"إبْكِ مِثْلَ النِّسَاء مُلْكاً مُضَاعاً لَمْ تُحَافِظْ عَلَيْهِ مِثْلَ الرِّجَال"! الكاتب الإسباني المعروف " أنطونيوغالا " يشير:" أنّه فى مرحلة بداية إراقة الدّم في إسبانيا أيّ في نفس يوم 2 يناير1492، عندما تمّ تسليم غرناطة للملكين الكاثولكيين فرناندو وإيزابيل ، أصبحت إسبانيا فقيرة، ومنعزلة لمدّة قرون، وأصبحت الدّول المسيحيّة بها هرمة بعد أن أفلت شمس الحضارات السّامية العربية والاسلامية فيها ،عندئذٍ إنتهى عصرُ العلم، والحكمة، والفنون، والثقافة الرفيعة، والذّوق، والتهذيب ، و تمّ مزج كلّ ما هو قوطي وإسلامي المحمّل بكلّ ما هو ناعم ورقيق، وبالمعارف العربية البليغة ، وكان هؤلاء الذين يطلقون عليه غزواً ، لا يدركون أنه كان في الواقع فتحاً ثقافياً أكثر من أيّ شيء آخر،ممّا جعل الاسبانَ يسبقون عصرَ النهضة بحوالي قرنين، إلاّ أنه بعد الثاني من يناير إنتهى كلّ شيء، أفل ذاك الإشعاع،وخبا ذاك الشّعاع، وإدارة الاقتصاد، والفلاحة، وكذا الأعمال والأشغال المتواضعة التي كان يقوم بها المسلمون من عرب وأمازيغ فضلاً عن اليهود، وظلت إسبانيا بعد ذلك التاريخ تافهة مكروبة، ومغمومة،ومخذولة، وكان عليها أن تنظر إلى الخارج، ومن ثمّ كان ما يُسمّى بالاكتشاف". ويضيف "غالا " :"أنّ مكتبة قصرالحمراء كان أكبر قسط منها يتألف من مكتبة "مدينة الزّهراء" التي كان بها ما ينيف على 600000 مجلّد، وقد أحرقها أسقف طليطلة (الكاردينال سيسنيروس) عام 1501 في مكانٍ يُسمّى "باب الرّملة " بمدينة غرناطة،( أصبح هذا المكان اليوم ساحة تحمل نفس إسمها العربي القديم)فاختفت العديد من الوثائق،والمخطوطات،والمظانّ،وأمّهات الكتب النفيسة والغميسة التي أبدعها علماءُ أجلاّء في مختلف فروع المعارف في الأندلس "، ويُقال إنّ الجنود الذين كُلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يُخفون بعضَ هذه المخطوطات أثناء إضرامهم النارَ فيها في أرديتهم لفرط جمالها،وروعتها، إذ كان معظمها مكتوباً بماء الذّهب والفضّة، آية في الرّونق والبهاء، ويا لعجائب المُصادفات، وغرائب المتناقضات، ففي نفس المدينة التي نُقل إليها ما تبقّى هذه الذّخائر والنفائس(حوالي 4000 مخطوط) التى نجت من الحرق وهي مدينة ألكلا دي إيناريس) أو "قلعة النّهر"..! و تمّ إيداعها في نفس الجامعة التي أسّسها الكاردينال سيسنيروس نفسه بها،فى هذه المدينة سيولد فيما بعد الكاتبُ الإسبانيّ العالميّ المعروف " ميغيل دي سيرفانتيس" صاحب رواية "دون كيشوت"الشّهيرة المُستوحاة فى غالبيتها من التراث العربي والإسلامي كذلك ،كما يؤكّد معظم الدّارسين الثقات في هذا القبيل. و يشير "غالا" أنّه إكتشف أنّ أبا عبد الله الصغير قد أصبح في عيون الباحثين،والمؤرّخين، والناس مُخادعاً، مُتخاذلاً جباناً، فهذه كتب التاريخ تصف لنا لحظة التسليم المذل فتقول: " وافق المسلمون على شروط التسليم، ولم يكن في مقدورهم إلاّ أن يوافقوا، وتنازل السلطانُ أبو عبد الله عن آخر معقل للمسلمين بالأندلس، ووقف مع ثلة من فرسانه بسفح جبل الرّيحان، فلمّا مرّ موكبُ الملكين الكاثوليكيين (فيرناندو وإسابيل) تقدّم فسلّم مفاتيحَ المدينة،ثم لوى عنانَ جواده مولياً، ووقف من بعيد يودّع مُلكاً ذهب، ومجداً ضاع،وكان هو بأعماله وسوء رأيه سبباً في التعجيل بضياعه ". و كانت كلمات أمّه خيرَ ما يمكن أن يوجّه إليه في هذا المقام، فقد رأته يبكي فقالت له: " إبكِ مثلَ النّساء مُلكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثلَ الرّجال"!، وما زالت الرّابية أوالأكمة التي ألقي منها آخرَ نظرةٍ على غرناطة وقصر الحمراء ثمّ تنهّد فيها تنهيدة حرّى عميقة حيث عاتبته أمّه، تُسمّى باسمه حتى اليوم Suspiro del Moro..! الفِرْدَوْسُ المَفْقُود الحديثُ عن الأندلس.. حديثٌ عن الشّعر، والنثر، والحنين، والأنين، والشّوق، والتاريخ، والأدب، والفكر، والفلسفة ،والفَلَك والرّياضيات، والخَرْجَات، والمُوَشّحات، والوَصْلات، والزّجل والخجل، والوجل، والعُمران، والمِعمار، والمَرمر المَوْضون، والرّخام المَسْنون، والدرّ المَكْنون،والعيون المُسْبلة، والحواجبُ المُزجَّجة ،والأسى، والأسف، والآه التي سرعان ما تغدو آهات... الحديثُ عن الأندلس حديثٌ عن الحبّ، والصبّ، والصّبابة، والجوَى، والهوَى ،عن الزّمن الذي مضى وإنقضى، عن خلجات النفوس المكلومة ، وزفرات القلوب العاشقة، الوالهة، الولهانة ، والمعنّاة ،عند الحديث عن "الأندلس" عن ذاك الحلم الضّائع بين ثنايا الزّمن وطيّاته،الذي تبعثر،وتبخّر، وإندثر مع دياجي الفجر يطفو على سطح ثبج الذاكرة دائماً مصطلحُ "الفردوس المفقود" هذا النّعت الذي ما فتئ ينثال على شفاهنا، ويترى نصب أعيننا، ويتكرّر على مسامعنا، ويندسّ فى العديد من النّصوص، والمراجع، والمصادر، والمظانّ،والوثائق،والمخطوطات،والمقالات،والدّراسات،والقصص، والرّوايات ، والأشعار،والكتب، والتآليف، والبحوث،والأطروحات التي كُتبت عن هذا الصُّقع الأندلسي القريب-البعيد، فى هذه الجزيرة، أو شبه الجزيرة المحروسة التي ما إنفكّت ذكراها تتغلغل فى أعمق أعاميقنا، لصلاتها الوثقى، وعلاقتها المتينة وأواصرها العرقية العريقة، الإثنية منها، والرّوحية، والدّينية، والتاريخية، والجغرافية، والفكرية، والثقافيّة، واللغويّة، والشعريّة، والفنيّة، والعاطفيّة بتاريخنا، وثقافتنا، ووجداننا، وبعالمنا العربي والإسلامي المترامي الأطراف على إمتداد التاريخ، وطول الزّمن، وفضاء المسافات. نصٌّ نثري يتدثّر بدفء الشّعر،وينتعش برقّته ،أو شعرٌ نثري يتسربل بروعة السّرد ويزهو برشاقته ، تغلّفهما لوعة الحنين ،وصدى الأنين، يتعانقان فى تقارب،وتداخل،وتناوش،وتدان،وتلاحم أبدي،فى سديم الزّمن، وصُوَى المسافات، وَثَبَج الذكريّات ...يناغيان ذكرى"الفردوس المفقود" الذى غدا حلماً جاد به غيث هَمىَ، فى زمان وصل بالأندلس، لم يكن وصله إلاّ حلما، فى الكَرَى، أوْ خِلْسَةَ المُخْتلس...! فهل يحقّ لنا ويجوز أن نسمّي (الأندلس) "بالفردوس المفقود"... !؟ فقد سمّوه فردوساً، ولكنّ كثيرين يَرَوْنَ أنّه ليس مفقوداً كما وُهِمُوا، بل إنّه هنا ، حاضر الكيان،قائم الذات،إنّه هنا موجود بِسِيَرِهِ وأسواره،وبقاياه وآثاره، ونفائسه وذخائره،إنّه هنا بعاداته وطبائعه، فى عوائده وأهوائه،إنّه هنا فى البريق المشعّ، فى المدائن، والضّيع، والوديان،فى اللغة والشّعر، والعلم والأدب، فى لهجة القرويّ النّائي،والفلاّح المغمور،إنّه هنا فى الإباء الذي يميّز العربَ الأقحاحَ وإخوانَهم فى الله، والدّين،والوطن، والمصيرالأمازيغ الصناديد الأحرارالذين أقاموا معاً صرحَ حضارة مشعّة أنارت دياجي الظلام فى أوربّا دهرئذٍ ،إنّها هنا فى النّخوة ، والإباء ،والحزازات القديمة،التي ما تزال تفعل فى ذويها فعلَ العُجْب !. الأندلس.. أيُّ سرّ أنت كائن فينا وبيننا ؟ أيّ سحر أنت تائه فى طيّات الألسن، ومخادع القلوب.. ؟ يتساءلون وقد علت جباهَهم علائمُ الشّدوه، وأماراتُ السُّؤْل، كيف حدث ذلك ..؟ كيف إستطاعت سنابكُ خيولهم المُسوّمة بقيادة طارق الفاتح رحمه الله أن تطأ ثرى هذه الأرض البكر،وأن تُقام واحدة من أكبر الحضارات الإنسانية إزدهاراً وتالّقا ، وسطوعاً وتوهّجا أشعّت على العالم المعروف فى ذلك الإبّان...؟ يتساءلون كيف تسنّى لهؤلاء القوم الغُبْر الوشاح، البداةُ الجفاةُ أن يضطلعوا بكلّ ذلك؟ وتزداد حيرتُهم ، ويتفاقم ذهولُهم ، كيف دانت لهم الدّنيا، ودالت لهم الدّول..؟ كيف أمكن لهم أن يروّعوا كسرى فى إيوانه ..؟ وأن يجعلوا الرّومانَ يفرّون تحت وخزات الرّماح ،ووطأة السلاح، وثقل الصّفاح ..؟ إنّهم ليسوا قوماً قساةً ،عتاةً ، جفاةً ،كما وُهِموا ، بل إنهم قوم فاتحون ، مُبشّرون بحضارة وعلم وتاريخ وعمران. هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعقيانها هياماً ، ثمّ سرعان ما خبت الضّياء، وجفّت المآقي، هذه الواسطة فى عقدٍ من جُمان، مُرصّعة فى جيد الزّمان، كيف وهنت قلادُتها ..؟ وتناثرت حبّاتُها ، وانفرط عقدُها ..؟ وتحوّلت إلى عَبَرات حرّى تبكي العهدَ والجدَّ والدار.. ؟ هكذا كانت البداية ثمّ أفلت الشمسُ بدون شروق قريب، وغاض النّبعُ الرّقراق،ولم يبق سوى وميض خافت نتلمّسه هنا وهناك ، سرعان ما تحوّل إلى بريق مشع ّقويّ نفّاّذ ، تراه فى هذه الأعين النّجل ، والحواجب المزجّجة، ذات الملامح العربية، والأمازيغيّة الأصيلة، والمولّدة ،والقسمات الدقيقة،التي تحملك فى رمشة عين إلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جنان الرُّصافة والجِسر،أو تتيه بك فى غياهب المسافات السّرمدية اللاّمرئية. الأندلس .. إنّها باقية هنا فى العادات الشرقيّة والمغاربية الجميلة ، فى رعشات الأنامل ، وإنحناءاتها، فى ضربات الأكفّ والأرجل المتوالية المتناغمة التي تذكّرك بمرّاكش الحمراء ، وبجرش والبتراء ، وبعروس البقاع زحلة الأَرز ،وحماة القاهرة،وبغداد الهوى، ودوحة الخير،ووهران وتلمسان،وتونس الخضراء،وطرابلس الإباء، ودمشق الفيحاء،ونواكشوط العالمة... إنها هنا فى هذه الأقراط العربية المدلاّة عبر جيد فى بياض النّرجس، بضّ ناصع ، ذي ذوائب فاحمة، إنّها شامخة فى قصر الحمراء، وجنّة العريف،فى الزخارف والأقواس، فى النقوش المرصّعة للمرمر المَوْضُون، والرّخام المَسْنُون، وإفريز الخشب المحفور، إنها فى نوافير المياه ، والبِرَك والسّواقي ، فى الموشّحات والأزجال والخَرْجات الأندلسية الرّخيمة،إنها هنا فى هذه الرّاح التي لا تلبث أن تتحوّل إلى روح متلألئة حيّة قائمة محاورة ..! أيّها النائي القريب ، إنهم يحنّون إليك ، ويتغنّون بك وبإسمك ، قَلَوْك زمناً ، ولكنّهم سرعان ما فاقوا من سُباتهم ، وثابوا إلى رشدهم ، وتخلّوا عن نكرانهم ،فراحوا يشيّدون لك الأبنيةَ والمجسّمات والتماثيل المخلّدة،ولكنّهم فى خَبَل من أمرهم ، ذلك أنّ ربيعك دائم متجدّد، لا تراه الأعين ، ولا ترمقه إلاّ في الحدائق والجنان ،أو على ضفاف الأنهار المنسكبة ، والجداول المنسابة ، بل إنّها فى النغمات والآهات، والخُطى، والعيون، والحواريّات ،إنّها ربيع طلق ضاحك،باسم لا يعقبه صيف قائظ،، بل يتولّد منه ربيع تلو ربيع .! جيراننا (الإسبان) يَتَأورَبُونَ أحياناً أكثر من الأوربيّين أنفسهم..! وأحياناً أخرى تشطّ بهم الأحلام بعيداً بعيداً ولكنّهم فى كلتا الحالتين أبدا يظلّون ملتصقين بأرضهم التي تعاقبت عليها حضارات ،يظلّون فخورين بأجناسهم ،مزهوّين بمحتدهم، وتاريخهم الحافل،مشدودين إلى عاداتهم الدّخيلة، مشدوهين إلى لغتهم المزدوجة، وتقاليدهم العريقة ، قالها "ماتشادو"، ولوركا"، و"ألبرتي"،و"دامسو" ،و"أليكسندري"، مثلما قالها قبلهم "إبن زيدون"، وابن هانئ"، وابن عبد ربّه "،" وابن زُمرك "،وإبن حمديس، و"ابن الخطيب"،و"ابن سهل"،وابن حزم وسواهم !. هَدِيلُ الحَمَام يضحكون منك وعليك ،وهم فيك ومنك وإليك ، ينكرون طبائعَك وعوائدَك ، وهم الذائدون عنها.هنا حطّ الشّاعرُ يوماً رحله، بعد أن هجر القصرَ وترفَه، والشّعرَ ولغوَه، بعد أن بنى معبدا للصّلاة، فكانت له جنّة الخلد، هنا فى هذه الحياة الدّنيا قبل الآخرة، بعد أن خلّف وراء ظهره ثماني من الرّواسى الرّاسخات ، إنها تعدّ عدّا،ضاربة جذورها فى عمق التاريخ ، تعلو في عنان السّماء، ألوانها مزركشة زاهية يعانق قوسُ قزحها الآفاقَ البعيدةَ، معلنة للملأ أجمعين أنّها ما زالت ها هنا قائمة الذات، ثابتة، في الصّور والمنقوشات ، فى الدّور والقصور، فى الحمراء، وجنّة العريف، وبرج الذهب، وصومعة الخيرالدا، وقصرالجعفريّة، وقصر الظفرة ،وفى القلاع الحرّة، والحصون المنيعة، وفى الرّقصات والعيون، وفى العقل واللسان والجَنان. إنّها ها هنا تَسْلُبُ لبّ العاشقين، وتروي صدى وأوامَ الهائمين،من دوحها إنطلق"بحزم" هديلُ الحمامٍ نائحاً ذات مساء، حزيناً، باكياً، شاكياً، يلقّن المحبّينَ والعاشقينَ أصولَ العشق، والهيام، والهوى،والحبّ، والصّبابة والجوى،إنّهم لا يمقتونك، بل معجبون، إنهم يفرّون منك إليك، يغيبون بك عنك وإليك، فيظنّون أنهم أنت..! الأندلس هذا النّهر الجارف المنهمر، من يستطيع الغوصَ فيه، أو الدنوّ منه لآب إلى النّبع الأوّل ، هذا الوادي الرّقراق الذي شقّ النّسيمُ عليه يوما جيبَ قميصه، فانسابَ من شطّيه يطلب ثارَه، فتضاحكت ورقُ الحمام بدوحها هزءاً ، فضمّ من الحياء إزارَه. الأندلس هذه الفاكهة المحرّمة المعلقة فى شجرة ليس لها جدع قائم ، من يطولها يطول الخلد ، وتعود إليه الحياة فى ثوب قشيب جديد متجدّد. الأندلس هذه الأغرودة الحلوة الحالمة التى تنطلق عند الأصيل من حنجرة رخيمة (لفلاّح منكوب) " الفْلاَمِنْكُو"..! على ضفاف الآهات،ورموش العيون المُسبلة ، تتمازج فى رونق بديع،وبهاء رائع مع ترانيم وتغاريد الطيور،ووجه المليح مشعّ مثل الثريّا ،والسّاقي المؤدّب يسقي بالأواني البندقية ، والعيدان تصنع تواشي منوّعة، فلا يملّ السّمعُ منها ولا يشبع، ولا يكلّ اللحظ ولا يدمع ، ولا يفلّ القلب منها ولا يشفع ، هذا الحسنُ الباهرُ، والجمالُ الظاهرُ، هذه الأنثى الهائمة المخصاب التى تغنّى بمفاتنها الشّعراء، وصدح ببهائها المنشدون، فجاءت هاشّة، باشّة، فرحة، جذلة ، كغادة فاتنة أو كغجريّة حسناء حالمة، يسافر شَعْرُها الحريريّ الفاحم المجنون فى كلّ الدنيا، ثمّ سرعان ما يعود لينسدل على الخصر حُسْنَا وبهاءً...! صدقتَ أيها الشّاعر العاشق الولهان ، صدقت أيها الشّاعر المكلوم، وصدق حبّك للأرض لتي نعتوها بالفردوس ، وللمرأة الولود ، كيف لا وحولك ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجارُ...! أبو عبد الله الصّغير شكراً لك أيّها الشّاعر الرّاوي المتيّم ،المقتفي لآثارهذاالسلطان السيّئ الطّالع أبي عبد الله الصّغير ، كما يقتفي الشاعر المعنّى"بابلو نيرودا" لآثار أرْجُل النَّوارس على الرّمال،فى الشطآن النائية،شعرك غذاء للنّفس،والعقل،والوجدان معاً ، نصّك سجّاد طائر، وسردك زورق من ورق بلّوري ساحر، ينقل قارئه فى رحلة ممتعة إلى عمق التاريخ،عبر قارب إسمه اللغة فى أرقى مظاهرها، وأبهى حللها ، لتطيرأو تطوف به على ثبج الزّمن السّرمد، وغياهب المسافات، مهما شحط المزار، أوبعدت الديار، جَلَمُكَ الأعلى يراعٌ أو بَوْصلة بيد ربّان يجيد فنّ الإبحار فى مباهج اللغة وشواردها، أشرعته كلماتك الموفية، وحيزومه أسلوبك السّلس،الذي يأخذ بمجامع القلوب، بإجادتك فنّ الغَوْص، أخرجتَ لنا تلك الدّررالنفيسة، والصدفات المتلألئة التي ترصّع فلكك بالقوافى الغرّ، والقصائد الموشيّة. تتبع خطوات أبي عبد الله الصغير،باحثاً عنه فى سديم الليالي، والدياجي الحالكات بمصباح ديوجين لرصد آهاتِه وزفراتِه، وتسجيل حسراته وتنهيداته، رحلتك متعة وفائدة وهي عبرة لمن يعتبر ،فالعبرة أمّ الخبرة ، والتاريخ ما زال معلمنا الأوّل والأخير، فهل من مصغ ٍ، وهل من متّعظٍ ،" كفّ إذن عن قراءة التاريخ،وإقرأ الحاضرَ لترى كيف تعود إليك الصّور، وتسترجع المعاني ما رسب فى قعرها من ثمالات". أبوعبد الله الصغير صَغُرَ فى أعين الناس ، ولكنّه كبر فى أعيننا بسردك البليغ الذي ينبض حياةً وحيويّةً، ويتدفّق خصوبةً ونضرةً، لقد إرتقيت بأنفاسنا بحلو كلامك، وطلاوة بيانك،ولكن سرعان ما إنهدّت قلوبنا مع تنهيدة أبي عبد الله، لحظة التسليم المذلة، على الرّبوة إيّاها التي ما زالت تحمل إسمه،والتي ظلت وصمةَ عار مرسومة على كلّ جبين، بتنازله المخزي عن درّة المدن،وبهجة الحواضرغرناطة الحمراء ،آخرمعاقل المسلمين فى هذا الفردوس المأسوف عليه ،إنّه :" وترٌ تحطّم أو تمزّق في قيثارة جنح الليل"... و"جفّت مآقي دموعنا على غرناطة الأولى،وبكينا أخواتها اللاّحقات"...!. "فالحضارات دُوَلُ... والسؤدد برهة" ... صدقتَ،وأبلغتَ،وأقنعتَ، وأصبتَ يا أيّها الشاعرالماجد المكلوم...! الشّاعر المُتيّم شاعر الحمراء إبن زُمْرُك الهائم والمتيّم فى الأندلس، وماضي الأندلس، وشعر الأندلس،وأدب الأندلس، وموسيقي الأندلس، وتاريخ الأندلس،وعمران الاندلس، ورفاهية وترف الأندلس، وقصور،وحصون الأندلس، خطّ على حاشية مرمر مسنون، وذهب موضون ببهو الأسود هذه الأبيات التي يقول فيها : يذوب لجين سال بين جواهر غدا مثله فى الحُسْن أبيضَ صافيَا تشابه جار للعيون بجامد فلم ندر أيّا منهما كان جاريَا ألم تر أنّ الماءَ يجرى بصفحها ولكنّها سدّت عليه المجاريَا كمثل محبٍّ فاضَ بالدّمع جفنُه وغيض ذاك الدّمعُ إذ خاف واشيَا قال الشّاعر الغرناطي الذائع الصّيت " فيدريكو غارسيا لوركا " معلقاً على هذه المأساة :" لقد ضاعت حضارة رائعة ، لا نظير لها ،ضاع الشّعر، ضاعت علوم الفلك ، ضاعت الفنون المعمارية، وضاعت حياة مترفة فريدة ، لا مثيل لكلّ ذلك فى العالم أجمع". وقال" بلاسكو إبانييز": " جعل المسلمون من إسبانيا في ذلك العهد كالولايات المتّحدة الأمريكية، يعيش فيها المسلم والمسيحي واليهودي بحرية تامة ومن غير تعصّب ،و عندما كانت دول أوربا تتطاحن،وتتقاتل في حروب دينية وإقليمية فيما بينها، كان المسلمون والاسبان واليهود يعيشون فى سلام كتلةً واحدة، وأمّة واحدة،فزاد سكان البلاد ، وإرتقى فيها الفنّ، و إزدهرت العلوم، و أسّست الجامعات. سَكَنَ ملوكُها القصورَ، وعاش شعبُها في الرّخاء، بينما كان ملوك بلدان الشمال يبيتون في قلاعٍ صخريّة سوداء،و شعوبها تعيش في أحقر المنازل" . -عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - كولومبيا