هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    أخبار الساحة    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حزب العدالة والتنمية والدستور
نشر في هسبريس يوم 26 - 06 - 2011


رباعيات السياقات والمنطلقات والمعايير والخلاصات
بين البهرجة والتطبيل والعودة لأيام فاسد التهليل والتبجيل، وعادات بائدة بائسة تستهين بالعقول، وتثاقل الوطن إلى الأرض منعا له وحبسا من الحرية والتنمية والانعتاق من شرور سنوات القهر والاستبداد؛ وبين نعم التي سابقت الإعلان على الدستور فسبقته أو كادت، في تجمعات لأحزاب لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، يشعر الانسان بالرهبة، وربما الغثيان، إن هو تصور، ولو حلما، إمكانية ائتمانها على مصير هذا الوطن في ظل صلاحيات مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء؛ وبين أصوات تعلو لعدميين من ذات اليمن وذات الشمال، لم يجرؤوا على الافصاح عن مشاريعهم بكل وضوح ومسؤولية، فدلسوا وبدلوا وزايدوا، وسابقوا هم أيضا الإعلان على مشروع الدستور، فقالوا لا قبل الأوان.
بين كل هؤلاء وهؤلاء، وجب إفراز طريق ثالث، ومنهجية وسطية لا بهرجية ولا عدمية، ليست مشروطة ضرورة بقول نعم، فهي، مع أنها قد تفرز قول نعم بجرأة ومسؤولية بعد حرية تعبير وتداول وتقليب نظر وتصويت، يمكن لها أيضا أن تفرز قول لا كنتاج تحليل ورصد وتخوف وعدم اقتناع، لكن بوضوح وبمسؤولية؛ وهذا هو الوضع الطبيعي مادام الانسان انسان، فما كان الإجماع يوما في شيء أو في شخص متحققا، ولو جاز للإجماع أن يحصل، وأن يكون شرفا فوق هذه الأرض وقبل يوم العرض، لحق لسيد الخلق محمد (ص)، لكن الدنيا مكان اختلاف، بل الاختلاف هو سر الخالق في خلقه، ومن ذلك قوله تعالى بالصريح الفصيح: ''ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم''، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: ''ولو شاء ربُّك لآمَنَ مَن في الأرض كلِّهم، أفأنت تُكرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين''.
في هذا السياق، وتنمية للأذواق، أذواق النقاش العمومي ومعانقة هموم السياسة، بوعي وبصيرة، تأتي هذه الأفكار لتبسط، من موقع رأي صاحبها، تعاطي حزب العدالة والتنمية مع دستور استثنائي. فلننظر للحكاية من البداية.
السياقات
مهما اختلفنا حول مشروع الدستور أو قبله أو بعده، فالأكيد أننا نتفق على أنه نتاج سياقات استثنائية قد لا يكتب لأجيال من الناس أن تعيشها، سياقات إقليمية ووطنية، لو سئل أكثرنا تفاؤلا، في نهاية السنة الماضية عن إمكانية حدوثها لما تفتق خياله مهما اتسع على استشراف ما نعيشه من ثورات وأحداث استثنائية بجميع المقاييس. ويمكن إجمال هذه السياقات في أربع وهي:
1. السياق التراجعي الهيمني:
ليس الغرض من إثارة هذا السياق المشؤوم، زرع اليأس في سياق أمل واسع بدأ يزرع عند عديد من المواطنين، أمل غد أفضل؛ لكن الغرض الأساس هو الانتباه إلى المسافة التي تفصلنا اليوم عن السياق التراجعي الهيمني الذي دخلناه منذ أحداث 16 ماي 2003، والذي وصل مداه مع مشروع الحزب الهيمني الذي تحكم واستأسد، وأرهب وأرعب، وكاد، لو لطف الله، أن يدخل البلد في نفق غير معلوم الخسائر، وربما كنا سنصل إلى وضع تونس أو مصر قبل الثورة في زمن قياسي.
إن السياق التراجعي الهيمني التحكمي للنافذين الجدد، ينبغي أن يظل نصب أعيننا دائما، حتى لا نعود إلى مثل تلك الأيام البائدة لا قدر الله، التي تحالف فيها خليط عجيب غريب، من عناصره خدام المخزن الذين أمضوا سنوات طوال في موقع المسؤولية، ودبروا ملفات بالغة الحساسية تدبيرا سيئا يشهد بذلك السوء، حجم الضرر الذي لحق بالسياسة والمجتمع، وبالحريات والأرزاق، وبصورة المغرب في أعين أبنائه أولا، ثم أعين الخارج من محبي المغرب وأعدائه ثانيا؛ ومن عناصر هذا الخليط الغريب أيضا، يساريون فاشلون، تقدموا لانتخابات جزئية ففشلوا، وعوض أن يعيدوا الكرة، وفق القواعد الديموقراطية، صعدوا المصعد، مصعد الهمة العالية، وبقدرة قادر تحولوا إلى فاعلين في ''قلب النظام''، بعدما كانوا في زمن مضى راغبين في قلب النظام، كل ذلك في تحالف هجين بين مبادئ ''النضال'' وأدوات المخزن العتيق، أدوات التحكم والهيمنة والاستبداد.
المطلوب في سياق مشروع الدستور الجديد، أن نرفع أصواتنا جميعا اليوم وغدا وبعد غد، أن لا مكان في مغرب الحاضر والمستقبل، للوسطاء الفاشلين، الذين اعتادوا العمل من وراء حجاب، دون رغبة في أداء فاتورة تحمل المسؤولية، كما اعتادوا أيضا المتاجرة بالتخويف والتفريق والمبالغة في الركوع والانحناء، الذي يقدمونه للملك على أساس أنه دليل ولاء وإخلاص، والحقيقة أن ركوهم وانحناءهم يزداد بقدر زيادة حصتهم من ''ثمار'' كثير الفساد وكبير الريع.
2. سياق ربيع الديموقراطية العربي:
سبحان الذي يخرج الحي من الميت؛ فمن جميل الأقدار، ومن غرائب الحكم والأسرار، أن نشهد جميعا، انبثاق حياة الحرية وهبوب نسائم فجر الديموقراطية، من موات القهر والاستبداد وتسلط الإرهاب والفساد. من كان يتصور أن من موت البوعزيزي، رحمه الله وغفر له، ستنبثق حياة جديدة لم نكن نحلم بها في بلدان القهر والجور، حياة شعارها الجامع المانع ''الشعب يريد''، بعدما أمضيا عقودا في سماع شعار ''الحاكم يريد''، وكأن منطق السياسة اعتدل واستقام، وبدأ يمشي سويا على صراط مستقيم، بعدما كان مكبا على وجهه تائها في ضلال.
إن مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء، هو بكل تأكيد ثمرة من ثمار ربيع الديموقراطية العربي، فما كان أحدنا يتصور أننا سنعيد النظر في الدستور بهذ السرعة، والمأكد أيضا أن هذا السياق قد عجل بالأمر ورفع سقف الإصلاحات إلى قدر لم يكن متصورا في ظل الاختلال الكبير في موازين القوى الذي عشناه في ظل السياق التراجعي الهيمني السالف الذكر.
3. سياق 20 فبراير:
20 فبراير هو عنوان تبيئة ربيع الديموقراطيةالعربي بالوطن الجريح؛ 20 فبراير في مسارها الأول، كحركة شبابية متحررة من أغلال التنظيمات، ومن إكراهات السياسة، ومن آثار الضربات الموجعة التي كان الحزب الأغلبي يوجهها لخصومه عبر أسلحة محرمة ديموقراطيا، هي التي كان لها فضل الإسهام، بالقدر النافع، في التعجيل بدخول المغرب بوابة ربيع الديموقراطية العربي. طبعا بعد المسار الأول وبعد الإسهام بالقدر النافع، جرت مياه كثيرة في مسار الحركة، وهو مسار يحتاج تأملا مستقلا وتقييما خاصا. والخلاصة الأهم المتعلقة بهذا السياق هو إثبات إسهام حركة 20 فبراير في التسريع والرفع من وتيرة الإصلاحات بصفة عامة، وإخراج مشروع الدستور بصفة خاصة.
4. سياق 9 مارس:
حين انهيار النظام التونسي، وحين نجاح ثورة الشباب المصري، وبعد نزول شباب حركة 20 فبراير إلى الشارع، وعلى إثر النقاش العمومي الواسع الذي دار حول الثورات العربية والخصوصصية المغربية، نفيا أو إثباتا لهذ الأخيرة، توجهت البوصلة نحو القصر، وكان انتظار مبادرة الملك، باعتباره أهم الفاعلين السياسيين، وباعتبار أن الإشكال المركزي الذي كان عقدة الوضع السياسي المرتبك عندنا، هو الوضع الدستوري المختل، وتداخل الصلاحيات والمسؤوليات، وتعذر إعمال المبدأ الأساسي للحكامة الجيدة، وهو ربط المسؤولية بالمحاسبة.
في هذا السياق الدقيق، كان خطاب 09 مارس، الذي جاء واضحا جليا في التقاطه لنبض الشعب كل الشعب، سواء فئات الشعب التس خرجت في حراك 20 فبراير على قلة عددها، أو الفئات الواسعة التي تحفظت ولم ترد المغامرة بالاستقرار العام، في محيط إقليمي شعاره الهادر ''ارحل'' و ''الشعب يريد إسقاط النظام''. فكان الخطاب قويا صريحا مصلحا ومبادرا بمراجعات حقيقية شكلت عنوانا لميلاد تعاقد جديد بين الملك والشعب.
كان الخطاب، وكانت المقاربة الجديدة والمنهجية التشاركية، وكانت الإرادة المشتركة، بالدخول إلى ربيع الديموقراطية العربي، من بابه الواسع، بأقل قدر من الخسائر، وبكثير من الحكمة تجسيدا للخصوصية المغربية، التي تأكدت مرة أخرى. ولا يمكن أن نقدر هذه الخصوصية إلا إذا تصورنا ''التاريخ الذي لم يكتب''، وعشنا ولو فرضا، سيناريو آخر كان بإمكان الملك أن يعلنه وهو سيناريو المؤامرة والتدخل الأجنبي وأيادي القاعدة؛ وهي كلها مبررات ساقتها أنظمة للظلم والخراب، فأدخلت بلدانها في متاهات الله أعلم بمداها. فالحمد لله الذي من علينا في هذا الوطن بنعمة التحرر من مسار التراجع والهيمنة، دون الحاجة إلى فقدان ألأامن والاستقرار.
المنطلقات
منذ بدء الحراك العربي، والنقاشات تترى داخل حزب العدالة والتنيمة، وفي محيطه، وحتى بين خصومه؛ وفي كثير من الأحيان، يكون الخلاف حول الموقف اللازم من هذا الحدث أو ذاك، وكانت ذروة الخلاف في الموقف من الخروج الأول لحركة 20 فبراير، والحقيقة أنه في غمرة السياسة، وفي تتالي الأحداث، تبهت المنطلقات وأصول المنهج، ومرتكزات المواقف. وهنا وجب التنبيه إلى أمر جوهري، وهو أنه ليس مطلوبا من الحزب أن يطرب بأي ثمن، وليس مطلوبا منه أن يتبع هذا الحراك أو ذاك، المطلوب من الحزب المسؤول أن يؤطر المواطنين قياما بدوره الدستوري، وأن يكون هذا التأطير مستندا إلى أصول منهجه وقواعد اشتغاله، وطبيعي ألا توافق آراء الحزب هوى كل الناس، وطبيعي أيضا أن تتمايز مقاربته عن مقارابات الحركات الشبابية أو حتى الأحزاب السياسية. والأصل الجامع لكل هذا هو قيام كل طرف بدوره، فاختلاط الأدوار وتضاربها هو مدعاة طلسمة وتيه، إثمهما أكبر من نفعهما.
في سياق بيان موقف حزب العدالة والتنيمة من الدستور، وجب التنبيه، في هذا السياق، إلى أهمية المنطلقات التالية:
1. السياسة مدخل من مداخل الإصلاح العام:
أول ما ينبغي الانتباه إليه هو أصل ومبتدأ مشروع حزب العدالة والتنمية، فالحزب هو نتاج مشروع إصلاحي كبير، بدأ بعيد الاستقلال مع المرحوم الدكتور الخطيب، الرئيس المؤسس، الذي خاض معركة الحريات، وامتنع عن الغوص في براثين الفساد السياسي، وظل على العهد الأول إلى حين التقائه بشباب الحركة الإسلامية، التي راجعت وجددت مسارها، وانخرطت في معركة بناء الوطن، من خلال منهج إصلاحي عام، طابعه الوسطية والاعتدال، ومداخله متعددة الأبواب، والسياسة، على أهميتها ومركزيتها، إن هي في آخر المطاف إلا مدخل من مداخل الإصلاح، قد تتبوأ الصدارة في سياق وقد تتراجع إلى الوراء في سياقات أخرى؛ وكل أمر يقدر بقدره باعتبار المقاصد والمآلات. هذا أول المنطلقات التي تؤطر موقف الحزب من كثير من القضايا، التي قد تبدو للبعض جوهرية وأساسية، إن هو قاربها من زاوية السياسة المحضة الخالصة، وقد تصبح تلك القضية ثانوية إن تم تأطيرها في إطار المشروع العام. وخلاصة الأمر في علاقته بالموقف من الدستور، إن النظر إلى الدستور ينبغي إدراجه في إطار أشمل وأعم من مجرد اللحظة السياسية التي نعيشها على أهميتتها.
2. المشاركة والمخالطة والإصلاح من داخل النسق:
ثاني المنطلقات المرتبطة بهذا السياق، التذكير بأن الحزب هو نتاج خيار المشاركة والتدافع، المؤسس على مراجعة عميقة لمنهج وطرق الإصلاح والتغيير، وهي قناعات بنيت على مهل، وبعمق، في سياق أصعب من السياق الحالي، في سياق نظام نظام الحسن الثاني وادريس البصري، وهو سياق لم يكن يسمح بالتبني السهل لمنهج المشاركة والمخالطة والإصلاح من داخل النسق، ومع ذلك، وبعد كثير من المراجعات، استقر خيارنا على تقديم منهج المشاركة والمخالطة الإيجابية على منهج المقاطعة والانغلاق، وخرج مشروعنا من ضيق الفئوية والسرية والانقلاب، إلى سعة المخالطة والمدافعة والمشاركة والانفتاح على المجتمع والدولة واعتبارهما شريكين في الإصلاح، طوعا أو كرها، فالسفينة واحدة، والخرق واحد، فإن تركناهم وما أرادوا هلكنا جميعا وإن أخذنا بأيديهم وأخذوا بأيدينا نجونا جميعا.
وخلاصة هذا المنطلق أن أجود التغيير وأحسن الإصلاح ما كان إراديا وتوافقيا وتراكميا من داخل النسق، وأسوأ التغيير هو تغيير المضطر ثورة وقطعا وبترا، وهو التغيير الجذري، وهو بالمناسبة غير معلوم التكلفة وغير مضمون النتائج.
3. التدرج وإتمام مكارم الأخلاق:
ثالث المنطلقات، التدرج. وهو من أهم المبادئ التي ميزت مشروعنا العام، وهو سنة كونية وشرعية، فلسفته وعمقه أن الإصلاح مسار صاعد يراكم المكارم ويجودها، ويتمم مكارم الأخلاق الفردية والجماعية، ويقلص النقائص وينقصها، وعمقه ايضا أن ما أفسدته السنين لا تصلحه الأيام. إن التراكم والبناء المتدرج أصعب وأعقد من الهدم ونكث الغزل؛ وهو قد يكون مدعاة قنوط ونفاذ صبر، لكنه مع كل ذلك أنفع وأجدى، ولا مبرر للعدول عنه إلا حين انتفاء كل طريق وكل سبيل، وهي حالات شاذة في العمران البشري عامة، والمغربي خاصة، والشاذ لا حكم له.
وخلاصة هذا المنطلق أن الحكم على الدستور وتقييمه ينبغي أن يستحضر أيضا تموقعه في مسار البناء، وموقعه من تقدم مسارات الإصلاح.
4. صناعة الحياة والأمل:
رابع المنطلقات وخاتمتها في هذا السياق، هو أن الأصعب دائما، هو القدرة على صنع الحياة وزرع الأمل، واقتناص الفرص من عدم، وإشعال الشمعة عوض لعن الظلام. إن قوة الحزب في كونه منبع أمل في الإصلاح وتحسين أحوال البلاد والعباد، وقوته أيضا في القدرة على الإنجاز في حسن الإعمار، وفي حسن تغيير أحوال الوطن والمواطنين إلى الأحسن والأجود، وتلك قوة ما بعدها قوة. أما زرع اليأس، والاشتغال بقانون الكل أو لا شيء، فهو مسار لا يحتاج إلى كثير جهد ولا إلى كبير إبداع.
وخلاصة هذا المنطلق، في سياق النظر في مشروع الدستور، وفي تقييم مسار التفاعل مع ربيع الديموقراطية العربي، هو تثمين كل فرصة للأمل عوض كب الزيت على النار، وما أقواها من نار، والمقارنة بالأوضاع الملتهبة في دول الجوار القريب والبعيد، والتحديث بالنعم، والدعاء الدائم بالتعرف عليها، أي النعم، بدوامها لا بزوالها لا قدر الله.
المعايير
في سياق الاستفتاء حول الدستور كثر الحديث عن تفاصيله وبنوده، وعقدت وتعقد ندوات وبرامج ومهرجانات لتبسيط مواده، وبالموازاة مع هذا فتح نقاش عمومي متقدم وبناء، تتبارز فيه الآراء، نقدا أوتثمينا لمقتضيات الدستور. ويمكن في هذا السياق أن نثمن انفتاح الإعلام العمومي ولأول مرة في تاريخ المغرب المعاصر، على الآراء المخالفة، وهي من النعم التي تستوجب التحدث بها وتثمينها والنضال من أجل ضمان استمررارها. في هذا السياق المتخم بالتفاصيل، تبرز أهمية بيان معايير التقييم العام والإجمالي لمضامين الدستور، حتى نتجنب التيه في تفاصيله التي قد لا يفقهها إلا الراسخون في القانون الدستوري، لكن إمكانية التقييم العام السياسي للدستور متاحة من خلال المعايير التالية:
1- ضمان الحريات والحقوق الأساسية:
الحرية أصل الأصول، وهي مناط التكليف الشرعي والسياسي، فلا رأي لمكره، ولا يمكن تصور بناء ديموقراطية حقيقية في انتفاء الحريات الفردية والجماعية، وفي انعدام الحقوق الأساسية. وأول ما حاولت رصده من خلال النظر وإعادة النظر :كرتين وأكثر في مشروع الدستور هو مدى تقدمه في حفظ الحريات والحقوق الاساسية؟ ويمكن أن أأكد وبدون تردد أن التقدم في هذا المجال واضح ووازن، ويمكن أن نجمل ذلك في ملاحظة عامة إجمالية، وهي اختراق مبادئ الحريات الفردية والجماعية والحقوق الأساسية لكل الدستور من التصدير إلى آخر مواده.
وتفصيلا مختصرا لهذا الأمر، تكفي الإشارة إلى أنه مباشرة بعد الباب الأول المرتبط بالأحكام العامة، تم بيان أهم الحريات والحقوق في 21 فصلا (من الفصل 19 إلى الفصل 40) خصصت حصرا لهذا الأمر. حيث تم تثبيت حق المساواة بين الرجل والمرأة، وتم إقرار مبدأ المناصفة، وتم ضمان الحق في الحياة، كأول حق من حقوق الإنسان، وتم تجريم التعذيب بكافة أشكاله، وتم اعتبار الاعتقال التعسفي أو السري أو الاختفاء القسري من أخطر الجرائم، وفي هذا الأمر قطع للمغرب مع سنوات مظلمة من تاريخه. كما تم ضمان قرينة البراءة والحق في المحاكمة العادلة والحق في التعويض عن الضرر القضائي من قبل الدولة؛ وتم أيضا حظر العنصرية والكراهية والعنف، كما تم ضمان حرية الفكر والتعبير والإبداع والنشر، وهي حقوق أساسية تضمن للمجتع حرية التعبير في إطار القانون عن نفسه وعن أفكاره بكل جرأة ومسؤولية.
تم أيضا ضمان حريات عامة أساسية من مثل الحق في الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي وتأسيس الجمعيات، وحرية الانتماء النقابي والسياسي، والحق في الإضراب. كما تم ضمان حرية الصحافة، وتمت دسترة الحق في الولوج إلى المعلومة.
من إيجابيات مشروع الدستور أيضا، ضمانه لتساوي الفرص ودعم ذلك بضمان عدد من الحقوق الاساسية (الفصل 31)، وهي حقوق في حال تنزيلها ستفتح آفاقا مهمة للفئات الهشة من المواطنين، وما أكثرها؛ ومما تضمنه الدستور أيضا ضمان حق الملكية، وتنقية وتقوية مجال الأعمال بضمان حق المبادرة والمقاولة، وتساوي الفرص في الاستثمار من خلال المعاقبة على المخالفات المتعلقة بحالات تنازع المصالح وعلى استغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه.
والخلاصة أن مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء، قد رصد وحفظ حقوقا وافرة ومتعددة، ستحصن دون شك، مكتسبات كانت نتاج نضالات وتضحيات مغاربة قد نختلف معهم، لكن نعترف لهم بفضل التضحية لأجل ضمان حقوق دونها، في بلدان تشتعل اليوم، قطع للرقاب. طبعا لا بد من التأكيد أن كثيرا من هذه الحقوق تحتاج إلى تفعيل وبعضها يحتاج إلى إيجاد ابتدائي، وبعضها ستصدقها الممارسة أو ستكذبها، لكن مع كل ذلك فكل تلك الحقوق موجودة في الدستور.
2. حفظ الهوية:
في الحقيقة كنت أود ألا تكون الهوية معيارا لتقييم الدستور، كما أن حزب العدالة والتنمية لم يجعل من هذا الأمر معركته الأساسية، حيث اعتبرنا أن هذه اللحظة التاريخية هي لحظة الحرية والديموقراطية أساسا، وأن أي تشويش على شعار المرحلة هو عمل ضد التيار وهو إرباك وتحريف للمسار؛ لكن للأسف كشف مسار مراجعة الدستور عن قلة فقه وضعف فهم عند بعض من الناس، ربما من فرط انبهارهم بالغرب ظنوا أننا أنظمة غربية لكنها مترجمة، والأصل أننا من ماء، ومن طين السماء، شعبنا بنى مجده وصاغ تاريخه من خلال ثوابت جامعة، توفق مشروع الدستور حينما أجملها في إحدى جوامع كلمه، فقال: ''تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والختيار الديموقراطي''.
تلك دقائق ورقائق المغرب العميق، لا يفقهها كثير من الناس، ومنهم أولائك الذين شوشوا، وأرادوا أن يؤسسوا لمغرب لا نعرفه، لكن الله سلم فحفظ الدستور مقوما أساسيا من مقومات الأمة المغربية، الإسلام بما هو الركن الأساس لكل تقدم ونهضة واستقرار.
3. تعزيز الديموقراطية:
الديموقراطية، هي كلمة السر، هي نتاج الكفاح الإنساني ضد القهر والاستبداد والظلم، هي سلاح الشعب الفتاك ضد التحكم والقهر، إذا تدفق ماؤها اهتزت به المجتمعات وربت وانبتت من كل زوج بهيج. وإن هي أجذبت لا عدلا أبقت ولا تنمية أقامت.
ومن معايير تقييم مشروع الدستور مدى تقدمه في مسار الدمقرطة؟ وهنا لا بد من الاعتراف بمكاسب حقيقة تضمنها الدستور، ومن أهمها اعتبار الاختيار الديموقراطي من الثوابت الجامعة للأمة، ومنها منح السيادة للأمة، وهو مبدأ يضمن انبثاق المشروعية عن الشعب ''الشعب يريد''، وضمان ذلك الاقتراع الحر النزيه المنتظم (الفصل 2).
ومن التقدم في الدمقرطة إعادة الاعتبار للسياسة والعمل الحزبي، فقد ساد خطاب مخزني كان رجع صداه الحزب الهيمني، الذي بنى مشروعه على مسلمة انتهاء صلاحيات الأحزاب، ومجيئ المنقذ من الضلال، هو والمبدلين من الرفاق، لتجديد السياسة من خلال نخب جديدة، وبقية القصة والمأساة أنتم تعلمونها، فقد صارت أشهر من نار على علم. وقد جاء مشروع الدستور واضحا في الفصل 7، في اعترافه بدور الأحزاب السياسية وتعريفها وحصر أدوارها بما هو متعارف عليه في الأنظمة الديموقراطية.
ومن التقدم في المسار الديموقراطي اعتبار الانتخابات أساس مشروعية التمثيل الديموقراطي، وإلزام السلطات العمومية بالحياد التام إزاء المترشحين (الفصل 11)؛ ومن أهم المقتضيات أيضا القطع النهائي مع ظاهرة الترحال السياسي (الفصل 61).
ومن المقتضيات المهمة في الدمقرطة منح الصدارة للسلطة التشريعية، وتركيز أهم الاختصاصات في مجلس النواب الذي استعاد مكانه الطبيعي كأول غرفة في البرلمان، ومنح صلاحية منح الثقة للحكومة قصد تنصيبها (الفصل 88)، ومنها أيضا توسيع مجال القانون. ومنها أيضا دسترة المعارضة، ومنحها حقوق واضحة، وتقليص الأنصبة اللازمة لممارسة الرقابة.
ومن مقتضيات الدمقرطة الواضحة في الدستور ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتوضيح الصلاحيات والمسؤوليات بما يضمن إزاحة اللبس، وحذف الأعذار التي كانت تمكن كل مسؤول من الافلات من المحاسبة بدعوى عدم مسؤوليته عما يقع. ويمكن تتبع ذلك بالتفاصيل في أبواب الملكية (الباب 3)، السلطة التشريعية (الباب 4)، السلطة التنفيذية (الباب 5)، والعلاقات بين السلط (الباب 6).
ومن أهم مقومات الدمقرطة كما تضمنها مشروع الدستور، الاعتراف بالقضاء كسلطة مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية (الفصل 107). والخلاصة أن مشروع الدستور أعطى وضمن مقومات وأسس مهمة كفيلة بضمان ممارسة ديموقراطية متقدمة تستجيب لتطلعات فئات واسعة من السياسيين، وتضع لبنات مهمة في البناء الديموقراطي المتدرج.
4. المأسسة واستكمال بناء الدولة:
المأسسة هي تعبير عن نضج المجتمع والدولة، وهي ضمان استقرار موضوعي غير مرتبط بتقلبات الأشخاص والأهواء والقلوب. والمأسسة المتدرجة والواعية كلها خير، فهي ضمان للقطع مع زمن الشخصنة وربط الدولة والمجتمع بالأفراد مهما صلحت نياتهم وحسنت أعمالهم. إن الوضع الذي كنا فيه كان يرهن البلد كلها بشخص الملك، الذي كان مشجب من لا خلاق له، وكان عذر الفاشلين من المسؤولين، كما كان فائض سلطته مرتعا لفاسدين كثر استغلوا قربهم من الملك، وضعف وضوح المؤسسات والصلاحيات، فأخذوا يعيثون في الأرض قهرا وجورا، وتحكما وغصبا. ومشروع الدستور يتقدم بنا تقدما بينا في بناء دولة المؤسسات الواضحة الاختصاصات، المتكاملة والمتعاونة؛ لكنها منفصلة بصلاحيات واضحة بقدر لا بأس به، يمكن من بالتدافع النافع المانع لغلبة الفساد.
ومن التقدم في المأسسة، توضيح مؤسسة الملك، (الباب الثالث – فصول 41 إلى 59)، حيث تم حصر الصلاحيات وتوضيحها، وتم الاشتغال على مفهوم جوهري، خلاصته ''الملك المواطن''، غير المقدس الذي لا تنتهك حرمته، وله واجب التقدير والاحترام، (الفصل 46)، كما تم إعمال مبدإ المساواة بين المواطنين، فصار سن رشد الملك كسن رشد كافة المغاربة. وتم توضيح وحصر الصلاحيات التشريعية للملك. وكل هذه المقتضيات وغيرها مما هو مفصل في المواد المشار إليها أعلاه تشكل تقدما بارزا في الدمقرطة والمأسسة.
ومن التقدم في المأسسة أيضا دسترة المجلس الأعلى للأمن (المادة 54) كإطار مؤسسي للتداول في قضايا الأمن الداخلي والخارجي، ولتتضح المسؤوليات، ويتم القطع مع سياسات أمنية انفرادية انتقامية، جرت علينا شرورا كثيرة منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا.
ومن التقدم في المأسسة أيضا مأسسة مؤسسة مجلس الحكومة وحصر صلاحياتها (الفصل 92)؛ ومن ذلك أيضا حصر صلاحيات مجلس الوزراء (المادة 49)، ومأسسة السلطة القضائية وضمان استقلالها المالي والإداري (الباب السابع – الفصول 107 إلى 128)؛ وإحداث المحكمة الدستورية وتحديد تركيبتها وصلاحياتها (الباب الثامن – الفصول 129 إلى 134)؛ وتقوية مؤسسات الجهات في إطار مفهوم ناظم وهو الجهوية المتقدمة وما يعنيه ذلك من صلاحيات وإمكانيات (الباب التاسع – المواد 135 إلى 146).
وبالإضافة إلى المجلس الأعلى للحسابات، والمجلس الاقتصادي والبيئي، تمت دسترة 10 مؤسسات وهيئات لحماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة، والتنمية البشرية والمستدامة والديموقراطية التشاركية وهيئات حماية حقوق الانسان والنهوض بها (الفصول 161 إلى 171)، وكلها مؤسسات مجتمعية تكمل البناء المؤسسي الضامن للاستقرار والمتيح للحراك للازم والتدافع الواجب لتنمية البلاد .
والخلاصة، أن مشروع الدستور قد تقدم بشكل جيد ومقدر في مسار بناء المؤسسات، وتفتيت السلط، ووضع لبنات مهمة في مسار بناء دولة المؤسسات الضامنة للحقوق، والمتيحة لإمكانيات المراقبة بما يحد من تفلت الدولة ومؤسساتها من عقال المجتمع، ومن قواعد المحاسبة، وبالمناسبة فالدولة هي أولى الفاسقات عن الدين والمجتمع، وطبيعتها التغول والتمدد، ولا ضمان لعكس هذا إلا حيوية المجتمع ويقظته بمؤسساته وأفراده، وتلك قصة كفاح دائم ممتد دوام حاجة الناس لدولة تجمعهم، ومسؤولين مفوضين لخدمتهم، ليتفرغوا، أي الناس عموم الناس، لإعمار الأرض واستباق الخيرات.
الخلاصات
1. نعم للدستور:
أول الخلاصات هي نعم لمشروع الدستور، كان ذلك قرار المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، بأغلبية ساحقة هي نتاج نقاش مسؤول وتصوت سري غير معلوم النتائج مسبقا. ونعم هذه كلها جرأة ومسؤولية ووضوح، مبتدؤها منطلقات منهجية واضحة تعتبر ضمان لمسار الحزب، ومعالم يرجع إليها حين اختلاط المفاسد بالمصالح، وذلك غالب حال السياسية. ونعم أيضا هي واضحة وقوية باعتبار التقدم البين في معايير الحريات والحقوق الأساسية، والهوية، والدمقرطة والمأسسة، وكلها معايير وقواعد تضعنا على مسار سوي صحيح بإذن الله، يقطع دابر المتحكمين النافذين، ويفتح بابا بل أبوابا للأمل في الإصلاح.
2. الدستور وحده لا يكفي:
ثاني الخلاصات أن الدستور وحده غير كاف لا اليوم ولا غدا، فلا بد من الإجراءات المصاحبة، لا بد من وقف فوري لكل بقايا المسار التراجعي الخبيث، لا بد من إصلاحات سياسية عميقة، لا بد من انتخابات حرة ونزيهة، لا بد من تفتيت بنيات الاستبداد. لا بد للمجتمع أن يتحمل مسؤولياته وينزل إلى الأرض، ويصبح فاعلا لا مفعولا به، ولا بد له أيضا أن يشهر صوته ضد رموز الفساد، وأن يحمي مكتسباته، وعلى الشباب أن يتشكلوا في جمعيات وشبكات لحماية المسار الديموقراطي من خلال مراقبة كافة العمليات الانتخابية، والتصويت بكثافة تمنع المتاجرين من بيع الوهم والمتاجرة بالفقر .
لا بد أيضا من الانتباه إلى المعارك المقبلة، معارك القوانين التنظيمية، ومعارك التأويل الديموقراطي لمواد الدستور، والنضال من أجل أن يتنفس المغرب دولة وشعبا ومؤسسات الديموقراطية مع الهواء، ذلك أن ضمان الديموقراطية، هو الشعب الديموقراطي، ولا شعب ديموقراطي بدون ثقافة ديموقراطية صاعدة ونازلة وأفقية.
3. تحدي بناء النخب السياسية:
ثالث الخلاصات، التحدي اليوم انتقل إلى الأحزاب والنخب الحزبية، الصلاحيات واضحة ومتقدمة، والأوراش متعددة، ولا ديموقراطية بدون أحزاب ديموقراطية، فالمطلوب من الأحزاب أن تكون في مستوى التحدي، المطلوب منها أن تستقطب كفاءات المجتمع وصلحائه، وما أكثرهم، ليسهموا في البناء، فلا عذر بعد اليوم.
4. تحدي إقامة العدل وتنمية الوطن:
رابع الخلاصات، إن المغرب اليوم أمام تحدي جوهري، هو جوهر السياسة ومعناها؛ فالدستور والمؤسسات والصلاحيات، والملك ورئيس الحكومة والبرلمان، والسلطة القضائية والمجلس الأعلى للأمن، كل ذلك وغيره إنما يجد معناه إن هو حقق العدل ونمى الوطن، والواقع الذي لا شك فيه، أننا لا زلنا بعيدين عن تحقيق هذه الأهداف، وهي أكبر من حزب بل أحزاب، وهي مشروع أمة بأكملها، على الصلحاء والعقلاء والفضلاء من أبناء الوطن أن يتعاهدوا على العمل معا بإرادة وعزم صادقين، علهم إن صلحت النية وصلح العمل يرجعون قطار الوطن إلى مسار فقدناه لقرون، ولا تستغربوا، فمن منكم يذكر عظماء هذا الوطن الذين بنوا وفتحوا وأبدعوا. آن أوان تجديد العزم وبدإ المسار بجد وبمسؤولية علنا نترك لابنائنا وطنا أسعد وأنقى وأبهى من هذا الذي نحن نحترق لأجله ونكتوي بنار العابثين به.
ختاما
الدستور هو وثيقة مكتوبة تعبر عن لحظة تاريخية معينة، وتعكس موازين القوى الخاصة بتلك اللحظة؛ وهو أيضا وثيقة جامعة للأمة وليست ميثاق طائفة أو فئة، وأثرها لن يكون إلا من خلال تمثل روحها والامتثال لمقتضياتها، والنضال المستمر من أجل تجويدها بالمراجعات اللازمة واحترامها تنزيلا وتفعبلا، وإلا فقيمتها لن تجاوز سواد مدادها، وتكلفة ورقها، وبئس القيمة تلكم.
وأخيرا، هل في الدستور عيوب وثغرات ومواطن التفافات؟ نعم وألف نعم، بالتأكيد، ومن أبرز تلك العيوب الفصل 47، الذي يعطي للملك حق عزل الوزير، وهو ما سيضعف لا شك قوة رئيس الحكومة وقدرته على التحكم في فريق عمله، ونرجو أن يسير الملك في اتجاه تكريس عرف عدم استخدام هذا المقتضى، بما يتناسب مع النفس الديموقراطي الواضح في الدستور. ومن تلك العيوب الواضحة أيضا الفصل 63 المتعلق بمجلس المستشارين، الذي سيتم تشكيله بالاقتراع العام غير المباشر، ومعلوم عند القاصي والداني ثمن مقعد مجلس المستشارين اليوم، وهو الثمن الذي سيتضاعف، لا شك، ثلاث مرات أو أكثر في الاقتراع المقبل، وتلك مصيبة كان من الممكن تجاوزها، لكن الدستور كما يقال دائما هو انعكاس لموازين القوى، ويبدو أن هناك أقواما وازنين مؤثرين، ومعركة الديموقراطيين معهم لم تنته بعد.
لكن متى كان الدستور كاملا؟ فما كل ما يتمنى المرء يدركه؟ بل لوكنا في غير هذا الوضع لما كنا سائرين في طريق النمو إن شئنا التلميح، أو متخلفين إن شئنا التصريح وهو أفصح وأدق. ودمتم سالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.