لفترة غير قصيرة، ظلت كلمة "إرهاب" معتمة المعنى، ملتبسة على الإدراك. لكنها كانت تحيل بشكل عام على كل عنف مادي تمارسه فئة أو جماعة أو منظمة أو أفراد ضد جماعة أخرى من أجل إرهابهم، أي: تخويفهم. في وقتنا الحالي تجردت الكلمة من زئبقيتها وقد صار لها معنى واضح ومحدد بدقة: الإرهاب هو كل سلوك عدواني يصدر عن فرد أو جماعة مسلمين أو ذوي انتماء لحركات إسلامية ضد غيرهم. وبهذا، فإن عدوانا يصدر عن مسلم سواء كان منتمٍ لجماعة إسلامية أو لا، ضد مسلمين أو مسلمين منتمين لجماعة إسلامية لا يعتبر إرهابا. وكذلك كل عدوان يأتي من فرد غير مسلم ضد مسلمين ينتمون لجماعة إسلامية أو لا ينتمون، لا يعد إرهابا (ولنا في ما تفعله إسرائيل خير مثال) . وقد نتغاضى عن الحمولات اللغوية المتعددة التي صارت لصيقة بهذا التعريف الجديد للإرهاب. لكن يبقى من حقنا، نحن المسلمين، أن نطالب بمصطلح آخر، رديف لكلمة إرهاب يصف كل عدوان يقوم به غير المسلمين على غيرهم من البشر على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم. وذلك لأن المرء بمجرد أن يكون مسلما، فإنه يكون في مأمَن من تهمة الإرهاب التي يمكن أن تحيق به، حيال أي فعل عدائي قد يصدر منه أو من أحد المعتنقين لدينه ولو بغير قصد، ضد الآخرين. فكل سلوك يصدر عن المسلم اتجاه شخص غير مسلم في لحظة غضب أو دفاع عن النفس أو طيش وتهوّر أو حمق أو تعاطي مواد مخدرة أو مهلوسة مثلا، موسوم بالإرهاب لا محالة. والمكتئب والمصاب بأحد الأمراض الذهانية أو العصابية من المسلمين، إذا جاء بفعل عنيف ضد فئة غير مسلمة فإنه مرضه لن يشفع له. والسيئ في الموضوع على الإطلاق أن شخصا كهذا يصبح فعله، بقدرة قادر، ذا بعد شمولي، إذ يشاركه في ذنبه وجريمته ملايين المسلمين في العالم، لا لشيء إلا لأنهم يقتسمون معه نفس الدين. وذلك مع أن أعمال العنف والتقتيل، كانت ولا تزال تصدر باستمرار عن أناس مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين وهندوس وملحدين ولادينين ولاأدريين.. مع سبق إصرار، أو في لحظة يتفجر فيها ذلك الوحش القابع داخل كل كائن حي.. فالعنف أيضا، لا دين له. والإنسان كائن بالغ التعقيد من الناحية النفسية السلوكية، ولا يمكن أبدا التنبؤ بالمؤثرات الداخلية والخارجية التي يمكن أن تجعل منه عنيفا، لأنها تختلف من شخص إلى آخر وتتباين بحسب المواقف.. أمور عديدة تتحكم في السلوك الإنساني وتوجهه، منها ما هو ذاتي وما هو خارجي مرتبط ببيئته وظروفه وثقافته.. والعوامل الوراثية أيضا قد تدخل على الخط. وثمة دلائل عبر التاريخ، على أن الإنسان ذو المظهر الهادئ يمكن أن يتحول إلى وحش في أية لحظة. وليس بيننا مَن لم يسمع عن أناس (منهم أطفال) فتحوا النيران على غيرهم، وزوجات ذبحن أزواجهن ورجال حرقوا حبيباتهن، وآباء وأمهات قُتلوا على يد الأبناء.. وآخرون اغتَصبوا أطفالا وقتلوهم، وجاءت التحقيقات المبنية على شهادات معارفهم لتثبت أن هؤلاء المجرمين كانوا في قمة اللطف والطيبة والوداعة. "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" كان هذا هو رأي توماس هوبز في طبيعة العلاقة بين البشر. وفي العالم المتقدم عموما؛ ما زال الجدال قائما حول ما إذا كان الكائن البشري عنيفا بالسليقة، أي أن بذرة العنف كامنة في نفس كل إنسان هي فقط تنتظر مؤثرا خارجيا ما لكي تنبت ويلتمع شوكها.. أو أن العنف سمة تتواجد في بعض البشر دون غيرهم. هذا السؤال لم يحيّر علماء النفس فقط، ولكنه شغل الفنانين والأدباء أيضا. في رواية روبرت لويس ستفنسون "دكتور جيكل وميستر هايد" يعمد الدكتور جيكل إلى تجربة ترياق يُظهر الجانب الشرير من الإنسان، فيتحوّل الطبيب الهادئ المسالم إلى شخص آخر في منتهى الشر والقسوة (مستر هايد). نفس الفكرة صاغتها السينما الفرنسية من خلال فيلم وصية الدكتور كوردولْيي ( Le Testament du docteur Cordelier). وفي فلك نفس التساؤل تقريبا، دارت رواية ليلى سليماني "أغنية هادئة" الفائزة بجائزة الغونكور للعام 2016 وذلك من خلال شخصية لويز؛ المرأة الوديعة الهادئة الصبورة الرصينة، التي ترتكب جريمة قتل بشعة في حق أبناء مشغليها. "العنف" تيمة تطرح العديد من الأسئلة، من أين يأتي؟ كيف يأتي؟ هل يوجد في أشخاص دون غيرهم؟ هل يوجد داخل كل شخص؟ في العالم العربي والإسلامي المسألة شبه محسومة، العنف هو صفة ملازمة للحركات الإسلامية وللمنتمين إليها تحديدا. أما بخصوص غيرهم، فثمّة وجهات نظر. هذه النظرة الشمولية التي يُفسّر بها العنف في بلداننا، تشبع غريزة البحث عن الحقيقة لدينا، وإذن، تعفينا عن البحث عن أسباب أخرى للعنف، قد تكون أكبر خطرا وأشدّ ضررا. لكن إن لم يكن العنف شديد الارتباط بكل ما هو إسلامي (ودون غيره أيضا) فما الذي يجعلنا نراه كذلك؟ في المغرب، تم اعتقال شباب منتمين لشبيبة حزب العدالة والتنمية بسبب إشادتهم بمقتل السفير الروسي عبر تدوينات فيسبوكية، في ظل القانون المتعلق بمكافحة الإرهاب. ولسنا مؤهلين هنا للحديث عن حيثيات القضية، وإن كنا نرى أن تدخل القانون أساسي للحد من تمجيد القتل والاحتفاء به. بيد أنه يحق لنا التساؤل هنا: هل سيتعامل القضاء المغربي بنفس الطريقة مع كل من يشيد بمقتل الآخرين مهما كان عرقهم وانتماؤهم، أم أن القانون المغربي صار يشتغل وفق التعريف الجديد بالإرهاب؟ مهما كان القرار القضائي فإننا نحترمه، لكننا نذكر هنا بأن روح العدالة تقتضي تحقيق العدل بين الناس، وعدم التمييز بينهم والكيل بمكيالين. ولقد تابعت منذ اندلاع الثورة السورية ما يدرج من تعليقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي دون أن أعلق. والشيء الذي لاحظته والذي سيلاحظه أي متابع يقف على خط الحياد، أنه طوال قيام هذه الحرب التي امتدت على مدى خمس سنوات، كان هناك فئتين من المُعلقة قلوبهم بها: فئة تقف في خندق بشار الأسد وحلفائه فتتغاضى عما يمارسه هؤلاء من قتل للسوريين، وفئة تتخندق في صف داعش ومن والاها وتتغاضى هي الأخرى عن ما يمارسه أتباعها من تقتيل في السوريين. الفئة الأولى تفرح وتشمت في من يقتلُهم حزبها وتأسف وتذرف الدموع على من يقتلهم غيرها، والعكس بالعكس. لا هؤلاء ولا أولئك انتبهوا إلى أن السوريين يتعرضون للقتل من جميع الجهات، وأنهم بالتعاطف مع هذه الفئة أو تلك يساهمون بشكل غير مباشر في سفك دماء الأبرياء وهم في الواقع، كمن يتابعون مباراة في كرة القدم، كل يرجو الفوز لفريقه، وكل حزب بما لديهم فرحون. تبِعات الحرب السورية خلقت توترا عاليا في الأجواء المشحونة بلون الحرب والدماء.. وأظهرت أن العنف يوجد في هؤلاء وأولئك بدرجات متساوية طالما أنهم يفرحون بالقتل متى ما صدر عن فريقهم. والعدل يقتضي أن نكون ضدهم جميعا، ويتطلب من القانون، إن كان سيتبنى موقف شجب القتل والفرح بمرتكبيه، أن يعاقب كل من يفرح لمقتل الأبرياء كيفما كان لونهم عرقهم جنسهم دينهم مستواهم الاجتماعي.. وأن لا يفاضل بينهم. أما أن يسجن هؤلاء ويترك الآخرون يعربدون كما شاؤوا، فإن الأمر يبدو كمثل دورية شرطة تصادف في أحد الشوارع، رجلين يقتتلان.. فيتدخل شرطي ويلقي القبض على أحد المتعاركيين فيما تترك الآخر حرا طليقا. ويمكن للمقبوض عليه، أن يبكي طيلة الليل ويتساءل: لِم أنا فقط؟ لِم لَم تقبِضوا عليه أيضا؟ ولن يعثر على أي جواب. وهؤلاء الذين فرحوا لمقتل السفير الروسي في الغالب فعلوا ذلك ظنا منهم أن قتل الرجل المغدور يُعدّ انتصارا لقضية ما، ولو أنهم انتبهوا إلى أنّ قتل الرُّسل والسفراء قبيح ومنبوذ في الإسلام لما فعلوا. لكن الحمق أعماهم. عبر عصور سيطرت فيها الأديان على مستقبل الإنسانية، ومارست فيها أشكال من العنف على كل من ابتدع أو اختلف. والتاريخ يقول إن العنف كان ولا يزال ممارسا من قبل بني البشر، لأسباب متعددة، قد يكون الدين أهمها، لكنه ليس إلا إحداها. المتحمسون ضد الأديان، معذورون حين لا يقرؤون من تاريخ الأديان غير جانبها المظلم، فنحن نعيش عصر التضليل بامتياز، والجهود العالمية التي بُذلت، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لتمسح العنف عن كل ما هو غير ديني (إسلامي)، نجحت إلى حد بعيد في جعل عدد من شباب الأمة ينسون مَوئل العنف الأول: الديكتاتورية والتسلّط واستحلال الشعوب واستعبادها وكل العنف الذي مورس ولا يزال في سبيل ذلك. إن العاقل يعرف أن للحقيقة أكثر من وجه واحد. ويقال إن فارسين تقابلا بجانب نصب تذكاري فأصر أحدهما على أنه أصفر، وأصر الآخر على أنه أزرق ثم بقيا على إصرارهما إلى أو وصلا مرحلة الاقتتال وكاد أحدهما أن يفتك بالآخر، ولربما فتك به فعلا. ولو أنهما كلفا نفسيهما عناء تبديل المواقع لرآى كل واحد منها الأمر من وجهة نظر صاحبه.. لكن هيهات. العنف، في شقه المادي خاصة، حالة نفسية يمكن أن تتمظهر على أي إنسان، ولأسباب متعددة. وإنه من الرهيب أن تُلصق تهمة الإرهاب بملايين المسلمين المسالمين عبر العالم، فقط لأنهم صاروا تحت المِسلاط (projector) ، كمجموعة من الممثلين فوق خشبة مسرح، يقرر المخرج فجأة أن يسلّط النور على البطل، ويطفئه عن الآخرين؛ فلا يظهر على الخشبة سواه.. العنف هو أحد نتائج التطرف (أحدها فقط)، والتطرف ليس مصدره الأديان فحسب، ولا الإسلام تحديدا، ولكن له مصادر متعددة. وهذه الكلمات ليست دفاعا عن الحركات الإسلامية ولا عن المسلمين ولا عمن فرحوا بمقتل السفير الروسي.. لأن هؤلاء كلهم يتحملون الكثير من الذنب فيما آلت إليه صورة الإسلام في عصرنا هذا. وهو ليس دفاعا، بالتأكيد، عن أي ممن يقتلون ويسفكون الدماء باسم الدين. ولكنها محاولة للبحث عن جدور العنف في الإنسان، وليس في الدين أو التدين.. هي محاولة للإجابة عن سؤال: "من أين يأتي العنف؟" بلا أحقاد ولا ضغائن، ولا خلفيات إيديولوجية. [email protected]