أول شيء صنعته هذا الصباح عندما جلست أشرب قهوة الصباح هو البحث في جريدة حزب الوزير الأول عباس الفاسي عن تعليقها على الحكم الصادر قبل أمس ضد ثلاث جرائد مغربية لصالح العقيد معمر القذافي. فماذا وجدت في جريدة «العلم» التي تأسست سنة 1946، أي قبل جريدة «لوموند» الفرنسية، عثرت على الخبر التالي: «حكمت الغرفة الجنحية بالمحكمة الابتدائية بالدار البيضاء على يوميات «المساء» و«الجريدة الأولى» و«الأحداث المغربية» بأداء كل واحدة منها لغرامة مالية قدرها 100 ألف درهم ومليوني درهم تعويضا عن الضرر». ولم يورد لسان حزب الاستقلال، الذي ظل يلهج طيلة أطوار المحاكمة بالثناء والتهليل لإنجازات ملك الملوك، أي كلمة إضافية في الخبر حول صاحب الدعوى أو الجهة التي حركتها. وكأن المحكمة، حسب جريدة عباس الفاسي، حكمت بالتعويض لصالح مجهول. وإذا كانت جريدة الوزير الأول قد قررت أن تشمت في الجرائد الثلاث التي نزلت عليها مقصلة القضاء بهذه الطريقة، فإن جريدة وزير العدل عبد الواحد الراضي، الناطقة باسم حزب الاتحاد الاشتراكي، اختارت مسلكا آخر لديها فيه باع طويل، وهو «قتل الميت والمشي في جنازته». فوزير العدل الاشتراكي الذي أعطى الأمر للنيابة العامة بتحريك شكاية «مكتب الأخوة الليبي»، هو نفسه الذي يذرف دموع التماسيح على مصير الصحافة المغربية في اليوم الموالي على الصفحة الأولى لجريدته الحزبية. والواقع أن كلمة وزير العدل جاءت مؤثرة تقطع القلب (بعد أن قطع قراره الجيب)، إلى درجة أنه وصف قرار المحكمة بتبرير القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد بمسوغات قضائية. وأجمل ما جاء في افتتاحية جريدة وزير العدل والكاتب الأول للحزب الذي يصدرها، هو تضامنه غير المشروط معنا في هذه المحنة. وإذا فهمنا جيدا افتتاحية الجريدة الناطقة بلسان وزير العدل، فإن هذا الأخير يعتبر الحكم الذي صدر ضدنا حكما ظالما وجائرا ومتحيزا يرمي إلى إعدام الصحافة والتضييق عليها تحت غطاء قضائي. وهذا لعمري نفاق ما بعده نفاق، ورش وحشي وسادي للملح في جرح الصحافة المفتوح. هل يعتقد سعادة وزير العدل والمدير الفعلي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» أننا بحاجة إلى تعازيه الحارة في مصابنا الجلل. هل يعتقد أننا أغبياء إلى الحد الذي نقبل فيه حضوره باكيا في مجلس العزاء بين المعزين ويداه ملطختان بدماء الجرائد الثلاث التي شارك في اغتيالها عندما تنازل وقبل الدوس على تاريخ حزبه النضالي وتصاغر أمام شكاية دكتاتور. إنني أحترم موقف جريدة عباس الفاسي، التي حافظت على موقفها المبدئي من صحافة بلادها، واستمرت في الشماتة بالجرائد المتابعة إلى حين صدور الحكم بالإعدام. فهذا موقف منسجم ويعكس الكراهية الطبيعية لعباس الفاسي إزاء هذه الجرائد الثلاث التي يتمنى صادقا أن يستفيق ذات صباح فلا يجد لها أثرا في الأكشاك. وبقدر ما أحترم كراهية عباس الفاسي للصحف الثلاث المدانة، بقدر ما أحتقر نفاق الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي الذي شارك في ذبح الصحف الثلاث من الوريد إلى الوريد وجاء في صباح اليوم الموالي يتباكى في جريدته على جريمة «القتل العمد للصحف مع سبق الإصرار والترصد بمسوغات قضائية». ما يشفع لعباس الفاسي وجريدته أنهما عبرا عن كراهيتهما لصحافة بلدهما بوضوح لا غبار عليه، أما وزير العدل فقد خانه الوضوح السياسي هذه المرة أيضا، عندما أراد أن يجلس في صف المعزين بينما هو في الواقع يقف في صف كتيبة الإعدام التي أطلقت الرصاص. الآن سأشرح لكم، وللحكومة الموقرة وللسادة القضاة المحترمين، الذين أصدروا حكمهم لصالح «ملك ملوك إفريقيا» وقدروا كرامته المهدورة بثلاثمائة مليون سنتيم، الكواليس والخلفيات السياسية التي حركت هذه المحاكمة السخيفة، حتى يتأكد من في قلبه شك من أن هذه المحاكمة هي محاكمة سياسية وليست شيئا آخر، الهدف منها تطييب خاطر العقيد، حتى ولو تطلب ذلك «تطييبنا» جميعا على نار مستعرة. عندما بدأت مقالاتنا الصحافية المنتقدة للعقيد تصدر تباعا في جرائدنا الثلاث، لم يستطع العقيد أن يخفي غيظه وغضبه الذي وصل إلى حدود غير معتادة، خصوصا عندما ظل «مكتب الأخوة الليبي» بالرباط يرسل ببيانات حقيقته وتكذيباته واحتجاجاته الخرقاء ضد آراء وانتقادات ننشر مثلها يوميا في حق كل رؤساء العالم، بما فيها ملك البلاد نفسه. وعندما جن جنون العقيد واقتنع بأن هذه الجرائد ماضية في انتقاد جلالته بدون تحفظ، وأن هذا النقد سيقرؤه رعاياه عبر المواقع الإلكترونية لهذه الجرائد، مع ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تحريك لنوازع المعارضة التي تأكد العقيد من قتلها في خلايا شعبه، بادر إلى دعوة لجانه الشعبية التي توازي البرلمان الشعبي عنده، وطلب منها أن تجمع على موقف سياسي مفاجئ، وهو مساندة «الشعب الصحراوي» في حقه لتقرير مصيره. عندما أوصل السفير العلوي المدغري الخبر إلى أسماع الطيب الفاسي الفهري، بدأ هذا الأخير «يتساخف» كعادته، وجرجر أقدامه إلى بنغازي لمقابلة العقيد. وعندما سأله كيف سمح لبرلمانه باتخاذ هذا القرار الخطير، قال له إن البرلمان في ليبيا حر ومستقل ويتخذ قراراته بمعزل عن قائد الثورة. وأبدى «القائد» تذمره مما تنشره صحافة المملكة المغربية حوله، ملمحا إلى أن ذلك لا يمكن أن يحدث بدون أن يكون بموافقة الدوائر العليا. فالعقيد لا يتصور وجود صحافة في هذا التابوت العربي الممتد من المحيط إلى الخليج تشتغل بدون توجيهات من الدوائر العليا. هنا فهم الوزير «المتساخف» الرسالة، وعاد إلى الرباط بعد أن وعد العقيد بالقيام باللازم. والبقية تعرفونها. فقد وضع «مكتب الأخوة الليبي» شكاية بثلاث صحف ومرت الشكاية عبر مصالح وزارة الخارجية لكي تحط عند وزير العدل رئيس النيابة العامة، والذي لم يتردد في إعطاء أوامره للشرطة القضائية بالاستماع إلينا وعرض ملفاتنا على أنظار القضاء الذي لم يتردد هو الآخر في إدانتنا بمائة مليون لكل جريدة بعد أن طالب دفاع العقيد بثلاثة ملايير للمسكين. بمعنى آخر، فحقيقة هذا الملف هي أن القذافي مارس الابتزاز السياسي ضد المغرب وقايض الدولة المغربية حكما قضائيا لصالحه مقابل التزامه الهدوء في قضية الصحراء. والابتزاز رياضة شعبية محببة يجيدها العقيد منذ أربعين سنة. وقد بدأها عندما كان أحد مؤسسي جبهة البوليساريو وأحد كبار مدعميها بالمال والسلاح طيلة ثلاثين سنة. ولم يدعم القذافي ميليشيات البوليساريو وحدها بل دعم حتى الجزائريين في حربهم ضد المغرب. ولعل الجنود المغاربة عندما سحقوا الجيش الجزائري في معركة «أمغالا»، يتذكرون عندما اقتحموا حصون العدو كيف عثروا على الآلاف من صناديق الذخيرة والأسلحة الثقيلة تحمل كلها اسم «بنغازي» قادمة من الاتحاد السوفياتي. أفلا يحق للدولة المغربية أن تطالب النظام الليبي بدفع تعويضات لعائلات الجنود المغاربة الذين استشهدوا في حرب الرمال بالسلاح الليبي، مثلما عوض النظام الليبي عائلات ضحايا الطائرة الأمريكية التي أسقطها رجال العقيد فوق بلدة لوكربي، ومثلما عوضت الدولة الإيطالية ضحاياها الليبيين خلال فترة الاحتلال الفاشي. كنا نتمنى أن يقول وزير الخارجية للقذافي ما قاله له الحسن الثاني ذات يوم «أموالك لا تغريني وإرهابك لا يخيفني» لكن وزيرا مثل الفاسي الفهري يلتقط أنفاسه أكثر من مرة قبل أن ينطق جملة واحدة، أعجز من أن ينطق بنصف كلمة أمام القذافي، فبالأحرى أن يتحداه ويتحدى ابتزازه وترهيبه للصحافة. وللمسؤولين عن هذه المهزلة الدبلوماسية نقول شيئا واحدا: وحدة المغرب وصحراؤه وجباله وشواطئه، نحن المغاربة الأحرار من سيحميها وسيدافع عنها حتى آخر قطرة دم، وليس القذافي أو أمثاله ممن يغيرون ولاءهم وأقنعتهم بين ليلة وضحاها. لذلك فكل من يزايد علينا بالصحراء المغربية، سواء في الداخل أو الخارج، يجب أن يفهم أننا لسنا بحاجة إلى دعمه المشروط. نحن أصحاب الأرض ولسنا بحاجة إلى من يثبت لنا ذلك. لن يحترمنا عدو ولا صديق إلا إذا أظهرنا لهم جميعا أننا نحترم أنفسنا أولا. وما قام به الوزير الأول ضد صحافة بلاده ليس فيه أدنى احترام لا للحكومة ولهيبة الدولة ولا لمشاعر المغاربة. ما قام به عباس الفاسي ضربة للمصالح العليا للوطن، وفتح للمجال أمام زعماء وملوك آخر الزمان لكي يمسحوا أحذيتهم بكرامتنا قبل أن يسرقوا عرق جبيننا لكي يودعوه في حساباتهم السرية بالمصارف البعيدة، حيث يسمنون ثروات بلدانهم المنهوبة.