جاءت مسرحية الانتخابات الأمريكية التي لم يُتقن إخراجها بترامب الألماني الأصل إلى الدولة العميقة. فوزه لم يكن ديمقراطيا كما يقال، بل كان نتيجة حتمية. فالعامل الذي استفاد منه ترامب تجسد في المناخ السياسي المتعلق بصعود الإرهاب والتطرف وقضية الإسلامفوبيا، مع تنامي تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا الذي أعاد بعض الشيء ظاهرة " الشعبوية " للوجود قوميا ودينيا. كل هذه العوامل انصبت في صالح ترامب الذي تبنى خطابا غير تقليدي، أي أنه خرج عن المألوف أو المسكوت عنه في الكثير من خطاباته مثل معاداة المهاجرين والسود وبناء جدار عازل على الحدود مع المكسيك ومعاداة الإسلام "الراديكالي" والسياسي وربطه بالإرهاب ( ردد معاداته للإسلام "الراديكالي" أيضا بعد ما دهست شاحنة وقتلت ألمانيين ببرلين، حيث قال أن المسلمين يقتلون المسيحيين). استطاع كسب شعبية كبيرة بفضل خطابه الجديد، حيث دغدغ المشاعر، وزاد من صعوده أيضا الخطاب المستهلك عمليا للمرشحة هيلاري كلينتون التي اتهمها بأنها وراء عمليات الإخوان والإرهاب في مصر والمنطقة. فهذا جزء من الحقيقة بحكم منصبها السابق وزيرة للخارجية في حين أن اللعبة كلها يجب انتسابها للدولة العميقة. إن نجاح دونالد ترامب يعود إلى النظام الأمريكي ( الدولة العميقة ) الذي يتحكم فيه خمس قوى رئيسية تحكم البلاد عمليا، هي: أولا: رأس المال مجسدا في الشركات الكبرى كشركات صناعة الأسلحة والبترول والأدوية، وتدير بشكل مباشر أو غير مباشر وسائل الإعلام المقروءة والمنطوقة والمرئية كما تدير بالتمويل والتوجيه مراكز الدراسات والأبحاث والجامعات ثانيا: الأحزاب وهى متصلة بما بينها. ثالثا: المخابرات المركزية الأمريكية ومعها المباحث الفيدرالية وهى شديدة التأثير إلى حد أنها قد تحجز معلومات معينة عن بعض الرؤساء. رابعا: البنتاجون.. أي وزارة الدفاع التي تتبعها القوات المسلحة بأفرعها وقواعدها وأذرعها الطويلة. خامسا: قوى الضغط وفى مقدمتها «ايباك» المنظمة اليهودية. ترامب جاءت به الدولة العميقة لإكمال مشروع القرن الأمريكي الجديد لجعل الولايات المتحدة أحادية القوة لا يتحدى هيمنتها أحد، أمر فشل به جورج دبليو بوش وأوباما من بعده وسيفشل بها ترامب (أحد دعاة الاسلامفوبيا) وبطانته لأنها المهمة المستحيلة، ولكن أثناء تلك المحاولة ستنشر الإمبراطورية الأمريكية الحروب بل البربرية. ومع الأسف سنكون نحن العرب والمسلمون من أكثر ضحايا هذه البربرية خصوصاً وان المتحكمين في أمورنا ما زالوا غارقين في قضايا تافهة. وهنا أود أن أبين أنه لا فرق بين الديمقراطيين أو الجمهوريين، فتدمير سوريا تمّ من طرف الديمقراطيين، بينما تمّ تدمير العراق من طرف الجمهوريين، والآن فإن ترامب وبطانته يدعون إلى تدمير السعودية (أعتقد أنهم سيتجنبون إيران لمنع العرب من تكوين تحالف معها يكون في غير صاللح إسرائيل). اجتماع لجنة السياسات الدفاعية للكونجريس مع لورنش موراويتش الذي ناقش أمامها مشروعا أسماه الاستراتيجيات الكبرى للشرق الأوسط وضمنه توصية بضرورة تقسيم السعودية وختم تقريره بمقولة شهيرة مؤداها : " أن العراق هو المحور التكتيكي والسعودية المحور الاستراتيجي ومصر هي الجائزة ". يضاف إلى ذلك ما يسمى قانون جاستا الذي يقر بمحاكمة السعودية المشتبه في تورطها في هجمات 11 شتنبر. السياسة الأمريكية لا تتغير بتغير الرؤساء؛ بل توجد ثوابت تعكس مصالح أمريكا إنها ثلاثة محاور: أولها السياسة الخارجية الأمريكية، ثانيها الأمن القومي، ثالثها الليبرالية بحيث لا يمكن لأمريكا أن تصبح اشتراكية. مفهوم الأمن القومي الأمريكي هو ما يحدد سياسات أمريكا الخارجية، فأينما وُجد تهديد أو وُجد طموح للأمن القومي الأمريكي لا بد للسياسة الأمريكية من الحضور في ذات المكان. متطلبات العولمة الإدارية والعسكرية والاقتصادية هي أكبر من مقومات الولايات المتحدة وان محاولة فرضها على العالم سينتج عنه الفوضى والبربرية قبل أن تتحقق الولايات المتحدة من استحالة مهمتها . والمشكلة هنا أننا أمام أهداف هذه البربرية ونحن غافلون في اقتتال وتكفير بعضنا الآخر واختلاق أسباب الفرقة واستعمال نعمة ثرواتنا لتكون نقمة علينا. وتماما كما كان جورج دبليو بوش واوباما من بعده ينفذان سياسات النظام الأمريكي، فإن ترامب سيكمل المشوار ولربما يتم نقل الفوضى الهدامة إلى دول الخليج ( السعودية ) ومحاولة طمس القضية الفلسطينية ومحاربة كافة الأحزاب والجمعيات الإسلامية بشراسة وبتسمية جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وما يتبع ذلك من عواقب . إيصال ترامب إلى السلطة هو محاولة لإنقاذ أمريكا من الأزمة المالية والإقتصادية التي اندلعت سنة 2008 ومازالت مستمرة إلى الآن. هذه الأزمة هي السبب وراء الحروب ضد الدول العربية. يلاحَظ أنه مباشرة بعد أي أزمة اقتصادية إلا وتتبعها حروب، هذا ما حصل بعد الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1928 . الولايات المتحدة تواجه أزمة خطيرة، الحرب أهم وسيلة لتخطي الأزمة الاقتصادية . فهي على حافة الإفلاس وتواجه حقيقة انتهاء عصر القطب الواحد. ونهاية هذا العصر تستدعي إعادة ترتيب العالم وأشكاله السياسية من (حلف الأطلنطي) (للسوق الأوروبية المشتركة) (لمنطقة البترودولار) بصحاريها وإسرائيل في قلبها. ولربما يبدو أن تصور الولايات المتحدة تستطيع الخوض في تلك التغييرات الهائلة حول العالم هو نوع من الشطحات الفكرية. إلا أن الدلائل تحاصر المتتبع للأمور بالظواهر التي تشير إلي أن هذا ما يحدث فعليا وأن هذا ما تدركه القوى العظمي المتصارعة حول الكون. فأي ترتيب سياسي أو في المؤسسات الدولية حول العالم هو ناتج توازنات للقوي ومعبر عن مصالح قوي بعينها. وإذا كان غزو الدول كالعراق مثلا أو ليبيا ممكنا فإن إعادة ترتيب الأوضاع السياسية لحلفاء الولايات المتحدة وارد وممكن. ولقد ظهرت مقدمات هذا التغيير بوضوح في بريطانيا، الحليف الأقرب للولايات المتحدة التي خرجت من السوق الأوروبية المشتركة. فهل الأمر مصادفة أم أنه ترتيب دقيق للإجابة عن تراجع غربي مربك وخطير أمام صعود روسيا وحليفتها الصين وحلاً لتورط وتوريط الولايات المتحدة لأسر البترودولار الشرقية في حروب بالوكالة من خلال المرتزقة في سوريا وليبيا ومصر واليمن والعراق؟. لقد كانت هناك مقدمات أخري في عصر أوباما ذاته، فهناك إشارات كثيرة لتساؤلات أوباما ومن حوله عن حكمة السياسة الأمريكية وتوجهاتها وانحيازاتها من الشرق الأوسط للصين، وتساؤلات عن الضرر الذي يسببه حلفاء أمريكا من أسر البترودولار لها؟ وتساؤلات أخرى عن إسرائيل؟ فهل القضية هي سيادة إسرائيل أم الهبوط الآمن لها؟ هذا بالطبع إلي جانب التساؤل الدائم والموجع عن الكارثة الإستراتيجية التي سببها غزو العراقلأمريكا. وتبقي المعلومات المتوافرة دولياً عن تمويل ذلك الإرهاب مالياً والتغطية عليه بفيلق العمل الديمقراطي ومنظريه وناشطيه حول العالم من الدوحة لإسطنبول وباريس. العقل الاستراتيجي الأمريكي منقسم بين مؤيدي التدخل المباشر، ومن يقول بأن هذا التدخل محفوف بالمخاطر، وأن السياسة الأنجع هي العمل من أجل تغيير ميزان القوى بصورة غير مباشرة مع الحلفاء المعنيين. لقد راوحت أمريكا بين هذين الخيارين منذ عهد روزفلت. بوش فضل الطرح الأول أي الآليات الصلبة بتدخله في حروب العراق وأفغانستان، لقد كلفت أمريكا ليس فقط فاتورة مالية أو أعباء عسكرية أدت إلى عشرات الآلاف من القتلى من الجنود الأمريكيين، بل إلى معارضة شرسة من داخل وخارج أمريكا التي أصبحت توصف بعدوة الشعوب. باراك أوباما تبنى الطرح الثاني أي الآليات الناعمة؛ فكان مشروعه هو تخفيف الأعباء العسكرية. النظام الأمريكي أوصله لهرم السلطة،كان مطلوبا منه أ ن يتبنى الانسحاب من العراق وأفغانستان، وفضل عدم التورط المباشر في سوريا وليبيا. أوكل المهمة للحلفاء المحليين أو الوكلاء بالقيام بالعبء الأكبر ( التمويل، التجنيد). وصول أوباما لهرم السلطة رافقته موجة من التفاؤل المبالغ فيه كونه سيعزز التفاعل الإيجابي مع العالمين العربي والإسلامي بعد إلقاء خطاب في 04 يونيو 2008 بجامعة القاهرة بعنوان "بداية جديدة ". كان خطابه محاولة لبث التفاؤل بعد الويلات التي حصلت في عهد بوش التي راج في عهده " الفوضى الخلاقة ". هذا التفاؤل تبخر حيث حطموا العراق وليبيا واليمن وسوريا. وكلف هذه المهمة لوكلاء كالجماعات المسلحة التي يوظفونها لجني مكاسب سياسية واقتصادية ( بيع الأسلحة ). بوش ألحق خسائر كبيرة بأمريكا اقتصادياً وعسكرياً، بينما نجح أوباما في تفجير الدول العربية من الداخل، وجعلها تحرق نفسها بنفسها. بعبارة أخرى، فإن الفوضى الخلاقة المنشودة أمريكياً في منطقتنا تحققت في عهد أوباما .صحيح أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ترسم خططاً بعيدة المدى، بحيث يذهب رئيس ثم يأتي آخر ليكمل المشروع الذي بدأه من سبقه، وأن النظام الأمريكي يفكر على مدى عقود ، وبالتالي فإن ما زرعه بوش حصده أوباما بهدوء، إلا أن ذلك يُحسب تاريخياً لفترة أوباما الذي لم يكلف الأمريكيين دولاراً ولا حتى جندياً واحداً خارج حدود أمريكا؟. يكفي أن الرئيس المنصرف حقق مشروع الفوضى الخلاقة . فبينما خسرت أمريكا المليارات على غزواتها الخارجية في عهد بوش، ودفعت أثماناً كبرى لقاء تحقيق مشاريعها الخارجية، اتبع أوباما سياسة هادئة جداً، ولم يندفع خارج حدود بلاده على طريقة بوش، لكنه حقق انجازات تفوق انجازات بوش بالمفهوم الأمريكي بمرات ومرات. فبينما تولت أمريكا قيادة التخريب والتغيير في العالم العربي بنفسها في عهد بوش، أوكل أوباما المهمة لجهات خارجية لتحقيق المشروع الأمريكي في سوريا وليبيا وبلدان أخرى. لقد اتبعت أمريكا في فترة أوباما سياسة القيادة من الخلف دون أن تتكلف شيئاً مادياً أو عسكرياً. الصراعات والنزاعات التي ظهرت في فترة أوباما، وخاصة الصراع "السني الشيعي" على مستوى العالم الإسلامي والعالم أجمع استفحلت أكثر من سابقيه. يُحسب هذا لأوباما إذا ما علمنا أن أمريكا واقتصادها يعيشان على الحروب والنزعات وبيع السلاح. أوباما فجر بؤر الصراع هنا وهناك، بل كان مطلوباً منه فقط أن يصمت خدمة للمصالح الأمريكية. إنجاز الفوضىكانت أهم منجزات أوباما وبأقل التكاليف. اوباما لم يكن رجل سلام، فكلنا يعلم أن النظام الأمريكي أكبر بكثير من شخص الرئيس، ومهما كان قوياً أو ضعيفاً على المستوى الشخصي، يبقى مجرد دمية تنفذ السياسات الكبرى الأمريكية وليس صانعاً لها. بعبارة أخرى، فإن سياسة اللامبالاة التي أبداها أوباما على مدى ثمان سنوان كانت سياسة مدروسة، ولم تكن سياسة تقصير. أوباما الذي يعتبره البعض متردداً باع أسلحة للشرق الأوسط أكثر من كل رؤساء أمريكا «الأقوياء». لقد حصدت أمريكا خلال فترة حكم أوباما فواتير قيمتها 48 مليار دولار للسعودية فقط، أي أن أمريكا باعت للسعودية أسلحة خلال فترة حكم أوباما أكثر من أي رئيس أمريكي سابق. إن انجاح يقاس عمليا بالدولار والمكاسب المادية أولاً وأخيراً. لكن عقيدة ترامب المرتكزة على مفهوم الصفقة تواجه العديد من التحديات، أولها: من الصعب على الولايات المتحدة فك اشتباكها مع العالم الخارجي خاصة منطقة الشرق الأوسط حيث إنها مرتبطة بمصالح إستراتيجية وعسكرية واقتصادية وأمنية، تتمثل في ضمان وصول النفط وبأسعار معقولة وحماية أمنها. أمريكا لا تتخلى عن منطقة الشرق الأوسط والخليج لأنه فضاء يمدها بكنز استثماري ناجح اسمه الحرب، وما تتضمنه من تسويق مربح لصناعة السلاح وحتى مجال البحث والتطوير العلمي المرتبط بالصناعات العسكرية، ثم هناك عقود البناء وإعادة البناء الوهمية. هذه المصالح تفرض على الولايات المتحدة الاستمرار في ممارسة هذا الدور في ظل تصاعد أدوار روسياوالصين في النظام الدولي اقتصاديا وسياسيا، في مقابل تراجع القوة الاقتصادية الأمريكية وتقلص نفوذها السياسي. فإن عقيدة السياسة الخارجية في عهد ترامب سوف يحددها بشكل أكبر تركيبة وتوجهات الفريق المعاون له، إضافة لتفاعل وتوافق المؤسسات المختلفة، مثل مجلس الأمن القومي ووزارتي الدفاع والخارجية والمخابرات والكونجرس، حول تلك السياسة والذي سيحكمه بشكل أساسي المصالح الأمريكية الإستراتيجية. هل سيدخل العالم في صراع حضاري مع وصول ترامب؟ ما هي النظرية التي سيتبنى ، هل هي" نهاية التاريخ" أم " صراع الحضارات"؟. الأزمة الأمريكية الكبيرة هي نتيجة دخول الصين إلى مجال المنافسة العالمية، فالصين التي اعتبرها ترامب" عدوا " خلال حملته الانتخابية، تلاحق تطورات التكنولوجيا الأمريكية والصناعة الأمريكية، وتغرق أسواق العالم ببضاعة لا تستطيع الولايات المتحدة منافسة أسعارها. نموذج الصناعة الصينية المملوكة للدولة تقريبا يحدد أسعار كل شيء ويمد ذراعه حول العالم للمنافسة على مصادر المواد الخام في إطار عملة صينية رخيصة. صارت الأزمات الأمريكية الاقتصادية معضلة لا يجدي حلها إلا بعمليات جراحية تستدعى تخفيضاً مؤلماً لقيمة الدولار ذاته حتى يتنافس مع الصين. ولكن تخفيض قيمة الدولار حول العالم ليست بالعملية السهلة أو بالبسيطة ولا يمكن تحقيقها عبر أيام أو شهور فهي عملية سياسية بالأساس. لمواجهة الصين تبنى ترامب خطابا جريئا تعبويا يكمن في الرسالة التي حملها شعار حملته الانتخابية: make America great again (سوف نجعل أمريكا عظيمة مجدداً) ؛ إنها الأنا الجماعية التي تخفي الذات الفردية، كما أن لها صداها في التفاف أكبر عدد ممكن من الناس. خطاب ترامب خطاب " تخويف " من الآخر (الإسلام والصين ) مكنه من التفوق على المستوى السياسي حيث اليمين المتطرف أو الشعبوي يتخذ من موضوعات الآخر كالإسلام والهجرة والهوية حطبا يُشعِل به عواطف الناخب الأمريكي. لقد استغل ترامب الدين كما فعل بوش. الغرب الذي يوصف بأنه علماني بدأ يعود تدريجيا للجذور المسيحية ، لا يعودون للمسيح بل لتسييس المسيحية لأغراض السيطرة والثروة التي كبحها المسيح.. دولاند ترامب يفاخر بكونه " مسيحيا" و " سيمحو الإرهاب الإسلامي من على وجه الأرض". لقد عبر عن هذا الموقف مباشرة بعدما دهست شاحنة وقتلت أبرياء ألمانيين ببرلين قائلا ان الأمر يتعلق بتهديد ديني محض، فمتى سترد أمريكا والدول الأخرى؟. نحن اليوم إزاء نفر من " السياسيين " الذين يوظفون المسيحية لكسب الناخب. "السيد المسيح" لو كان موجودا اليوم لتبرأ من ترامب. ترامب بدوره قد يحرض على المسيح بوصفه مهاجرا من فلسطين، ولربما أوقفوه في مطارات " العالم الحر " للاشتباه بملامحه العربية. ترامب والغرب يعتصرون "المسيح " لاستعباد الآخر باسم " العالم الحر ". هؤلاء ينظرون إلى المسيحية على اعتبار أنها مجموعة نقاط في البورصة السياسية الشعبوية. هذه الموجة الجديدة في الغرب مدعومة من رجال أعمال يملكون شركات عالمية عملاقة لا يهدفون في الأساس إلى محاربة الإرهاب، ولا إلى الحفاظ على " القيم المسيحية "، لأن إلههم في المقام الأول هو السلطة والثروة " والتحكم بمقدرات الشعوب ونهب خيراتها، وليس المسيح حسب العقيدة المسيحية. إن ترامب وأمثاله لا ينتمون لعصور التنوير بل للعصور التي حاكمت غاليليو والتي حكمت بكفر سقراط. فكما التجأ خصوم غاليليو إلى الكنيسة، يلجأ اليوم اليمين المتطرف للخطاب الديني ليعيد الغرب إلى عصور الخطابات القومية الدينية التي كانت سببا مهما في اندلاع الحرب. إن أفضل ما في " اليمين المسيحاني " المتطرف اليوم هو أنه يقول ما يعتقد، وأخطر ما فيه أنه يريد أن يترجم أقواله إلى أفعال. خطاب ترامب استفز الصين التي سيعتبرها عدو المستقبل بدل روسيا. روسيا لم يعد يُنظر لها اليوم على أنها الاتحاد السوفيتى الخصم الإيديولوجي العنيد للولايات المتحدة، إذ ليست هناك ماركسية تُصدرها ولا ثورات تساندها في مواجهة الرأسمالية والامبريالية الغربية ولا أحلاف على أساس عقيدة سياسية ولا نزعة «أممية» لقيادة العالم، وإنما فقط مصالح ودور طموح لتعزيز مكانتها الدولية وتوسيع مصادر ثروتها وقوتها. خطاب ترامب سيفجر أزمة مع الصين حيث أجرى اتصالا هاتفيا مع رئيسة إقليم تايوان الصيني ليكون بذلك أول رئيس أمريكي يفعل ذلك منذ عام 1979 عندما قطعت واشنطن علاقاتها الرسمية مع تايبيه واعترفت بمبدأ «الصين الواحدة» غير أنها ظلت تزود حكومة الإقليم بأسلحة ومعدات عسكرية بالمليارات على الرغم من اعتراض الصين واحتجاجاتها المتكررة. الصين ردت عليه بأنها ستزيد في ميزانية التسليح خاصة النووي ومساعدة الدول العادية لأمريكا. لكن ترامب يرفض الاعتراف ب«الصين الواحدة» مقابل لا شيء، خاصة تنازلات تجارية من جانب بكين. خطابه ما هو إلا مؤشر واضح بشأن العلاقة المستقبلية بين الولايات المتحدةوالصين. خطاب يسعى من وراءه تحجيم دور الصين مستقبلا. خاصة أن الفريق الرئاسي الجديد للولايات المتحدة يتكون من عدد من المسئولين المتعاطفين مع الكرملين. الرئيس دونالد ترامب يبدي إعجابا بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، وجنرال المارينز المتقاعد ومدير المخابرات العسكرية السابق مايكل فلين يعتبر صديقا لفلاديمير بوتين، ويدعو إلى التنسيق معه، كما أن وزير الخارجية ريكس تيليرسون رئيس شركة موبيل للنفط يعتبر صديقا لروسيا ، أما الصين فستشكل "الخطر الأصفر" الذي يهدد مستقبل الولايات المتحدة للأسباب التالية: أولا، ترفع الصين شعار زعامة العالم في منتصف القرن الحالي، وقد تضمَّن كتاب «الحلم الصيني» للمفكر العسكري ليو مينغ فيو، تصورا لهذه القفزة النوعية، وجعل قادة بكين من الكتاب «العقيدة الجديدة» لهذا البلد. يقول الكتاب «إذا كان القرن العشرون أمريكيا فالواحد والعشرون يجب أن يكون صينيا»، مستحضرين حضارة الصين الموغلة في جذور التاريخ. ثانيا، سير الصين نحو بناء أكبر طبقة متوسطة في التاريخ، علما بأن الدول تنهض بفضل طبقاتها المتوسطة التي تضمن الاستقرار السياسي والاقتصادي. ثالثا، نجاح الصين في تحقيق قفزة اقتصادية نوعية، حيث تعتبر البلد الوحيد الذي تخطى حاجز العشرة آلاف مليار دولار كناتج إجمالي، وبدأ يقترب من ال 13 ألف مليار، وبدأت تقترب من الناتج القومي الأمريكي الذي هو 17 ألف مليار دولار. الصين تعتبر ثاني دولة في العالم بعد أمريكا التي تخصص أكبر ميزانية للدفاع. وهذا يعني توفر الصين على الأرضية المالية الصلبة لتعزيز قدراتها العسكرية وتمويل نفوذها دوليا من خلال الاستثمارات والمساعدات. الاستراتيجيون العسكريون الأمريكيون سيعملون على تطوير العلاقات العسكرية مع دول مثل الفلبين وكوريا الجنوبية وفيتنام واليابان لاحتواء الصين عسكريا. عندما طرح صمويل هنتنكتون قبل ربع قرن نظريته " صراع الحضارات" حول الصراع العالمي المقبل، سعى الكثيرون لتنفيذها لأسباب عديدة: أولها أن الغرب يومها كانت له اليد السياسية والعسكرية الطولى في العالم، وهو ليس بحاجة للدخول في صراع من هذا النوع. ثانيها سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه وتلاشي بريق الشيوعية، وبذلك لم يعد هناك ما يشير إلى احتمال تبلور منافس ل "الحضارة الغربية"، ثالثها أن حرب الكويت 1991 كشفت عن ذراع أمريكية طويلة. وتبين للكثيرين أن الغرب كسب الحروب العسكرية والإعلامية والفكرية، ولم يعد هناك من ينافسه، وبالتالي فليس هناك أفق لحرب الحضارات التي تنبأ بها هنتنكتون. رابعها أن الغربيين روجوا كثيرا لمشروع " الديمقراطية الليبرالية " كنظام سياسي عالمي يمثل ذروة ما بلغته التجربة الإنسانية في مجال الحكم والسياسة. أما نظرية فوكوياما " نهاية التاريخ " فبشرت بالانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية بعد انقضاء عصر الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى وتحول معظم دول أوروبا الشرقية التي كانت خاضعة له للديمقراطية على النمط الغربي ما يعنى إمكان تعميمها على جميع الدول فثمة قناعة لدى المحللين الاستراتيجيين بأن النظام العالمي الذي قام على أنقاض الحرب العالمية الثانية بدأ يتهاوى، وأن العالم على عتبة حقبة من الفوضى والاضطراب. يفسرها البعض بتراجع أوروبا عن لعب دور فاعل على الصعيد الدولي. رأي آخر يعتقد أن مرحلة الهيمنة الغربية بدأت تتراجع وأن قوى أخرى مثل روسيا والهند والصين تزداد نفوذا. فهل صمود سوريا وحلفاؤها سيعيد التوازن السياسي إلى العالم؟ لقد عبر على هذا الموقف مسئول ألماني قائلا ما مفاده " لقد انهزمنا في حلب " . فوز دولاند ترامب دفع الوضع العالمي نحو مستقبل مجهول، المخاوف ستتعمق خاصة بعد تعيين ستيف بانون رئيس تحرير صحيفة " بريتبارت نيوز " المصنفة ضمن اليمين المتطرف ، رئيسا لفريقه الاستراتيجي، الأمر الذي يعمق الشعور بحتمية المواجهة والحرب. هذه المرة ستكون الحرب مختلفة لأن أمريكا ستكون على الجانب المتطرف. الأوضاع الدولية تتجه نحو أوضاع شبيهة بتلك التي سبقت الحرب العالمية " الثانية"، قد تؤدي لنشوب نزاع دولي واسع نظرا لانقطاع العلاقات بين روسيا والغرب نتيجة الضعف العسكري الأوروبي، وتراجع الدور السياسي الأوروبي ( أعتقد سببه صعود اليمين المتطرف )، وتصاعد التوتر في الشرق الأوسط. هنري كيسنجر صرح سنة 2011 قائلا " من لم يسمع طبول الحرب فهو مصاب بالصمم"، كما أن الخبير الاستراتيجي الروسي قسطنطين سيفكوف عبر عن موقف روسياوالصين وحلفاءهما قائلا أن " غزو الحلف الأطلسي لليبيا كان أول غيث الحرب العالمية الثالثة". ربع قرن من الزمن غير الكثير من هذه الحقائق والوقائع، وأعاد السجال مجددا لمقولة "صراع الحضارات". ويبدو أنه لن يكون ضد الإسلام " الخطر الأخضر " ولا ضد روسيا ، بل سيتجاوز الشرق الأوسط وسيكون، كما تنبأ به هنتنكتون، بين الغرب والقوى الناهضة في آسيا، خصوصا الصين ( الخطر الأصفر ). القراءة السياسية لأفكار ترامب تشير إلى بعده التام عن نظرية فوكوياما " نهاية التاريخ "التي بشرت بالانتصار النهائي للديمقراطية الليبرالية بعد انقضاء عصر الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى ( الخطر الأحمر ) وتحول معظم دول أوروبا الشرقية التي كانت خاضعة له للديمقراطية على النمط الغربي ما يعنى إمكان تعميمها على جميع الدول، وأنه ( ترامب ) على العكس أقرب إلى تبنى النظرية المضادة لها المتعلقة ب «صدام الحضارات» ما بين الحضارة الغربية وما عداها من حضارات وثقافات شرقية الصينية والإسلامية، التي نظر لها صموئيل هنتنجتون، وجاءت كنقد مباشر على النظرية الأولى مؤكدة الصدام الحتمي بين الإسلام والغرب من ناحية الثقافة العامة ومنظومة القيم السائدة في كل منهما، وبالتالي صعوبة - إن لم تكن استحالة - تحويل المجتمعات الإسلامية إلى الديمقراطية بمفهومها الغربي أو الليبرالي. الاستراتيجيون يحتاجون إلى منافس أو عدو (ولو كان وهميا) يكون محفزا على العمل، فالاتحاد السوفييتي (الخطر الأحمر) عكَس " العدو" منذ الحرب العالمية الثانية. الصين ستشكل هذا "العدو " المقبل التي تتوفر على القوة الاقتصادية والبشرية والعلمية وتسير بثبات نحو القوة العسكرية. *أستاذ جامعي بالكلية متعددة التخصصات – أسفي [email protected]