يوم الثلاثاء 25 مارس 2008، أصدرت المحكمة الابتدائية بالرباط حكما يقضي بعقوبة الغرامة في حق رشيد نيني مدير جريدة «المساء»، ويبلغ مقدار تلك الغرامة 120 ألف درهم، وبتعويض مدني قدره ستة ملايين درهم لفائدة النواب الأربعة لوكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالقصر الكبير، باعتبارهم ضحايا «القذف والسب العلني»، بناء على الشكاية التي رفعها كل واحد منهم في أعقاب مقال نشر بالجريدة المذكورة يفيد بتوفرها على قائمة بأسماء شبكة من الشواذ جنسيا يوجد ضمنها نائب لوكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالقصر الكبير. اعتبر جميع نواب الملك بالمحكمة المذكورة أنهم تضرروا معنويا مما نشر ب «المساء»، وطالبوا بتعويض مدني يفوق القدر المحكوم به، ومتعتهم محكمة العاصمة بالحق في المبلغ المشار إليه أعلاه. مع العلم أن الجريدة كانت في وقت سابق على صدور الحكم قد نشرت اعتذارًا عن مضمون المادة الصادرة موضوع الدعوى، وأن ما نشر أصلاً لا يشير إلى أي نائب بالاسم. ليس هناك جريدة في العالم لا تخطئ، فحتى كبريات الجرائد العالمية تضطر أحيانًا إلى الاعتذار لقرائها بسبب نشر أخبار أو مقالات تتضمن أخطاء أو إساءة إلى أشخاص أو مؤسسات أو وقائع غير دقيقة. فبالرغم من التقيد بالأصول المعروفة للتحري والبحث، فإن ظروفًا خاصة قد توجه الصحفي وجهة خاطئة، كأن يشيع بين الناس خبر غير صحيح تتناقله الألسن ويؤكده أكثر من مصدر بمواصفات متطابقة، فيجد الصحفي نفسه أحيانا منقادا إلى تكوين قناعة بأن ما وصله من معلومات يقوم على أساس كاف من الصحة. كما أن من حق أي إنسان اللجوء إلى المحاكم طلبا للانتصاف، متى أحس بأن ما نشر بهذه الجريدة أو تلك قد أساء إليه ومس بسمعته أو شرفه. لكن خبر الحكم هكذا بستمائة مليون سنتيم كتعويض يبدو للوهلة الأولى غير قابل للتصديق، وقد يتبادر إلى ذهن من يتلقاه أنه مجرد مزحة. فكيف تستطيع محكمة مغربية وهي تقدر «الضرر المعنوي» الناجم عن مادة منشورة بجريدة، أن تعتبره موجبًا لإلزام الجريدة بدفع المبلغ المذكور بالتمام والكمال. صحيح أن ظهير 2 أكتوبر 1984 المتعلق بتعويض المصابين في حوادث السير قد وضع شبكة حسابية لتحديد مقادير التعويض أخذًا بعين الاعتبار سن ومورد المصاب، وفي ماعدا ذلك، فإن التعويضات المدنية المحكوم بها «يجب أن تحقق للمتضرر تعويضا كاملاً عن الضرر الشخصي الحال المحقق الذي أصابه مباشرة من الجريمة». وصحيح أن المحكمة تستقل بتقدير التعويض بدون أن يمارس عليها المجلس الأعلى رقابة في ذلك. إلا أن هذا التقدير يُبنى على ثبوت الجريمة وتأكد المحكمة من حجم الأضرار الناجمة عنها. فعلى القاضي أن يحدد التعويض بشكل مطابق للضرر، وإذا كان هذا الأخير معنويا فليس من شأن التعويض إرجاع الحالة إلى الوضع السابق عن حصول الجرم، أي منح المضرور إمكانية استدراك ما ضاع منه، بل إن التعويض عن الضرر المعنوي يرمي فقط إلى التخفيف عن المضرور وإعطائه كسبا يناسب درجة الألم الذي أحس به. إلا أن القاضي، من الناحية المنطقية على الأقل، لا يمكن له التذرع بالسلطة التقديرية التي خوله إياها القانون، للحكم بأي تعويض أراد. يجب أن يكون الحكم الصادر قادرًا على إقناع عموم الناس بتطابق مقدار التعويض لمقدار الضرر وعلى استدراجنا لاستساغته وتقبله. هل يمكن للقاضي أن يسجل سابقة، ويأتي بحكم يجده الناس غريبا ويخلف وقعا مدويا دون أن يقدم عناصر إقناع استثنائية بصنيعه؟ هل يمكن للقاضي أن يفاجئنا بما لم نتوقعه ويتخيل «الضرر» و»التعويض عن الضرر» بطريقة لا يكون أي منا قادرًا على تمثلها، لمجرد أن القانون خوله سلطة التقدير. طبعًا من حق أي شخص «أن يعتبر أن شرفه وسمعته يساويان ما يتجاوز مئات الملايين»، وأن يطالب قضائيًا بذلك. ولكن القاضي إذا قرر أن يسايره وحده -مهما علا شأنه- دون غيره، وأن يقضي له بما لا يقضي به عادة لغيره، فإن هذا «المستجد» طبعا يفتح باب القراءة السياسية على مصراعيه، خاصة إذا كان نشر المادة التي خلفت الضرر، قد أعقبه اعتذار عن النشر، والاعتذار طبعًا من شأنه أن يحد من أثر ما نشر في بداية الأمر، ويظهر ربما أن القاضي لم يحفل بالاعتذار ولم يعره أي اهتمام. لقد تصرف القاضي عمليا كأن الاعتذار لم يتم، بينما كان عليه في نظرنا مراعاة ذلك، واستخلاص حسن نية الصحفي الذي كان لا يعلم بعدم صحة المعطيات التي أوردها بحكم انعدام أية قرائن تفيد بوجود عداوة سابقة بين الصحفي والمتضرر أو المتضررين. وحتى في الدول الغنية التي يفوق فيها دخل المواطن هناك عدة مرات دخل المواطن المغربي، لا نعثر فيها عادة على أحكام قضائية بتعويض المتضررين معنويا عما ينشر في الصحافة، بهذا القدر الضخم من الأموال. هل القاضي المغربي يعيش في جزيرة معزولة، هل يجهل أن القدر المحكوم به يساوي آلاف المرات الحد الأدنى للأجر في بلده؟ وأن ما تحكم به المحاكم يوميًا لفائدة أرامل ويتامى كتعويضات عن الأضرار المعنوية الجسيمة التي لحقتهم وغيرت أحيانا مجرى حياتهم جذريا لا علاقة له إطلاقًا بما حكم به ضد «المساء»؟ هل دور التعويض عن الضرر المعنوي هو أن يجد فيه المتضرر بعض العزاء أم أن ينقله فجأة إلى مصاف الأغنياء، ويمكنه من اقتناء العمارات وتأسيس الشركات وفتح باب الاستثمارات الاقتصادية، على حساب صحفي نشر خبرًا واعتذر. لقد وجد الكثير من المواطنين اليوم في مقاضاة الجرائد وسيلة جديدة للبحث عن مداخيل، وأنتج هذا الوضع بعض الطرائف التي رواها مثلا نور الدين مفتاح مدير «الأيام»، فمجرد ظهور أحد الأشخاص في خلفية صورة منشورة أصبح سببا لادعاء حصول ضرر معنوي من النشر. وقد يعتبر يوما كل من تظهر صورته في جريدة، في إطار تغطية أي حدث، أن من حقه أن يتلقى تعويضًا عن ذلك، مثل أي مشارك في تمثيل مشهد لفيلم سينمائي! وعلى الصحفيين غدًا، أن يحذروا ممن سيقدمون أنفسهم كمصادر خبر، وهم في حقيقة الأمر يفسحون السبيل لأشخاص آخرين باتفاق معهم، لرفع دعاوى المطالبة بتعويضات عن أضرار ناجمة عن النشر. هل الحكم بستمائة مليون سنتيم ابتدائيا هو مجرد مقدمة لتسويغ حكم استئنافي حتى ولو كان قاسيا هو الآخر، مادام سيخفض المبلغ إلى النصف أو الثلث، فيظهر الحكم الثاني كما لو كان رحيمًا. إن أخطر ما ينطوي عليه الحكم الصادر ضد «المساء»، وكما أشارت إلى ذلك الكثير من التعليقات التي تناولته، هو أنه ينتقل عمليًا من تأمين حق الأغيار في جبر الضرر، وهو الحق المكرس قانونيا والذي لا جدال فيه، إلى تهديد مؤسسة إعلامية كاملة بالزوال و«إعدامها»، وبالتالي توقيع مس جسيم بالحق في التعبير والنشر وممارسة الصحافة. هل من المنطقي أن ننهي حياة أول جريدة في المغرب لمجرد أنها صرحت بأن أحد نواب الملك بمدينة معينة، لم تعينه بالاسم، يوجد ضمن قائمة الشاذين جنسيا بالمدينة المذكورة ثم اعتذرت؟ إن تعويض المتضررين لا يمر حتمًا عبر تهديد وجود الصحف برمته والحكم بما يشبه إغلاق المقاولات الصحفية المغربية الفتية. فعندما يصبح أداء التعويضات والغرامات المحكوم بها متعذرا أو شبه متعذر، وعلى هذا القدر المهول من الفداحة، فإن استمرار المؤسسة الإعلامية يصبح مشكوكا فيه أو غير ممكن بالمرة، فتضار من ذلك الديمقراطية التي لا تقوم دون وجود إعلام تعددي ودون احترام للحق في تعدد المنابر والتجارب الصحفية والحق في الاختلاف. هل هناك جريدة واحدة في المغرب، يمكن أن تتحمل الحكم عليها ب600 مليون سنتيم دون أن يتأثر سيرها العادي بصورة كاملة من ذلك ودون أن توضع على مشارف الإفلاس أو الانهيار؟ هل يمثل الحكم الصادر ضد «المساء» رسالة تضامن للقضاة مع بعضهم البعض وتعبيرًا عن إرادة الدفاع عن المهنة؟ إن كل أسلاك المهن يمكن أن تتبلور داخلها حمية مهنية ورغبة في إسماع صوتها وأن تنسج بين أعضائها شبكة وسائل لممارسة ضغط عام في المجتمع خدمة لمطالب ومصالح أعضائها. ولكن ذلك يجب أن يجري على وجه مشروع ومستساغ، ودون شطط أو تعسف على مهن أخرى أو رغبة في استخلاص حصانة عامة ضد النقد. لقد تناولت جريدة «المساء» قضية الفساد داخل بعض أوساط القضاء، وذلك من خلال عدة ملفات، كان من أبرزها ملف رقية أبوعالي وملف أصحاب رسالة إلى التاريخ. فهل الجريدة اليوم مطالبة بأداء ثمن هذا التوجه الإعلامي؟ وهل يشعر بعض القضاة بأن لهم الحق في الانتفاض على طريقتهم للدفاع عن سمعة مهنتهم التي يمكن أن تكون بعض الأقلام الصحفية قد لطختها زورًا وبهتانا؟ من الممكن أن تكون هناك علاقة ما بين محنة «المساء» اليوم، وما سبق أن نشرته عن وضع القضاء في المغرب، ومن الممكن أن تتدخل اعتبارات الزمالة والتضامن المهني في مثل هذه الحالات، ولكن ذلك ليس هو العنصر الوحيد المحدد والحاسم في قضية «المساء» في نظرنا، بل إنه في أقصى الأحوال ليس إلا عنصرا مضافا إلى ما هو أهم من ذلك، وهو ظهور نزعة بارزة للتشدد في مواجهة صحف بعينها. إننا في مواجهة مسار عام، ولا يتعلق الأمر بحوادث سير عارضة. وهذا المسار طبعا قابل للمقاومة إذا حقق ضحاياه شروط التضامن المطلوب ومدوا جسور التفاعل مع المجتمع المدني وعموم المواطنين. في كتاب «الصحافة أمام القضاء» الذي أعده الأستاذ عبد العزيز النويضي نقرأ بالصفحة 46 ما يلي: «كانت هناك دعاوى بالقذف يستبعد أنها تمت بتحريك من السلطات لأنها شكلت فعلاً قذفا في حق أشخاص (ثورية الجعيدي)، غير أن قساوة الأحكام وتفاوتها (الحكم على Tel quel كان قاسيا في قضية القذف ضد ثريا الجعيدي مقارنة مع الصحف الأخرى لنفس التهمة سنة 2005) تبعث على الاعتقاد أن هناك تدخلا لردع بعض الصحف وإرسال إنذارات قوية إليها». في 2005، صدر حكم بالتعويض على جريدة «تيل كيل» في قضية حليمة العسالي مقداره مائة مليون سنتيم، وفي 2006 صدر حكم بالتعويض ضد لوجورنال في قضية إبداء رأي بصدد تقرير لمركز أوروبي استشاري مقداره 300 مليون سنتيم، واليوم في 2008 يصدر حكم بالتعويض ضد «المساء» مقداره 600 مليون سنتيم، وما بين تلك الأحكام صدرت أحكام أخرى بتعويضات أقل. لكن المهم هو أننا بمرور السنوات نسجل تحطيم أرقام قياسية. ولا ندري إلى أي مدى سيصل «السلم المتحرك للتعويضات». نحن هنا أمام وسيلة أثبتت نجاعتها، فبوبكر الجامعي اضطر إلى مغادرة المغرب مثلاً، والحكومة تطالبنا باحترام أحكام القضاء واحترام استقلال القضاء، بينما تقدم يوميًا ما يكفي من الإشارات على تضايقها من وجود جيل جديد من الصحف، ولا أدل على ذلك من الخطاب الحكومي حول طريقة تعامل جزء كبير من الصحافة المستقلة مع ملف شبكة بلعيرج. هناك لعبة ألفناها في المغرب، وتقوم على نوع من التطرف الغريب: فعندما نطالب بتحرير الصحفيين من شبح العقوبات السالبة للحرية، يُصار إلى الحكم عليهم بتعويضات مغالية لا يتقبلها العقل، وعندما تتكرر المطالبات بتوفير الأمن في شوارعنا يُصار إلى الدوس على حقوق الإنسان وحشر المارة في الكوميساريات. إنها إرادة التشدد تتخذ لها في كل مرة لبوسا معينا، وتريد أن تمنعنا من تحقيق التراكم المطلوب. عندما يتم اللجوء إلى الحكم بتعويضات غير واقعية وغير متناسبة مع الضرر، وتوقع مثل هذه الأحكام على جرائد دون أخرى وفي ذات القضايا والملفات، وعندما نفاجأ بسوابق جديدة تحطم الرقم القياسي الوطني في التعويض عن الضرر المعنوي وتتزايد بتزايد حدة النقد وجرأة المعالجة الصحفية، وعندما تهدد الأحكام وجود المؤسسات الصحفية وتضعها وجها لوجه أمام الموت وتصبح أشبه بصك إعدام، فمن منا يصدق أن كل هذا عاد تماما وأنه ليس وراء الأكمة ما وراءها. إن البعض ربما يريد مغربا بدون صحافة مستقلة، ويفضل أن يطارد بعض المنابر والأقلام ليتحقق له «سلم صحفي»، حتى يتفرغ لتدبير ملفات البلاد والعباد بكل راحة بال. وهناك من يعتبر أن طعم الصباح المغربي بغياب «المساء» ومثيلاتها سيكون حلوا، وطعم الصباح المغربي بوجود «المساء» ومثيلاتها هو مر، ولهذا يبتدع جيلا جديدا من الوسائل لمواجهة جيل جديد من الصحافة. وإذا كان يقال إن للقاضي سلطة تقدير التعويضات عن الضرر المعنوي بدون سقف، فإن للرأي العام سلطته أيضا. فهو أشبه بقاض أكبر ولا معقب على سلطته. ومن لم يدرك الطابع النوعي للتضامن الذي انطلق تلقائيا مع «المساء»، فإنه يجهل بكل تأكيد التغييرات التي حدثت وتحدث على مستوى وسائل الرأي العام في التعبير عن نفسه وعن وجوده.