشير في الأغلب إلى الرغبة في إحداث إعاقات... يطبق سياسة التصويب بهدف القتل، فإطلاق النار على القسم العلوي من أجساد مواطنين يمارسون حياتهم الطبيعية... الهادفة إلى القضاء على الإنسان...'' نكتفي بهذا القدر من هذا النص لنطرح هذا السؤال: ألم يؤد التصرف في النص باختيار هذه العبارات دون غيرها إلى تغييب موضوعه الأساسي؟ ذلك أن الاكتفاء بهذه الأمثلة يجعل النص يشيع ثقافة الحرب والتفجير... الخ، في حين إن الفهم السليم للنص ككل يشير إلى رصد آثار سياسية التطهير الإسرائيلي في فلسطين. النموذج الثالث: لننتقل إلى نموذج ثالث من الكتاب المدرسي نفسه، ويتعلق الأمر بنص للروائي المغربي مبارك ربيع، ونأخذ منه بعض العبارات فقط: جاءت معركة بوشنتوف لتعوض خسارات الفدائيين فيمن قبض عليهم او استشهدوا.../ يَذكر كل ما جرى بين الفدائيين وأعدائهم .../ يتحدث عن إصابات الأعداء كما يتحدث عن إصابات المباراة.../ ... إلى مخبأ آمن / ... هو وكل المطاردين حاليا.../ عمله في المنظمة السرية.../ لقاءاته الأولى بالفدائيين ..الخ''، بعد هذا الابتسار لما جاء في النص، ما الذي تبقى من بطولة الزرقطوني وشجاعته التي يمررها النص إلى المتعلمين ومقابل ذلك ينتج عن الاقتصار على بضعة جمل يمكن تحميلها أي تأويل قريب من الإرهاب والتطرف؟ من كتاب مرشدي في اللغة العربية وهو كتاب في مديريات أخرى: النموذج الأول: نكتفي هنا بعنوان نص لمبارك ربيع ''الفداء.. حتى النصر''، ألا يمكن هنا الزعم بأن النص يحرض على العنف ويشيع الذعر والخوف في المجتمع؟ كيف لا وهو يتحدث عن الفداء حتى تحقق النصر الذي قد يعتبر شعارا لواحد من التنظيمات الإرهابية؟ النموذج الثاني: نزاوج فيه بين دلالة العنوان الصريحة ''صور عن الحرب والناس''، وبين هذه المقتطفات: ''كثرت صفارات الإنذار ليلا ونهارا، ولكن لن تقصف المدينة، ثم تحرجت الحالة الحربية بتوالي تقدم قوات المحور... وبلغ التحرج منتهاه بتقدم القوات المعادية/ ما عسى أن يفعل أحدكم لو هبط عليه جندي من أولئك الجنود.../ الألمان إذا هجموا على بلد انتشروا في كل مكان، وتخفوا في كل زي/ وبغتة أطلقت صفارات الإنذار/ هرعوا إلى طريق المخبأ.../ وخاف كثيرون أن تحدث غارة عنيفة مدمرة كالتي تسبق الهجوم/ ومر ثلث ساعة في ذعر واضطراب وانتظار، هو التعذيب عينه/ تهامس الناس بالغزو...''. هل يمكن أن نقول هنا إن الروائي نجيب محفوظ يناصر الاجتياح الألماني لمصر؟ وهل يشيد بالنزعة النازية الهتليرية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب هل يمكن أن نحاسب المؤلفين لهذا الكتاب المدرسي على إدراجهم وجهة نظر مخالفة للتوجهات الرسمية للدولة؟ لا يمنك بتاتا لأن الدلالة العامة لهذا النص الأدبي عامة لا تقول بذلك، ولكن إعمال المباضع والمشارط فيه استجابة لأية نزوة تجعله كذلك. النموذج الثالث: نقتصر فيه على توصيف محمود تيمور للحرب ب ''كلمة الحرب/ الويلات/ أوقات الحروب/ الهمجية والتوحش/ شريعة الغلبة للأقوى/ الحرب التي نتوقعها أو نتمثلها مقبلة/ الذرة والنواة/ مَحْقُ البشرية وإذلالها/ أداة لفض المنازعات...''. فإلى إي حد تعكس العبارات موضوع النص وهو الأمل في عيش بسلام وأمان؟ إن الأمر لا يتحقق إلا بقراءة النص كاملا، مما يجعل مسألة الاعتماد في الفهم والتأويل على ما يعزز موقفا معينا غير بريئة بتاتا؛ لأنها تخدم الخلفية المتحكمة في القراءة. من كتاب المختار في اللغة العربية وهو كتاب مقرر في مديريات أخرى: النموذج الأول: يتصل الأمر بنص شعري للشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي سنجرب أن نجتزئ منه ما يخدم فهما غير سليم: حديد سلاسلي/ ميلاد عاصفة/ صورة قاتلي/ والفاتحون على سطوح منازلي/ صرير سلاسلي... وغيرها من الوحدات اللغوية التي تسعفنا في ربط النص بالانتصار إلى العنف والتحريض عليه، وغيرها من المصطلحات التي لا يشير إليها النص لا من قريب او بعيد. النموذج الثاني: للكاتبة الفلسطينية زينب حبش، ولنخضع نصها الجميل لمقص الايديولوجيا العمياء التي ستتوجه حتما إلى مثل هذه العبارات: لقد أطلقت النار على المتظاهرين/ أعرفُ أن الطفل مات... وهذا ما يجعلني أشعرُ بالسعادة. تصورتُ وأنا أصوب بندقيتي إلى قلبه أنني أدافع عن ابني/ مات وأرحتك من شره/ المهم أن قلوبهم فيها كراهية. فهم يكرهوننا/ الأراضي المحررة/ أبي يكره الأطفال/ يطاردهم بالبندقية والهراوة/ إذا كان يكرههم... فهو يكرهني. فأنا طفل مثلهم/ رأيت الجنود يطاردونهم ليقذفوهم بالقنابل وليطلقوا عليهم الرصاص/ أنتم تحملون السلاح وهم لا يحملون شيئا... الخ ''. لا ريب أن هذا يعكس عنف اللغة ولغة العنف، لكن هل العنف هو غاية الكاتبة والمسعى الذي ترمي إليه؟ كلاّ لأن النص يتحدث عن تقتيل الجنود الإسرائيليين للأطفال الفلسطينيين بأسلوب أدبي حواري شيق بين جندي إسرائيلي وابنه الصغير الذي يخالفه وجهة نظرة. أحب أن اختم هذا العرض (عرض النماذج) بمقارنة بين ما جاء في نهاية النموذج الأخير الحامل لعنوان ''حوار عجيب''، زينب حبش، وبين نهاية النص الممتحن فيه، ''فلنتأمل جماعيا'' أوجه الاختلاف بين النهايتين: نهاية لعنوان ''حوار عجيب'' .. ''كان الأجدر أن أصوب رصاص بندقيتي إلى رأس ابني...'' نهاية النص الممتحن فيه .. ''تملكني الذعر عند رؤيتي جثة شاب ملقى على بطنه مصابا إصابات بليغة في أماكن متفرقة من بدنه، قلبته بأيد مرتعشة لأرى وجهه فإذا هي جثة ولدي. تلك كانت أصعب لحظات حياتي...'' نتوصل من كل ما تقدم عرضه من نماذج من المقررات المدرسية ومقارنتها بالامتحان الموحد المحلي إلى أن نص الانطلاق ينسجم من حيث الموضوع مع عدد كبير من النصوص المضمنة في المجال الثاني من الكتب المدرسية، نقصد مجال القيم الوطنية والإنسانية، بإثارته الانتباه إلى ضياع قيمة الأمن والسلم والسلام في عالم بلا خرائط تسوده الفوضى والحرب والدمار والخراب، وتأثير هذا أولا وأخيرا على الإنسان المعاصر. أما من حيث الشكل، فإننا نحيل أصحاب القراءة المغرضة على المقارنة بين محتويات هذا الامتحان وما جاءت به الأطر المرجعية المنظمة، على أمل تسييج المتابعة بما هو تربوي فحسب، فلنا هذا الركن التربوي الضيق ولكم شساعة براري المزايدات السياسية. *أستاذ اللغة العربية الثانوي التأهيلي