لا يمكن إلا التنديد باستعمال الدولة للقوة لتفريق متظاهرين سلميين، قدموا دروسا في الاحتجاج السلمي وحماية المؤسسات، فاللجوء إلى لغة العصا لن يفضي سوى إلى تعقيد الأمور ودفع المنطقة إلى مزيد من التوتر. لنصخ السمع قليلا إلى هؤلاء الشباب: يقولون إن المصالحة مع الريف لم تتم يوما وأن صيغتها كانت محرفة، وعوض أن تتصالح الدولة مع التاريخ والجغرافيا تصالحت مع الأشخاص، واعتقدت لأكثر من عقد أن مجرد اعترافات بسيطة ليساريين ينتمون إلى المنطقة كافية لتحقيق المصالحة.. يقولون إن الريف كان على الدوام منطقة تخيف الدولة بفعل رواسب الماضي وماضي الجمهورية التي أسسها محمد بن عبد الكريم الخطابي، وظل هذا الهاجس ثاويا في وعي ولا وعي الدولة مع ما ترتب عنه من مقاربة أمنية متعسفة في الكثير من الأحيان تجلت بالأساس في الطريقة التي ووجهت بها أحداث 58 والتدخل في أحداث الثمانينيات من القرن الماضي والحملة ضد مزارعي الكيف بعد صدور التقرير الأوربي الشهير في التسعينيات.. يقولون إن المنطقة تعيش حصارا اقتصاديا، فلا تحويل العملة الصعبة بقي ثابتا ينقذ العائلات من الفقر ولا قطاع الصيد البحري حرك العجلة الاقتصادية والمحصلة أن شباب المنطقة ضاع في كل شيء: في العمل وفي الهجرة وفي الحلم أيضا.. يقولون إن الكرامة غير قابلة للتفاوض ولا للمساومة، وأن المصالحة ليست في حاجة إلى وساطات، وإذا تمتلك بالفعل إرادة حقيقية لإصلاح الأوضاع فعليها أن تشرع في مصالحة سياسية لأنها أصل الداء. يقولون إن منطق العصا الغليظة الذي تتعامل به الدولة مع الحركة الاحتجاجية لا يتلاءم مع الخطاب التي يروج منذ ما يقارب العقدين، وليس طبيعيا أن تستمر هاته السياسة إلى ما لا نهاية.. تغيرت الأحوال، على نحو ما، منذ وصول الملك محمد السادس إلى العرش لكن هذا التحول لم يمس البنية الذهنية للمسؤولين الكبار للدولة وظلت الصورة النمطية عن الريف والريفيين منحوتة لدى الجميع حتى هؤلاء الذين كنا نحسبهم عقلاء وتجاوزا منطق القبيلة في القرن الواحد والعشرين، وليس أمرا غريبا أن تضطر للوقوف عشرات المرات عند حواجز الأمن فقط لأن تعريف السيارة ينتمي للريف، وليس غريبا أن تسمع من أناس عاديين على هامش شغب لشباب مفتونين بكرة القدم بأن هؤلاء "مساخط سيدنا". ولا أحد ينكر أن نظام الحسن الثاني اجتهد كثيرا في نحت صورة "الريفي البربري" تاجر الكيف المهرب الراغب في قلب النظام وإسقاطه. إنها نتاج تربية طويلة إلى درجة أنها صارت عقيدة لدى الكثيرين، وليس سهلا بعد كل هذا الحصار والتهميش أن تغير الذهنيات أو تحدثا ارتجاجا في العقليات، وإذا كانت الدولة قد راهنت على تغير الأجيال لإحداث نوع من القطيعة مع الماضي، فإن الحراك الأخير(ذي النفس الطويل) بين بشكل لا يفسح أي مجال للتأويل أن الرهان كان خاسرا جدا. لقد حملوا نفس الشعارات ونفس المطالب التي رفعها محمد سلام أمزيان ورفاقه في الخمسينيات من القرن العشرين، ونفس الإحساس بالتهميش والحكرة مع اختلافات بسيطة جدا، ورددوا خطابات تشبه نفس الخطابات التي رفعت قبل سبعين أن وثمانين عاما. ماذا يعني هذا في السياسة؟ معناه أن سياسة الدولة مع منطقة كان دائما ذات حساسية بالغة فشلت، وما كان يسمى بالقطيعة مع الماضي والمصالحة لم يفض إلى أي شيء، ولعل أول ما يجب أن تلتقطه الدولة من الحراك الشعبي الذي التف حوله لأول مرة أطياف مختلفة منها حتى أولئك الذين ظلوا صامتين لمدة طويلة، أنها بحاجة إلى الاعتراف قبل أن يفوت الآوان أنها لم تنجح في سياساتها الاقتصادية والسياسية والأمنية في التعاطي مع الريف وقد ينسحب هذا الفشل على مناطق أخرى ثم إنها ليس من المقبول بعد اليوم أن يروج مفهوم المصالحة مادام أن الذين تريد أن تتصالح معه يرفض الصيغة التي تقترحها..يرفضها تماما.