ارتبطت الذهنية العربية بماضيها العريق وثقافتها الواسعة وبطولاتها الخالدة ارتباطا وثيقا، فراحت تَذْكرها أينما حَلَّت وارتحلت وكأنها السلاح الفتاك الذي لم يقدر عليه أحد، لكنَّ دار لقمان لم تَقْوَ على مجارات الدهر، فكان أن خَمَدَ لهيب سلاحها، وراحت تبحث عن أسلحة جديدة علَّها تجد ما يسد رَمَقَ عطشها، فاجتهدت وبحتث بين ثنايا معارفها، لكنها في كل مرة تعيد استرجاع شريط ذكرياتها لتكرر صناعة نفس السلاح، وغدت تدور في فلك معرفي لا يستطع مجاراة الزمن، واختناق فكري لَفَظَ أنفاسها فوق سرير من الجمر، ولسان حالها يقول: ألسنا بحاجة لثورة فكرية تخلصنا من الطفيليات العالقة بذهنيتنا العربية؟ وهل من الممكن التحرر من المعارف السابقة لبناء معرفة سليمة قائمة على الإيمان بالشك وليس بالمُسَلَّمات؟ أ ليس عبثا أن نُفرغ في عقول الناشئة معرفة كلاسيكية لا تُنتج سوى الأصنام والتماثيل؟ أمِنَ المعقول أن نفتخر بماضينا دون أن نضعه موضع تساؤل ونقاش؟ هي إذن أسئلة المصير الفكري التي تهرب بإبداع الإنسان نحو عالم التحرر الفكري، نحو عالم لم تَقْوَ مُسَكنات الماضي على إطفاء لهيب القلق المعرفي الذي يسيطر عليه، عالم عربي أصبحت فيه المعارف ذرات في الهواء، فلا العين تستطيع إبصارها، ولا العقل يستطيع إدراكها وتملكها. وكأن المعارف المحيطة بنا بدل أن تكون عنصرا شفافا، يستطيع الإنسان العربي اختراقها، ويجرد نفسه من الأنا المتحكمة فيها، وإحلال الشك دورا أساسيا فيها، هي أحد المواقع التي نعيد اجترارها بالمجان، لنمارس سلطة على القارئ والمجتمع. يبدو أن بنية العقل العربي في ظاهرها شيء بسيط، لكن أشكال المنع والرقابة التي تلحقها تكشف بشكل سريع عن تشبثها بالحقيقة وعدم قدرتها على الشك. يلزم أن نعترف بأن الفضاء الفكري العربي ما زال لم يتخلص بعد من سجنه المعرفي، الذي حكم عليه ولمدة طويلة، رهينَ العديد من التواريخ الرسمية والتقسيمات الفرعية، التي عصفت به نحو تكرار نفس الأسئلة الوجودية في قالب عربي. التقليد والاجترار والرتابة المعرفية، شرور ما زالت تلاحق الفكر العربي بأصفاد المنع التي تهدم كل أشكال البُنى الثقافية للمجتمع، والمعارف الجاهزة ما زالت تُوَرَّث للأجيال القادمة على أنها حقائقة ثابتة وغير قابلة للشك، وأطباق متنوعة من الأسئلة تُبلع وتُهضم داخل بطون عربية خاوية من عمليات الطحن والتصفية، هي إذن سوق المعرفة التي وُجدت في المزاد العلني، وأصبح للجاهز فيها سَبْقُ الثمن والريادة. من الممكن أن تكون قضية الاختناق الفكري عائدة إلى بنية تكون العقل العربي، والرواسب التي علقت به، فالخلفيات المتحكمة في العقل العربي هي المكلَّفة بتنشيط المعرفة، وملء فراغات اللغة فيها، وتزودها بمقاصدها وأهدافها. فخلفيات الفكر العربي وهي تخترق سُمك المعرفة العربية، هي التي توجه بشكل أساس المعنى الموضوع فيها، وهي التي تؤسس خارج الزمن كما هائلا من المعارف، لا يكون على التاريخ فيما بعد سوى أن يقوم بتوضيحها. والحال أني أعتقد أن المشكل ليس تشبتنا بخلفيتنا العربية فقط، بل المشكل هو كيف ننظر للأشياء من زاوية ضيقة، وكيف ننتج معرفة قائمة على أفكار طالما اعتبرناها حقائق يقينية داخل فضاءات فكرية ليست لا صحيحة ولا خاطئة في حد ذاتها. إن مشكلة المثقف العربي ليست هي انتقاده للمضامين المطروحة، التي قد تكون مرتبطة بالوضع العربي أو المعرفة في عمقها الوجودي، بل هو أن يعرف كيف يُنشئ سياسة جديدة في بحثه عن اليقين، إن المشكل ليس هو تغيير وعي الناس أو ما يوجد في عقلهم، بل تغيير استراتيجية التفكير التي تربط عقلهم بالوجود. أتساءل دائما وفي نفسي شيء من حتى، عن الآية الكريمة التي تربينا عليها " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" وكيف تم تجريدها من سياقها، وأصبحت آية لإسكات العديد من الأفواه التي تبحث عن اليقين المطلق، لا الحقيقة المجردة، أتساءل عما إذا كان لبعض الخطابات الدينية دور في تمرير المنع من السؤال !!؟؟. هذا السؤال الذي يقيم أخلاقا للمعرفة، لا تَوَّفر الحقيقة للأفراد، وإنما للرغبة في الحقيقة، والقدرة على التفكير بها. إن للعقل قانونيا الحق في أخذ فضاء نقي للتفكير، من أجل توليد المعرفة، والبحث عن طرق بديلة لإخراج العقل العربي من هذا الاختناق الفكري الذي يعيش فيه، والضجر الذي أصبح يحس به، من جراء نفس الأسئلة التي أصبحت تصاغ له ليعيش عليها مدة من الزمن، وإلا فما حاجتنا للمعرفة إن لم تكن تعطينا فسحة فكرية أكبر لإعادة النظر فيها، وإعمال العقل في صحة وجودها من عدمها. *كاتب مغربي