جنازة جديدة في بيت الصحافة الذي صار مجلس عزاء مفتوح. أمس تراءى لقاضي الاستئناف في الرباط أن يحكم على قيدوم الصحافيين المغاربة، مصطفى العلوي مدير نشر جريدة «الأسبوع»، بأداء تعويض خيالي لموظفين «أشباح» في سفارة المغرب لدى العقيد القذافي بليبيا مقداره مليون درهم (100 مليون سنتيم)، بعد أن حكمت عليه المحكمة الابتدائية قبل سنة بأداء تعويض مقداره 300 مليون سنتيم، وكأنه يدير شركة «جنرال موتورز». القاضي والذين حركوا الدعوى يعرفون أن الغرامات الثقيلة فوق رأس الصحافيين مثل توجيه فوهة مدفع إلى كوخ من طين، إذا أصابته لن تبقي ولن تذر منه شيئا، إذن سيف القضاء يريد أن يقطع رؤوس الأقلام لا أن يرد الحقوق إلى أصحابها. على فرض أن لسفارة المغرب بليبيا حقوقا لدى العلوي، الذي قدم ما يكفي من الأدلة على صحة ما كتب. الصحافيون ليسوا فوق القانون، لكنهم أبدا لن يكونوا تحت «الحذاء» تهان كرامتهم مرة بفبركة «ملفات الحق العام»، وتخرب بيوتهم تارة أخرى بالغرامات، ويوضعون وراء القضبان مثل المجرمين وقطاع الطرق، وتغلق مقرات صحفهم وكأننا في بلاد تسري عليها الأحكام العرفية. شيء من التعقل والحكمة لن يضر أحدا، في ظرفية حساسة، النار قريبة فيها من الحطب بأكثر مما تحتمل سلامة البلاد. إن محاكمة الزميل رشيد نيني بالقانون الجنائي كانت خطأ، ووضعه خلف القضبان كان خطأ، والحكم على العلوي بغرامة ثقيلة كان خطأ، وإقفال مكاتب القنوات الفضائية العربية كان خطأ، والتحكم في «أنبوب» الإعلانات خطأ جسيم، وتحويل الصحافيين من جسر للعبور نحو الرأي العام إلى كتيبة معارضة متهمة بالتخطيط للفتنة، أم الأخطاء الكارثية. إن القضاة، ومن يقف خلف أحكامهم، يبعثون برسائل متناقضة إلى الرأي العام الذي يتطلع يوم الجمعة المقبل إلى ولادة عقد اجتماعي جديد، يخرج من رحم الدستور الجديد، وإن هذا القصف المتواصل والعنيف على قبيلة الصحافيين لا يضر المهنة فقط، ولا يؤثر على أدوات الحياة الديمقراطية فحسب، بل إنه يوسع رقعة اليأس من الإصلاح، ويعطي للشاك في إرادة التغيير كل الحجج والبراهين التي يحتاجها لكي يكفر بالغد وما بعد الغد. إذا كانت السلطة في بلادنا لا تقبل ب«مشاكسة» الصحافة عندنا وهي ضعيفة وبلا أسنان تقريبا.. صحافة تضع أمام أعينها آلاف المحاذير، ويشتغل مقص الرقابة في عقول أبنائها أكثر مما يشتغل مقص الخياط.. إذا كانت السلطة لا تتقبل النقد، فكيف ستقبل الرقابة التي ستولد من رحم السلطة الرابعة عندما تصير الصحافة حرة ومستقلة، في ظل وعود التغيير التي تُسوق الآن بمناسبة الدستور الجديد. لم يمض على تعيين زميل لنا في مهنة المتاعب، خليل الهاشمي، على رأس وكالة المغرب العربي للأنباء سوى أقل من 16 ساعة، لم يتركونا نفرح بهذه الالتفاتة إلى الجسم العليل لصحافتنا، حتى حكموا على زميل آخر لنا بأداء 100 مليون سنتيم.