كثير من شعراء الحداثة كانوا يرفضون تصنيف قصائدهم وفق مواضيع محددة، على اعتبار أن تسمية موضوع القصيدة يحطم ثلاثة أرباع الاستمتاع بها كما حدد ذلك ( مالارميه)، وكذلك، لأن توضيح الموضوع يبعد الشاعر عن التعبير عن جوهر القصيدة. اعتبر "ضياع الشيئية"، أو كما يسميه ( روزنتال ) شيوع المعاني الضائعة، مظهرا من مظاهر غياب الموضوع في القصيدة الحديثة، وكان من النتائج المباشرة لغياب الموضوع ابتعاد الشاعر والقصيدة عن الواقع، والغوص في الفردانية والذاتية والوعي الداخلي، حتى أضحت هذه القصيدة لا تحمل في عمقها أي التزام أو أي هوية. لهذا أصبحنا نحس، ونحن نقرأ الكثير من قصائد شعراء الحداثة بغياب الموضوع، ويقابله الغرض في القصيدة التراثية، الأمر الذي جعل التعاطي مع القصيدة الحداثية أمرا صعبا يحتاج إلى أدوات للتحليل والاستقراء والاستبطان لا يمكن للقارئ العادي التوفر عليها. هذا المأزق التداولي للقصيدة هو الذي جعل إمكانية تتبع مسارها صعبا، إن لم يكن مستحيلا، من ناحية الدلالة، لأن الموضوع يشكل سياقا تُفهم القصيدة من خلاله، وفي ضوءه نتلمس أفكار القصيدة ومعانيها. بمعنى آخر، غياب الدلالة يكون مرتبطا، أساسا، بغياب الموضوع، وبالتالي يُفتح الباب على مصراعيه أمام القارئ والدارس للتأويل، سواء كانت القراءة منهجية أم لا. والتأويل يمكن أن يكون تعسفا في البحث عن دلالة القصيدة، الشيء الذي يمكن أن يُخرج النص الشعري من حقله الدلالي الخاص إلى حقل دلالي آخر يمكن أن يكون، في أحسن الأحوال، مفتوحا على كل الاحتمالات والدلالات. وكما لا يخفى على أي دارس للشعر، تقوم الصورة الشعرية، في النقد القَديم، على مبدأين أساسيين: _ المقاربة في التشبيه _ مناسبة المستعار منه للمستعار له كانت شعرية الصورة في النقد العربي القديم تشترط قرب المسافة بين طرفي التشبيه أو الاستعارة. نتج عن هذا: _ اقتراب التعبير الشعري من الواقع الاجتماعي رغم طابعه المستقل. _ محدودية الفضاء بين زمن النص كلغة وبين الزمن الذي تنطلق منه. _ محدودية الفضاء بين زمن النص وزمن القراءة. _ وصول دلالة النص بسرعة ووضوح إلى القارئ. لهذا السبب كان الطابع الوصفي يطغى على الصورة الشعرية في القصيدة التقليدية إلى حد بعيد. أما في النقد الحديث، فالصورة الشعرية أصبحت تقوم على حدود مغايرة تماما، منها: _ عدم الخضوع لشروط التشبيه والاستعارة. _ لا مقاربة ولا مناسبة في تركيب الصورة الشعرية في القصيدة الحديثة. _ تعدد مستويات وجه الشبه. _ بعد المسافة بين طرفي التشبيه والاستعارة. _ لا مقاربة ولا مناسبة سهلة الإدراك بين طرفي تركيب الصورة الشعرية. _ تعدد مستويات التشبيه والاستعارة يؤدي إلى تجاوز المقاربة بين طرفي التشبيه والاستعارة لتصبح مقاربة بين عالمين، عالم القصيدة وعالم الواقع الاجتماعي. من هذا الجانب أضحى الإيحاء هو المسيطر على القصيدة الحديثة، في الوقت الذي كان الوصف مرتبطا بالقصيدة التقليدية. ومن هذا الجانب كذلك، كانت الصورة الشعرية في القصيدة التقليدية قريبة من الواقع ومن الفهم، بينما ابتعدت، في القصيدة الحديثة، عن الواقع وعن الإدراك. نتيجة لهذا، أصبحنا أمام مصطلحات نقدية جديدة من قبيل، كثافة التعبير الشعري، شحن التصوير الشعري، غموض الصورة الشعرية... الشيء الذي جعل القصيدة، التي تحررت من الغرض كمقوم شعري تقليدي، تبتعد كذلك عن الدلالة، بمبرر أن القصيدة الحداثية حينما تبتعد عن الدلالة تقترب من المبتغى الأساسي للكتابة الشعرية الذي هو الرؤيا. ربما لهذا اعتبر بعض مناكفي التيار الحداثي القصيدة الحديثة كِتابَة تعتمد على لا شي، تتماسك أجزاءها بقوة أسلوبها وتعابيرها فقط، ينقصها المعنى لكي تكون متداولة مقروءة مفهومة ومقبولة. غير أن الكثير من الشعراء الحداثيين وفي مقدمتهم رواد ( مجلة شعر )، وضعوا مصطلح (الدلالة) في مقابل مصطلح (المعنى) بشكل يبدو فيه التقابل بينهما مقصودا لذاته، ومحددا برؤية للعالم وللشعر منسجمة انسجاما كليا مع الطرح الفكري الحداثي. يظهر هذا في التقابلات المفاهيمية التالية: - الدلالة خاصية شعرية بينما المعنى خاصية نثرية. - الدلالة متعددة متحركة بينما المعنى محدد ثابت. - الدلالة مؤشر على العمق أما المعنى فهو مؤشر على السطحية. - الدلالة تعبير عن كون شعري مفتوح متخيل، أما المعنى فإنه يسعى إلى التطابق مع العالم المرئي الملموس. بناء عليه، الدلالة ترتبط بالرؤيا والوجود بينما يظل المعنى حبيس الواقع. لهذا يقول أدونيس: ليست الدلالة قضية أو فكرة أو معلومة وإنما هي أفق لا نقبض عليه، بل نتنسمه ونستبصر فيه، وإذ نكتب عنه، نكتب تنسُّمنا واستبصارنا، لا المعنى ذاته. فإذا كانت القصيدة التراثية تجزئ العالم وتجعله مفصلا، ثم تنظر إليه نظرة لا تصل إلى عمقه، تماما كما تفعل الأغراض الشعرية التقليدية، فإن القصيدة الحداثية ترى العالم ككل كامل لا يتجزأ، كما تعمل على توحيده واستكناه أعماقه وحقيقته. من هنا، اعتبرت الرؤيا موضوعا في حد ذاته مادامت هي رحم القصيدة ومنبعها، ومن هنا كذلك، أضحت الرؤيا مشجبا تُعلق عليه القصيدة الحداثية الكثير من غموضها وغرابتها. وتحت دريعة أن الأفكار العظيمة يصعب القبض عليها وتقديمها على شكل موضوع شعري محدد، أضحت الرؤيا مطلبا حيويا في أي كتابة شعرية، وبات الإبهام والغموض مسايران لأغلب قصائد شعراء الحداثة، كما أصبح غياب الموضوع حاجزا مباشرا يمنع القارئ من إدراك مرجعيات القصيدة أو مقاصدها. ومع توالي التجارب والتجريب في جسد وروح القصيدة، تحولت الرؤيا إلى سبب مباشر في غياب الموضوع، وفي غياب الدلالة وفي غياب المعنى وفي غياب الشعر وفي غياب النقد الشعري. قراءة القصيدة، تبعا لهذا كله، أصبحت انطباعية لا تصل إلى مستوى التمعن في الدلالة الشعرية، وبالتالي التمكن من الرسالة الشعرية التي يجب أن يحملها كل شاعر. ربما لهذا السبب قال ( الفيتوري): " إذا كنتُ صاحب رسالة فيجب علي أن أوصل هذه الرسالة إلى أصحابها، ولن تصل الرسالة إذا لم تكن واضحة في ذهن أو روح أو وجدان شاعرها، ومن هنا يحدث اللبس أو الغموض في معطيات الكثير من الشعراء لمعاصرين. "