بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التبخيس كأحد أشكال التحرش المعنوي في العمل
نشر في هسبريس يوم 29 - 12 - 2016

سبق أن نشرت مقالة تحت عنوان ''التحرش المعنوي في العمل'' ضمن عدد خاص لمجلة الشبكة العربية للعلوم النفسية (عدد 44) حول العنف، سهرت على إعداده، أبرزت فيه استنادا إلى معطيات مستقاة من بيئات العمل في بلادنا مجموعة من الآثار السلبية على صحة الأفراد وتوازنهم، وكذلك على المؤسسات التي يشتغلون فيها، والأهمية التي يكتسيها التحسيس بمخاطر جمة ترتبط بها. ولأن مجال اشتغالي كممارس وباحث متخصص في علم نفس الشغل والتنظيمات لا يعفيني أخلاقيا من التذكير كل مرة بأهمية الالتفات إلى معاناة الناس في العمل، وفق منظور التوازن بين العمل والصحة، فإن بعضا من الإشكاليات المستجدة تتطلب التعاطي معها لإثارة الانتباه إلى الأمور التي بحكم التعود وإحساس الناس بغياب من يستمع إليهم بشأنها يصبحون غير مستعدين حتى لسماع الحديث عنها. ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا هنا أن المشرع وضع على عاتق المشغلين، سواء في القطاع العام أو الخاص، حماية صحة وسلامة الأجراء في كل ما يرتبط بعملهم. ولأن النصوص تحتاج دائما إلى قوى فاعلة لتفعيل تطبيقها ومتابعتها، اعتبرت أن الخوض مجددا في موضوع مرتبط بالتحرش المعنوي أو المضايقة فكرة تستحق الوقوف عندها. ويتعلق الأمر هنا بالتبخيس كشكل من أشكال التحرش المعنوي. فماذا نقصد بالتبخيس؟ وكيف تتم عملية التبخيس؟ وما هي آثارها إن على الفرد أو على منظمة الشغل؟ وأخيرا على المجتمع ككل؟ وما هي الوسائل الكفيلة بمواجهته؟
1. ماذا نقصد بالتبخيس؟
يقصد بالتبخيس لغة التقليل من قيمة الشيء، بحيث يصبح ثمنه أقل من قيمته الفعلية مقارنة مع شيء آخر. أما تبخيس الشخص فمعناه النظر إليه بتحيز وتحامل واستخفاف، وإلى ما هنالك من النعوت القبيحة، بحيث يصبح ما يقوم به وما ينجزه أو يفكر فيه غير معتبر في أعين الآخرين. بمعنى آخر فالتبخيس هو عدم تقدير الشخص أو الشيء حق قدره، أو بما لا يليق به أو بمقامه، ضدا على كل معايير النزاهة والاستحقاق.
2. كيف تتم عملية التبخيس؟
تتم عملية التبخيس عادة بين طرفين، وفي بيئة حاضنة. أما الطرفان هنا فيرتبطان ببعضهما بكونهما ينتميان إلى فضاء الشغل نفسه، والعلاقة بينهما علاقة إشراف، دون أن يعني ذلك بالضرورة تفوقا للمشرف على المشرف عليه، إن على مستوى الكفاءات أو الإنجازات أو المبادرات. أما البيئة الحاضنة فتتكون من كل المنتمين مباشرة إلى فضاء الشغل المذكور، والذين يقفون إما متفرجين أو متواطئين أو معتقدين ألا حيلة لهم أو لا دخل لهم في إيقاف التبخيس، الذي قد يكون البعض منهم أو كلهم موضوعا له. بل أكثر من ذلك، كما تم تبيانه من خلال العديد من الدراسات لبيئات العمل في علاقتها بالتحرش، يتحول الكثيرون إلى مناصرين للمتحرش بالتماهي معه وتبرير أفعاله، معبرين بذلك عن درجة ما من الخوف والتردد وحتى الإحباط والاستسلام أكثر من كونهم معترفين بصحة فعل المتحرش. ومن هنا تصبح الوضعية غير السوية التي يواجهها بعض زملائهم منفردا ومتفردا بهم، مجالا لتسويق المبررات، صابين جام غضبهم على زملائهم بدل مساندتهم وتوجيه اللوم إلى المصدر من أجل إيقاف فعل التحرش. فكيف تتم عملية التبخيس إذن؟ وما هي بعض أشكالها وتجلياتها؟
لو سألت مبخسا (بكسر الخاء، وحيث لا لون ولا جنس للتبخيس)، وهم كثر لأسباب سنعود إلى ذكرها لاحقا، لأمطرك بوابل من الأوصاف والتعبيرات في حق المبخس (بفتح الخاء)، توحي إليك في غياب التحليل الدقيق أن هناك حقائق تستلزم وتبرر التصرف على هذا النحو أو ذاك. لكن عمق الأشياء كما ليس ظاهرا للعيان هو في علاقة الإشراف نفسها. ولذلك أصبح لزاما فحص تلك العلاقة، التي يمكن تحليلها من زوايا مختلفة، لعل أهمها أولا الأحقية بالإشراف وثانيا أسلوب الإشراف وما يحيل عليه من أدوات وتصورات تمتد إلى التربية التي تلقاها المشرف نفسه، وتستمد منها مبررات وجودها.
إن الحديث عن الإشراف بقدر ما يحيل على أساليب تدبير المنظمات بقدر ما يلقي بظلاله على قيم اجتماعية، كالنزاهة والاستحقاق، لازالت لسوء الحظ مجرد شعارات تؤثث فضاءاتنا، مغرية بمضامينها وتكاد تكون نكرة في تطبيقاتها؛ وهو ما يعبر عنه بكل بساطة من قبل عموم الناس كلما وجدوا أنفسهم غير مهتما بهم في قضاياهم أو مستخفا بهم أو بمقترحاتهم أو بغيرها، حين يذكرون بضرورة وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، معبرين بذلك بوعي أو بغير وعي عن درجة التذمر وفقدان الثقة بمؤسسة ما. وتكفي الإشارة هنا إلى أن العديد من منظمات الشغل تعيش على وقع صراعات وتردي خدمات منشؤها بداية ونهاية إسناد وظائف إلى من هم غير مؤهلين إلى شغلها، وظائف أكبر من حجمهم. وهؤلاء ميالون عادة إلى تبخيس غيرهم، اعتقادا منهم أن أحسن وسيلة لجلب الطاعة والولاء هو وضع المشرف عليهم في وضعية مهينة، ولم لا دفعهم للاستقالة، سواء بمعنى ترك المنظمة أو اللامبالاة بما يجري بها. وهنا يطرح السؤال: إذا كانت عملية التبخيس وسيلة من وسائل التدبير، ألا يعزز ذلك وجود بيئة عمل تيسر هذه الأفعال، وهي التي تعطيها معنى؟ ثم ألا يتم التبخيس على ضوء العلاقة التراتبية؛ أي باستحضار سلطة ما مستمدة ليست من الكفاءة التدبيرية المعروفة مستلزماتها، بل من سلطة الإشراف المسنود داخل المنظمة؟
ليس من الصعب تبين ما إذا كانت وضعية الشغل تحتوي عناصر التبخيس، بالرغم من أن هناك أشكالا مختلفة يتخذها، لا يمكن دائما رصدها إذا قمنا بتغييب السياق الذي ترد فيه. فإذا غيب السياق غاب شكل التبخيس، وقد ينتفي بالنظر فقط إلى عنصر مجزوء ومقتطع من وضعية بكاملها. فكل منظمة شغل تضع أشخاصا في غير موضعهم فهي تلجأ إلى عملية تبخيس، ينتج عنها إقصاء ممنهج، يتحول كما أريد له إلى إجراء لإبقاء تلك المنظمة في حالة إعادة إنتاج نفسها، وطرق تفكيرها وتدبيرها، اعتقادا منها أنها بهذا الأسلوب يمكن ''تحصينها'' من التداول على التدبير بسلطة الأفكار والمشاريع وإنتاج أفضل صورة للمنظمة. الأفضل بالنسبة لكل منظمة تعتمد التدبير الحديث بالتشارك كامن في ما لدى المنتمين إليها من طاقات، لعلها واعدة بالنظر إلى طبيعة المشاريع التي تسعى إلى ضخها داخل المنظمة، ولذلك فمن وظائف المشرفين، التقليديين والمتقلدين زمام الأمور في منظمة غير منفتحة، أن يقوموا بأدوار معلنة وغير معلنة يجتهدون ويتبارون في مقاومة كل ما يمكن أن يدفع إلى مراجعة أساليب إنتاج أو تدبير أو غيرها. قد يقول قائل ولم التصرف بهذه الطريقة، أليست كل منظمة شغل في حاجة إلى تجديدها والسعي نحو نجاعتها؟
للإجابة على هذا السؤال الذي يبدو مفروغا منه في فضاءات شغل تعتمد التدبير الحديث وتثمين كفاءاتها البشرية، باعتبارها رافعتها الأساسية، لا بد من التذكير بأن أدوات التدبير وسياقاتها وتفعيلها هي في حد ذاتها تعبير عن ثقافة المؤسسة بشكل عام، والثقافة التدبيرية بشكل خاص؛ وبناء عليه تختار المنظمة مسيريها وتسند إليهم المهام. ما أبانت عنه دراسات الشغل هو أنه حين يشير الناس إلى المشاكل المرتبطة بالمهام فليست المهام المصرح بها هي التي تكون موضع انتقاد، لأن كل منظمة لا بد أنها تسعى إلى تحقيق أهدافها، بل الكيفية التي تمارس بها المهام، خاصة حين يغيب تقدير التكلفة البشرية للتدبير، والذي من المفروض أن يساءل. ولهذا السبب بالذات كان من الطبيعي جدا أن تلجأ منظمات لا تعير أدنى اهتمام لصحة وسلامة الأجراء، إلى توظيف أو انتقاء من بين منتسبيها إن وجدوا أشخاصا من بين مواصفاتهم القدرة على اللجوء إلى التبخيس، مستندين في ذلك إلى القول المشهور المستمد من التدبير بالمصادفة: ''لا تقل أبدا لأجير إنه حقق الأهداف المتوخاة منه، لأن الطريق الأسلم لتحفيزه هو عدم إشعاره بأنه ناجح في عمله، ولأن من سيشعر يوما أنه ناجح في عمله سيتوقف عن البحث في أن ينجح أكثر''. وهو أسلوب لا توصيف له في التدبير الحديث للكفاءات سوى أنه إنكار وجحود يعنيان في ما يعنيانه أننا بصدد منظمة لا تعترف بالمجهود، وإذا ترسخ ذلك رسخت معه فكرة الاستقالة وغياب المبادرة وتصيد الفرص وهكذا. ونحن نبحث في بعض مواصفات وصفات المشرفين القادرين على السير على منوال الإنكار والجحود، استوقفتنا بعد سيادة الثقافة السائدة في المنظمة التركيبة النفسية للمشرفين، والقيم التي نشؤوا عليها، والتي تنتج مجموعة من السلوكيات الانتهازية التي لا تراعي إلا الذات.
أحسن طريقة لديهم هي المسارعة إلى تبخيس الناس، في خطوة استباقية وترصدية هي وحدها الكفيلة بمدهم بالضمانة النفسية على أنهم من الفئة الناجية، وأن غيرهم من الفئة الهالكة أو التي ينبغي أن تهلك.. ولعل أقسى اختبار قد يجدون أنفسهم فيه هو اصطدامهم بإنكار غيرهم لما يعتبرونه امتيازا حصريا بناء على كفايات هم أدرى الناس واقعا بعدم توفرها فيهم، إذا استحضرت منظمة الشغل آفاق تطويرها، لأن فاقد الشيء في هذه الحالة لا يعطيه. وإذا كان التبخيس مقابلا للتقدير والاعتراف كثقافة مغايرة، فالاعتراف بما لدى الغير من إمكانات وطاقات لا يمكن أن يجد طريقه إلا في منظمات تسهر على توظيف كل طاقاتها البشرية كل من الموقع الذي يمكنه أن يفيد به المنظمة. إن التبخيس، وخاصة تبخيس الكفاءات، وهو سمة من سمات المجتمعات المتخلفة، يعتبر أعلى درجة التحقير واغتيال روح المجتمع، والنماذج صارخة ودالة على قطاعات في الشغل عامة وخاصة، حيث المشرفون أقل درجة كفاية ودربة وسلوكا مواطنا من غيرهم، أي ممن هم مشرفون عليهم، وهو ما يشعل صراعا خفيا أحيانا ومفتوحا أحيانا أخرى، في مسار معطل لقدرات المجتمع وانطلاقه. وتلك معادلة لا تفلت منها منظمة شغل مع حفظ الاختلافات والتمظهرات من منظمة إلى أخرى، بعضها نموذج صارخ لتبذير الكفاءات وليس تدبيرها؛ وهذا أكبر أنواع التبخيس.
3. ما هي آثارها إن على الأفراد أو على منظمة الشغل؟
أن تكون للتبخيس آثار سلبية على الفرد وعلى منظمة الشغل فلا خلاف في ذلك بين المختصين في دراسة الشغل، سواء تعلق الأمر بالجوانب المرتبطة بالصحة أو بالرفاه الاجتماعي إن وجد؛ إنما حول طبيعة تلك الآثار وطبيعة الأشخاص الذين تشملهم. وعليه هناك آثار باتت معروفة بين المختصين، لكنها مجهولة لدى الكثيرين أو متجاهلة لدى آخرين لأسباب تتعلق بالعلاقة السببية بينهم وبين تلك الآثار على الأفراد. فأخطاء التدبير، بل أساليب التدبير، بما تحمله من أهداف وما تحيل عليه من ظروف عمل، والإمكانيات التي يفرضها تحقيق أهدافها، كلها عناصر أساسية تفسر بعض الآثار الجانبية لفعل التبخيس.
ومن الآثار التي تترتب عن التبخيس إحساس الأفراد بالتوفر على قيمة متدنية، وإحساسهم بعدم جدوى ما يقومون به. وهذا الإحساس في حد ذاته بقدر ما هو مثبط للعزيمة التي تملأ الأشخاص، بقدر ما تدخلهم في معاناة لا متناهية، تشير مجمل الدراسات إلى آثارها الصحية الوخيمة. إن مثل هذا الإحساس المدمر يترافق بإحساس من نوع آخر هو عدم الانتماء إلى المنظمة التي تصبح في هذه الحالة منظمة لا تستحق التضحية من أجلها أو حتى الانتماء إليها.
لا غرابة إذن أن تسود علاقة عدم الاطمئنان والريبة والشك، وهي علاقة تفيد بوجود بيئة عمل غير سليمة، هي مرتع لكل أنواع الشكوى والمرض. وبالطبع ليس كل الناس متساوين في ما يخص الإصابة أو التأثر بالآثار السلبية للتبخيس. وهناك سؤال بات محتما على كل منظمة طرحه: ما هي صورتها لدى المنتسبين إليها؟ إنه التحدي الذي يمكن أن ترفعه أي منظمة بالنظر إلى نفسها في المرآة، لأن كل خطط التنمية، على أهميتها، لا يمكن إنجاحها مهما ادعي وسيق من تبريرات إذا لم ترافق بإجراءات مواتية على مستوى بيئة وظروف العمل. وعلى هذا النحو، كيف يمكن تصور النجاح في ورش ما مع سيادة ثقافة التبخيس التي هي ديدن سوء التدبير إذا علمنا أن المبخسين لا يبادرون وحتما هم مستقيلون؟. وللإشارة فحين تسود ثقافة التبخيس يفقد المجتمع البوصلة وتضيع القيم التي تريد المجتمعات بناءها، وهو ما يحيل على أثار التبخيس على المجتمع.
4. ما هي آثار التبخيس على المجتمع ككل؟
انطلاقا من إحساس الفرد بعدم الجدوى داخل منظمة شغل ما، قد يمتد ذلك إلى المجتمع ككل، اعتبارا للعلاقة الجدلية بين الفرد والمنظمات الأخرى في المجتمع. فكلما كان الشخص موضوعا للتبخيس في منظمة ما، وحتى إن انفلت من وضعية التبخيس تلك، سواء بترك الموقع أو بترك المنظمة، فهو مرشح لأن يحمل معه بعضا أو كلا من مخلفات الوضعية المبخسة. وطبعا فإن ذلك يمكن أن يرافقه لمدة معينة تطول أو تقصر، تبعا للوضعيات الجديدة التي سيتواجد بها ومدى التشابه بينها وبين الوضعية الأصل. وهذا في حد ذاته مؤشر على إمكانية امتداد التبخيس إلى منظمات أخرى ليست هي بالضرورة التي شكلت أساسا لوضعية التبخيس التي عانى منها الشخص.
ونستند في هذا إلى أن الشخص، ومهما أوتي من قوة، ومن دافعية، لا شك أن الوضعيات الشاذة من قبيل التبخيس ترافقه إلى فضاء آخر لتعاش بنوع من اليقظة والحذر، في انتظار التأكد من سلامة أو خفوت وندرة التبخيس. ومن الناحية التنظيمية يصعب على منظمة مستقبلة أن تدرك العوائق التي تقف وراء بعض حالات التعثر التي يواجهها الموظف الجديد في محاولته للاندماج مع محيط الشغل الجديد، إذا لم تكن المنظمة المستقبلة على درجة كبيرة من الوعي، وتتوفر على آليات وأساليب مصاحبة وتتبع. ولا ينبغي هنا بالنظر إلى ما سبق ذكره إغفال التكلفة الاجتماعية للتبخيس على مقدرات البلاد، ليس فقط من حيث صعوبات اندماج الأفراد، بل أيضا من حيث انعكاس تلك الصعوبات على سير المنظمات وانعكاس سير المنظمات على إنتاج الثروات وتدبيرها. ويكفي هنا التذكير ببعض الجوانب التي يشار إليها في محيط الشغل، من قبيل ضعف المردودية، لنفهم كيف يمكن أن تؤثر بيئة العمل على الإنتاجية، وكيف أن المنظمات الحديثة في التدبير تهتم بمثل هاته الأمور لتعزيز ثقة الأجراء فيها، وتيسير انخراطهم في المشاريع التنموية للمنظمة. ولا يفوتني التذكير كذلك بمراعاة ظروف العمل استنادا إلى تكلفة الصحة العامة للمجتمع الذي تسهم ظروف العمل في ترديه أو تنميته. ولمن يتجاهل، ما عليه إلا أن يراجع مؤشر المرض وتكلفته على المجتمع. ويبقى السؤال مفتوحا حول كيفية التعامل مع وضعيات التبخيس باعتبارها حالة ذهنية لمن يقوم بها، وتنتج حالات مرضية بالنسبة لمن يعانون منها.
5. كيف يمكن مواجهة التبخيس بوصفه شكلا من أشكال التحرش المعنوي والحد منه؟
يستشف مما سبق أن للتبخيس، وهو مرفوق دائما بالاستخفاف، آثارا مدمرة على مستوى الأفراد والمنظمات وكذا المجتمع ككل، وبالتالي فإن الوقاية منه ومعالجة الآثار الناجمة عنه باتت مسؤولية مشتركة بين الأشخاص المعرضين أنفسهم وبين المنظمات التي ينتمون إليها، وخاصة منظمات الشغل التي ألقت التشريعات على عاتقها حماية الأجراء من كل أنواع المضايقة مادية أو معنوية. ولكون التبخيس عادة ما يتم ضمن علاقة ثنائية مسنودة تنظيميا ولو بالتجاهل، فإن استشراف السبل الكفيلة بمواجهة هذه الظاهرة المستشرية في منظمات الشغل يرتكز على جوانب متعددة، لا يمكن لتجاهل بعضها أن يسهم في الحد من آثاره، خاصة إذا كان التبخيس سلوكا منظما وثقافة راسخة. ومن هنا يمكن تحديد المسؤولية على ثلاثة مستويات: فردية وتنظيمية ومجتمعية.
أما المسؤولية الفردية فتتلخص في أساليب المواجهة التي يعتمدها الأشخاص، من قبيل عدم القبول بالوضعية المبخسة تحت أي مسمى أو أي اعتبار، والتبليغ عن ذلك أولا بالتوجه إلى أعلى درجات الإشراف التنظيمي الذي تقع على عاتقه بداية ونهاية مسؤولية إنصاف المتضررين من الوضعية، وثانيا بالعمل على إثارة الانتباه حوله والحصول على شهادات بالإمكان استعمالها لاحقا في سياقات أخرى. بمعنى آخر لا ينبغي بأي حال من الأحوال السكوت على أي من الوضعيات المبخسة.
أما المسؤولية التنظيمية فتتلخص في الإسناد الاجتماعي الذي يوفره الزملاء والمحيطون وممثلو الأجراء حين يلتزمون مع بعضهم البعض لمساندة غيرهم في محاولتهم للتشهير بالوضعية المبخسة والتبليغ بها، وكذا بالمشرف أو المشرفين الذين يلجؤون إلى مثل هذا الأسلوب في التعامل مع الأجراء. والقاعدة تقول إن السكوت على الممارسات المشينة التي تمس أشخاصا ما في العمل هي ما يشجع المبخس على المضي قدما في التبخيس، معتقدا أنه يتوفر على حمايتين؛ الأولى من سلطة الإشراف التي يشتط فيها، ومن السلطة المعنوية التي يكتسبها من جراء انسحاب المحيطين وتركهم المجال للمشتط للتفرد بالأشخاص الذين هم مجرد ضحايا.
أما المسؤولية المجتمعية فتقع على عاتق المؤسسات التي من وظيفتها مراقبة منظمات الشغل وفق المساطر المخولة قانونا، والتي يكون من واجبها الاستماع إلى تظلمات الناس ومعالجتها، إن على مستوى تفتيش الشغل أو الإجراءات الداخلية في ما يتعلق بالقطاع العام، وذلك سيرًا مع إلزامية حفظ الصحة والسلامة المهنيتين، بما في ذلك مراجعة التشريعات المتعلقة بالمخاطر المهنية، بِمَا فيها المخاطر الجديدة على مستوى التشريعات العالمية، أي المخاطر النفسية الاجتماعية التي يعتبر التبخيس أحد أشكالها وتمظهراتها.
* أخصائي وباحث في علم نفس الشغل والتنظيمات
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.