الاحتفالات التي جرت في مدينة غرناطة في 2 يناير الجاري إحياءً لذكرى مرور 525 عاماً على تسليم السلطان أبي عبد الله الصغير آخر معاقل الإسلام في الأندلس مدينة غرناطة للملكيْن الكاثولكييْن فرناندو وإيزابيل، أثارت هذه السنة ردودَ فعلٍ متباينة بين مؤيّديها ومناهضيها، فقد استغلّت الناطقة الرّسمية للحزب الشعبي الحاكم في بلدية مدريد "إسبيرانسا أغيرِّي"، التي سبق لها أن تقلّدت مناصب عليا ورفيعة في الدولة مع حزبها في مستوى وزيرة، هذه المناسبة وأدلت بتصريحاتٍ شوفينية وعدائية صريحة ضدّ الإسلام. إسبيرانسا قالت بالحرف الواحد: "في هذا اليوم 2 يناير مرّت 525 عاماً على استرجاع غرناطة من طرف الملكيْن الكاثولكييْن .. إنه يوم المجد للإسبان جميعاً، فمع الإسلام لن تكون لنا حرية". وقد خلّفت تصريحاتها في هذا القبيل موجة عارمة من الانتقادات السّاخطة، والسّاخرة، واللاّذعة ضدّها في مختلف الواجهات، في الصّحافة والإعلام، وفى وسائل التواصل الاجتماعي على تباينها، من طرف المثقفين، والكتّاب، والسياسيّين، والقرّاء من إسبانيا وخارجها. الاحتفالات بين مُؤيّديها ومُعارضيها في يوم 2 يناير من الشهر الجاري تمّ، تحت حراسة مشدّدة، الاحتفال التقليدي الذي يقام بهذه المناسبة في مدينة غرناطة ليعيد إلى الأذهان ذكرى سقوط هذه المدينة في هذا التاريخ من عام 1492 في أيدي الملكيْن الكاثولكيْين فرناندو وإيسابيل المعروفيْن بتعصّبهما الأعمى، وعدائهما للإسلام والمسلمين، ولم يتمّ تسجيل أيّ أحداث أو مواجهات بين المؤيّدين لهذا الاحتفال والمعارضين أو المناهضين له. وقد حرصت السلطات المحلية بالمدينة على عدم السماح للمشاركين في هذه الاحتفالات باستعمال الشعارات العدائية، واللاّفتات العنصرية، ورفع أعلام المناطق الإسبانية الجهوية المطالبة بالانفصال، وكل ما من شأنه أن يحثّ على العداء والكراهية. واختتمت الاحتفالات بحضور المشرفين عليها في شرفة بلدية المدينة وصيحتهم التقليدية: عاشت إسبانيا، عاش الملك، عاشت غرناطة، عاشت الأندلس..! وتباينت الآراء والمواقف بين السياسيين المحليين بين مؤيّدين ومعارضين لهذا الاحتفال وجدواه أو عبثيته؛ حيث صرّح في هذا القبيل عمدة مدينة غرناطة فرانسيسكو كْوِينكا (من الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني) المناهض صراحة لهذا الاحتفال بالقول: "إن 2 يناير لا يقدّم لنا أيَّ قيم ديمقراطية، وهذا الاحتفال تستغلّه جماعات متطرفة موغلة في الحقد المجّاني، ومدينة غرناطة لم يتمّ استرجاعها أبداً، بل تمّ تسليمها في أجواء سلمية للملكيْن الكاثولكييْن، والاتفاقيات التي أبرمت خلال هذا التسليم بين الطرفين لم تُحترم ولم تُطبّق أبداً". تعالت أصوات مناهضة لهذه الاحتفالات وتمّت تلاوة بيان مفاده أنّ: "هؤلاء الذين أُبْعِدوا وطُردوا وأُخرِجُوا من ديارهم في هذا التاريخ وبعده لم يكونوا عرباً أو أمازيغ، بل كانوا غرناطيين مثلنا.. إننا لم نأت لإضرام الضغائن، وتأجيج الأحقاد حيال التاريخ بل لنعترف، ونعالج جروح الماضي بيننا لإقامة مزيدٍ من التقارب، والتفاهم، والتثاقف، والحوار، نريد أن نقرأ التاريخ ونستخرج منه العناصر الصالحة لنا جميعاً". أنطونيُو غَالاَ وتسليم غرناطة ترى، كيف ينظر المثقفون الإسبان الكبار الذين لهم وزنهم في الأوساط الثقافية داخل إسبانيا وخارجها إلى هذه الاحتفالات؟ كمثال لما يراه هؤلاء المثقفون الإسبان في هذا الخصوص نذكّر – على سبيل المثال وليس الحصر - بما قاله الكاتب والشاعر والرّوائي الإسباني المعروف "أنطونيو غالا": "إنّه في مرحلة بداية إراقة الدّم في إسبانيا؛ أي في نفس يوم 2 يناير من عام 1492، عندما تمّ تسليم غرناطة للملكيْن فرناندو وإيزابيل من طرف آخر ملوك بني الأحمر أبي عبد الله الصّغير، أصبحت إسبانيا فقيرة، ومنعزلة، وهرمة لمدّة قرون، بعد أن أفلت شمس الحضارات السّامية العربية فيها، عندئذٍ انتهى عصرُ العِلم، والحِكمة، والفنون، والثقافة الرّفيعة، والذّوق، والتهذيب، وتمّ مزج كلّ ما هو قوطي وروماني بالمعارف العربية البليغة، وكان هؤلاء الذين يطلقون عليه غزواً، لا يدركون أنه كان في الواقع فتحاً ثقافياً أكثر من أيّ شيء آخر، ممّا جعل الاسبانَ يسبقون عصرَ النهضة بحوالي قرنين، إلاّ أنه بعد الثاني من يناير 1492 انتهى كلّ شيء، أفل ذاك الإشعاع، وخبَا ذاك الشّعاع، وتداعت إدارة الاقتصاد، والفلاحة، وكذا الأعمال والأشغال المتواضعة التي كان يقوم بها العرب والأمازيغ فضلاً عن اليهود، وظلت إسبانيا بعد ذلك التاريخ تافهة مكروبة، ومغمومة، ومخذولة، وكان عليها أن تنظر إلى الخارج، ومن ثمّ كان ما يُسمّى ب(الاكتشاف)". ويضيف "غالا": "مكتبة قصر الحمراء كان أكبر قسط منها يتألف من مكتبة مدينة الزّهراء التي كان بها ما ينيف على 600000 مجلّد، وقد أحرقها (الكاردينال سيسنيروس) عام 1501 في مكانٍ يُسمّى باب الرّملة بمدينة غرناطة، (أصبح هذا المكان اليوم ساحة تحمل السم العربي القديم نفسه) فاختفت العديد من الوثائق، والمخطوطات، والمظانّ، وأمّهات الكتب النفيسة والغميسة التي أبدعها علماءُ أجلاّء في مختلف فروع المعارف في الأندلس". ويُقال إنّ الجنود الذين كُلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يُخفون بعضَ هذه المخطوطات أثناء إضرامهم النارَ فيها في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها؛ إذ كان معظمها مكتوباً بماء الذّهب والفضّة، آية في الرّونق والبهاء، ويا لعجائب المُصادفات وغرائب المتناقضات؛ ففي المدينة نفسها التي نُقل إليها ما تبقّى هذه الذّخائر والنفائس (حوالي 4000 مخطوط) التي نجت من الحرق، وهي مدينة "قلعة النهر" (ألكَالاَ دِي إيناريسْ)، وتمّ إيداعها في الجامعة نفسها التي أسّسها الكاردينال سيسنيروس نفسُه بها، في هذه المدينة سيولد في ما بعد الكاتبُ الإسبانيّ العالميّ "ميغيل دي سيرفانتيس"، صاحب رواية "دون كيشوت" الشّهيرة المُستوحاة في غالبيتها من التراث العربي، كما يؤكّد معظم الدّارسين الثقات في هذا القبيل. ويشير "غالا" إلى أنّه اكتشف أنّ أبا عبد الله الصغير قد أصبح في عيون الباحثين والمؤرّخين والناس مُخادعاً، مُتخاذلاً جباناً، فهذه كتب التاريخ تصف لنا لحظة التسليم المذلّ فتقول: "وافق السلطان أبو عبد الله الصّغير على شروط التسليم، ولم يكن في مقدوره إلاّ أن يوافق، وتنازل عن آخر معقل للمسلمين بالأندلس، ووقف مع ثلة من فرسانه بسفح جبل الرّيحان، فلمّا مرّ موكبُ الملكيْن الكاثوليكيْين (فيرناندو وإسابيل) تقدّم فسلّم لهما مفاتيحَ المدينة، ثم لوى عنانَ جواده مولياً، ووقف من بعيد يودّع مُلكاً ذهب، ومجداً ضاع، وكان هو بأعماله وسوء رأيه سبباً في التعجيل بضياعه". وكانت كلمات أمّه خيرَ ما يمكن أن يوجّه إليه في هذا المقام، فقد رأته يبكي فقالت له: "ابكِ مثلَ النّساء مُلكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثلَ الرّجال"!، وما زالت الرّبوة، أو الهضبة أو الأكمة التي ألقى منها آخرَ نظرةٍ على غرناطة وقصر الحمراء ثمّ تنهّد فيها تنهيدة حرّى عميقة حيث عاتبته أمّه، تُسمّى باسمه حتى اليومSuspiro del Moro..!. أبو عبد الله الصّغير مُنقذ الحمراء! وترى الكاتبة الإسبانية "ماغدالينا لاَسَالاَ" من جهتها أنّ "أبا عبد الله الصّغير على العكس من ذلك كان رجلاً شجاعاً، كان بمثابة الحَجرة الأخيرة في طريق كان لابدّ له أن يتلاشى. كان يعلم بأنه يمثل نهاية حقبة، وبأنه لا يستطيع منافسة أو مواجهة تقدّم الإعدادات العسكرية القشتالية الهائلة. كان يعلم أنّ أيامه معدودة. لقد أنقذ أبو عبد الله الصغير معلمة الحمراء. كان يدرك تمام الإدراك، ويعي تمام الوعي كيف كان فرناندو الكاثوليكي الأراغوني لا يقف شيء أو عائق في طريقه، فقد أخضع في جميع غزواته السابقة مختلف المدن التي مرّ بها بعد حصارات دمويّة طويلة. الشيء الوحيد الذي كان في استطاعة أبي عبد الله القيام به هو إنقاذ قصر الحمراء؛ إذ إنه لو لم يكن قد سلّم مفاتيح المدينة في ذلك الموقف المذلّ للملكيْن الكاثوليكيْين واقتحمت جيوشُه القصور، لمَا كان اليوم في وقتنا الحاضر وجود للحمراء". أنطونيو غالا وحضارة الأندلس أشير بهذه المناسبة إلى أن هذا الكاتب أعاد توضيح الحقائق التاريخية حول مدى تأثير الحضارة واللغة العربية في الحضارة والنفسية الاسبانية، وقال في العديد من المناسبات، وما زال يقول، إنه بدون الثقافة العربية والإسلامية لا يمكن فهم إسبانيا. و"أنطونيو غالا" كثيراً ما يتعرّض في أحاديثه ومداخلاته، بل وفي كتبه ومؤلفاته، شعراً ونثراً، إلى الوجود العربي والاسلامي في إسبانيا، والإشعاع الحضاري للمسلمين الذي عرفته الأندلس أيامهم. إنّه يقول في هذا القبيل: 'إذا سُئلت ما هي الأندلس؟ لقلتُ إنها عصير غازي يساعد على هضم كل ما يُعطىَ لها حتى لو كان حجراً، فقد مرّت من هنا مختلف الثقافات بكل معارفها وعلومها، إلاّ أنّ الثقافة العربية والإسلامية في إسبانيا كانت من أغنى الثقافات الإنسانية ثراءً وتنوّعاً، وتألقاً وإشعاعاً، التي عرفتها شبه الجزيرة الأيبيرية على امتداد الأندلس، بالتالي فهي بحقّ منارة علم وحضارة وعرفان قلّ نظيرها في تاريخها الطويل، وكانت الإسبانية لغتين: لاتينية وعربية". بعد الملوك الكاثوليك الذين تمّ الاحتفال بهم وباستلامهم لمدينة غرناطة، جاءت محاكم التفتيش الفظيعة في أعقاب ما سمّي ب: "حروب الاسترداد" التي كانت في الواقع حروباً للاستعباد والاستبداد، والتي تركت جروحاً عميقة في الجسم الاسباني (وهذه الجروح لم تلتئم حتى اليوم). فإسبانيا ظلت هي ذَنَب أوروبا غير المسلوخ، هي أوروبا كذلك ولكن بطريقة أخرى، فهناك جبال البرانس التي توصد الأبواب بيننا وبين العالم الأوربي، وهناك البحر الأبيض المتوسّط من الأسفل، فإسبانيا وكأنها تشكل قدراً جغرافياً، وهي ممرّ أوروبا نحو إفريقيا. ولإسبانيا اليوم سفارتان كبيرتان ينبغي لها أن توليهما أهمية خاصّة، وهما العالم العربي، والعالم الأمريكي. فقد أورثها التاريخ هذه المهمّة الصعبة، وهي (أي إسبانيا) إذا لم تضطلع بهذا الدور، فإنما تخون نفسَها وتخون شعبَها والتاريخ. ويشير "غالا" إلى أن اللغة بالنسبة له أساسيّة، بل إنها هوسُه وقدرُه، وهو يعمل محاطاً بالعديد من القواميس، فاللغة الاسبانية، في نظره، لغتان أو فرعان اثنان؛ فرع ينحدر من اللغة اللاّتينية، وفرع آخر ينحدر من اللغة العربية على درجة تبعث القشعريرة في الجسم. أجمل المعاني والأشياء يشير أنطونيو غالا إلى أنه خلال قراءاته المتنوّعة العديدة، أو عند كتابته لأيّ مؤلّف جديد حول الحضارة العربية، فإنه يكتشف كلّ يوم حقائق مثيرة تدعو إلى التفكير والتأمّل والإعجاب حقاً. "فأجمل المعاني والأشياء في إسبانيا جاءت من الحضارة العربية الإسلامية، بل إنّ أجمل المهن وأغربها وأدقّها وأروعها، وكذلك ميادين تنظيم الادارة، والجيوش، والفلاحة، والملاحة، والطبّ، والاقتصاد، والعمارة، والبستنة، والريّ، وتصنيف الألوان، والأحجار الكريمة، والمهن المتواضعة، كلّ هذه الاشياء التي نفخر بها نحن اليوم في إسبانيا، تأتي وتنحدر من اللغة العربية وحضارتها، وهذا لم يحدث من باب الصدفة أو الاعتباط، فالعرب والأمازيغ أقاموا في هذه الديار زهاء ثمانية قرون، وظللنا نحن نحاربهم ثمانية قرون لإخراجهم، وطردهم من شبه الجزيرة الأيبيرية، فكيف يمكن للمرء أن يُحارب نفسَه؟ ذلك أن هذه الحضارة المتألقة كانت قد تغلغلت في روح كلّ إسباني، فبدون هذه الحضارة لا يمكن فهم إسبانيا، ولا كلّ ما هو إسباني، بل لا يمكننا أن نفهم حتى اللغة الإسبانية ذاتها". ويضيف "أنطونيو غالا": "هذه الحقيقة تصدم البعض، إلاّ أنّهم إذا أعملوا النظر، وتأمّلوا جيّداً ومليّاً في هذا الشأن، فلا بدّ أنهم سيقبلون بهذه الحقيقة بدون ريب، فالبراهين قائمة، والحجج دامغة في هذا القبيل". حضارة بهرت العالم يقول "غالا ": "إن الذي حدث في إسبانيا ليس اكتشافاً أو استعمارً مثلما هو عليه الشأن في أمريكا، فالذي حدث هنا كان فتحاً ثقافياً جليّاً، إنه شيء يشبه المعجزة التي تبعث على الإعجاب والانبهار اللذين يغشيان المرء بعد كل معجزة، فقد وصل العرب والبربر إلى إسبانيا وهم يحملون معهم ذلك العطر الشرقي العبق الفوّاح الذي كانت الأندلس تعرفه من قبل عن طريق الفينيقيين والإغريق، وصل العرب بذلك العطر الشرقي والبيزنطي، ووجدوا في الأندلس ذلك العطر الرّوماني حيث نتج فيما بعد أو تفتّق وانبثق عطر أو سحر جديد من جرّاء الاختلاط، والتجانس، والتنوّع، والتمازج الذى بهر العالمَ المعروف في ذلك الحين". لم يدخل العرب والأمازيغ البربر شبه الجزيرة الأيبيرية بواسطة الحصان وحسب، بل إنّهم دخلوها فاتحين، مكتشفين، ناشرين لأضواء المعرفة وشعاع العلم والأدب والشعر والحكمة والعرفان، فقد كان كشفاً أو اكتشافاً ثقافياً خالصاً. ويضيف "غالا": "هنا يكمن الفرق بين الذي ينبغي لنا أن نضعه في الحسبان للإجابة عن ذلك التساؤل الدائم: لماذا لم تلتئم القروح، ولم تندمل الجروح بعد في أمريكا اللاتينية حتى اليوم؟" ويتعجّب "أنطونيو غالا" من إسبانيا اليوم "التي تقف في وجه كل ما هو أجنبي وتنبذه وتصدّه؛ فالشعب الاسباني تجري في عروقه مختلف الدّماء والسّلالات، والأجناس، والأعراق، والاثنيات، ومع ذلك ما زالت إسبانيا تظهر اليوم بمظهر العنصرية وتدّعي أنّها براء من أيّ دم أجنبي". ويشير "غالا"، بسخرية مبطّنة لاذعة، إلى أنّ "أيّ إسباني من مملكة قشتالة لم يكن في مقدوره أن يقوم بأيّ أعمال يدوية بارعة، كما لم يكن في إمكانه زراعة الأرض مترامية الأطراف أمامه بحنكة ومهارة، وهذا هو السّبب الذي أدّى أو أفضى إلى اكتشاف أمريكا، أو ما سُمّي فيما بعد بالعالم الجديد. فجميع هؤلاء الذين لم يكونوا يحبّون القيام بأيّ عمل كان عليهم أن يذهبوا وينتشروا في الأرض مكتشفين، وكان الاسبانيّون شعباً محارباً، فهم يتدرّبون منذ ثمانمائة سنة، وكانوا باستمرار ينتظرون ويتحيّنون الفرصة المواتية للانقضاض على الغنائم بعد هذه الحروب الطويلة الضروس، ومن هنا ذهبوا بحثاً عن أرض بِكر تعجّ بالغنىَ، والثراء، والثروات، وكانت هذه الأرض هي أمريكا". ويرى "أنطونيو غالا" أنّ إسبانيا في البلدان التي "غزتها" اتّسمت بالعنف، والتنكيل، والجبروت، والقهر والغِلظة، ولم تعتبر الشعوب فيها شعوباً مسيحية بالمعنى الصحيح للكلمة، وقد نزعت عن هذه الديانة كلَّ صفةٍ للرّحمة والرّأفة والشّفقة، وهكذا "أصبحت الكاثوليكية اليوم في هذه الأصقاع النائية من العالم أبعدَ ما تكون عن رسالة السّيد المسيح". الأندلس هل هو فِرْدَوْسُ مَفْقُود..؟! هل يحقّ لنا ويجوز- والحالة هذه - أن نسمّي (الأندلس) "بالفردوس المفقود"!؟ فقد سمّوه فردوساً، ولكنّه ليس مفقوداً كما وُهِمُوا، بل إنّه هنا موجود، حاضر الكيان، قائم الذات، إنّه هنا بسِيَرِه وأسواره، وبقاياه وآثاره، ونفائسه وذخائره، إنّه هنا بعاداته وطبائعه، في عوائده وأهوائه، إنّه هنا في البريق المشعّ، في المدائن، والضّيع، والوديان، في اللغة والشّعر، والعلم والأدب، في لهجة القرويّ النّائي، والفلاّح المغمور، إنّه هنا في الإباء الذي يميّز العربَ الأقحاحَ، وإخوانَهم الأمازيغ الصّناديد الأحرار الذين أقاموا معاً صرحَ حضارة مشعّة أنارت دياجي الظلام في أوروبّا دهرئذٍ، إنّه هنا في النّخوة، والإباء، والحزازات القديمة، التي ما تزال تفعل في ذويها فعلَ العُجْب ! الأندلس.. أيُّ سرّ أنت كائن فينا وبيننا؟ أيّ سحر أنت تائه في طيّات الألسن، ومخادع القلوب؟ يتساءلون وقد علت جباهَهم علائمُ الشّدوه، وأماراتُ السُّؤْل، كيف حدث ذلك؟ كيف استطاعت سنابكُ خيولهم المُسوّمة بقيادة طارق أن تطأ ثرى هذه الأرض البكر، وأن تُقام واحدة من أكبر الحضارات الإنسانية ازدهاراً وتألّقا، وسطوعاً، وتوهّجا أشعّت على العالم المعروف في ذلك الإبّان؟ يتساءلون كيف تسنّى لهؤلاء القوم الغُبْر الوِشاح، البُداةُ الجُفاةُ، أن يضطلعوا بكلّ ذلك؟ وتزداد حيرتُهم، ويتفاقم ذهولُهم، كيف دانت لهم الدّنيا، ودالت لهم الدّول؟ كيف أمكن لهم أن يروّعوا كسرى في إيوانه؟ وأن يجعلوا الرّومانَ يفرّون تحت وخزات الرّماح، ووطأة السلاح، وثقل الصّفاح؟ إنّهم ليسوا قوماً قساةً، عتاةً، جفاةً، كما وُهِموا، بل إنهم مُبشّرون بحضارة وعلم وتاريخ وعمران. هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعقيانها هياماً، ثمّ سرعان ما خبت الضّياء، وجفّت المآقي، هذه الواسطة في عقدٍ من جُمان، مُرصّعة في جيد الزّمان، كيف وهنت قلادُتها؟ وتناثرت حبّاتُها، وانفرط عقدُها؟ وتحوّلت إلى عَبَرات حرّى تبكي العهدَ والجدَّ والدار؟! هكذا كانت البداية ثمّ أفلتت الشمسُ بدون شروق قريب، وغاض النّبعُ الرّقراق، ولم يبق سوى وميض خافت نتلمّسه هنا وهناك، سرعان ما تحوّل إلى بريق مشعّ قويّ نفّاّذ، تراه في هذه الأعين النّجل، والحواجب المُزجّجة ذات الملامح العربية والأمازيغيّة الأصيلة، والمولّدة، والقسَمات الدقيقة، التي تحملك في رمشة عين إلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جنان الرُّصافة والجِسر، أو تتيه بك في غياهب المسافات السّرمدية اللاّمرئية. ابن زمرك ولوركا وإيبانييز شاعر الحمراء ابن زُمْرُك العاشق، الهائم، والمتيّم في الأندلس، وماضي الأندلس، وشعر الأندلس، وأدب الأندلس، وموسيقي الأندلس، وتاريخ الأندلس، وعمران الأندلس، ورفاهية وترف الأندلس، وقصور، وحصون الأندلس، خطّ على حاشية مرمر مسنون، وذهب موضون ببهو الأسود هذه الأبيات التي يقول فيها: يذوب لجين سال بين جواهر / غدا مثله في الحُسْن أبيضَ صافيَا تشابه جار للعيون بجامد / فلم ندر أيّاً منهما كان جاريَا ألم تر أنّ الماءَ يجرى بصفحها / ولكنّها سدّت عليه المجاريَا كمثل محبٍّ فاضَ بالدّمع جفنُه / وغيض ذاك الدّمعُ إذ خاف واشيَا قال "فيدريكو غارسيا لوركا": "بضياع الأندلس ضاعت حضارة رائعة، لا نظير لها، ضاع الشّعر، ضاعت علوم الفلك، ضاعت الفنون المعمارية، وضاعت حياة مترفة فريدة، لا مثيل لكلّ ذلك في العالم أجمع". وقال "بلاسكو إبانييز": "كانت الأندلس في ذلك العهد كالولايات المتّحدة الأمريكية، يعيش فيها المسلم والمسيحي واليهودي بحرية تامّة ومن غير تعصّب، وعندما كانت دول أوروبا تتطاحن، وتتقاتل في حروب دينية وإقليمية فيما بينها، كان المسلمون والمسيحيون واليهود يعيشون في سلام كتلةً واحدة، وأمّة واحدة، فزاد سكان البلاد، وارتقى فيها الفنّ، وازدهرت العلوم، وأسّست الجامعات. سَكَنَ ملوكُها القصورَ، وعاش شعبُها في الرّخاء، بينما كان ملوك بلدان الشمال يبيتون في قلاعٍ صخريّة سوداء، وكانت شعوبها تعيش في أحقر المنازل والأكواخ". * عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا