السياسة بما هي مرادف لتدبير الشأن العام وفق مبادئ تخدم المصلحة العامة، وتراعي متطلبات المجتمع، معرّضة بطبيعتها للتشويش والتشويه والتبخيس والتسفيه والتتفيه، وما شئنا من مصطلحات التنقيص من قيمتها، لإظهارها على غير حقيقتها، امعانا في ابعاد الرأي العام عنها وعن ممارسيها، وافقادها جمهورها الذي يمكن أن يشكل حاضنة اجتماعية لها. ذلك أن السياسة بهذا المعنى، لا يمكن أن يتعايش معها من يمارسون نقيضها، خدمة لمصالح خاصة ومنافع شخصية أو فئوية، لأنها تصبح مرآة يمكن أن يرى فيها الرأي العام حقيقة ما يقومون به، سواء كانوا أفرادا أو تنظيمات، وتفرز معايير موضوعية للحكم على الممارسة والمواقف، وبالتالي تجعل الاختيار في لحظة الانتخابات سهلا ويسيرا، وتسمح بادارة الصراع تحت الاضواء الكاشفة. ولأن جزء كبير من استراتيجيات تحقيق المصالح والمنافع الخاصة والفئوية، يتطلب مساحات ظل وظلام، ويستند على تأمين هذه المصالح باليات لا تسمح برؤية جيدة، مما يستدعي خلط الاوراق وتضبيب الصورة أمام المتابعين، فإن السبيل الى ذلك يبقى هو اضعاف حضور السياسة النبيلة في المشهد ومحاصرة ممارسيها والتضييق عليهم وايجاد التناقضات بينهم وبين وسطهم ومحيطهم القريب والبعيد، من خلال وسائل التبخيس والتيئيس وتعميم العدمية. لكن بمنطق الأشياء، يبقى ذلك عاديا وطبيعيا، لان السياسة وفق تعاريف أخرى ليست سوى صراع بين طرفين أو عدة أطراف، وبين أطروحات ونظريات، بين من له سلطة ومن ينافسه عليها، بتعبير آخر، السياسة صراع بين الفساد والاصلاح، وبالتالي قد يكون الاطناب في اثارة موضوع تبخيس العمل السياسي، مجرد هروب من مواجهة الواقع، ومحاولة تحميل الخصم مسؤولية الفشل في المواجهة، لأنه لا يُنتظر ولا يُتوقع ممن يسعى الى أهداف مرفوضة وغير بريئة، وباليات غير مشروعة، أن يصفق لخصمه الذي يكشف حقيقته أمام الجميع، ويقف سدا في طريقه مهددا مساره ومستقبله. وهنا وجب التنبيه الى أن تبخيس العمل السياسي، قد لا يكون دائما مصدره خارجي، وانما وارد جدا أن يكون مصدره داخلي، أي من داخل الأحزاب التي تمارس السياسة بنبل، وتقدم نفسها أحزاب اصلاحية، ممثلة للارادة الشعبية، حائزة على الشرعية الانتخابية. حيث يمكن أن تتسرب اليها ممارسات أكثر خطورة على العمل السياسي الاصلاحي، من الممارسات المسلطة عليها من خصومها، وهذه أوْلى بالمقاومة وبالمواجهة والمحاصرة، حتى لا يتم التطبيع معها فيضيع كل شيء، ويفقد المواطنون الثقة في امكانية وجود حزب أو تنظيم قادر على تدبير شأنهم العام بنزاهة وبكفاءة، وبسياسة تحمل الكثير من المعنى والمصداقية. ومن هذه الممارسات ما جعل اليوم أحزابا لطالما اعتُبرت اصلاحية وحاملة لهموم المواطنين، مجرد تنظيمات فارغة، خاوية على عروشها، لم تنفع أعضاءها ولا الشعب ولا مؤسسات الدولة، وانخرطت في اجندات وصفقات لا تخفى غاياتها. والحقيقة أن أي حزب سياسي يدعي ممارسة السياسة بقيم ومبادئ، ليس في مأمن من هذا المصير الدرامتيكي، الذي يدفع المجتمع والدولة على حد سواء ثمنه، ما لم يحارب مظاهر التبخيس التي تظهر بداخله، ومنها الانتهازية والوصولية، وجعل الحزب مطية لتحصيل منافع مادية، ومواقع ومناصب زائلة، وممارسات أخرى تُستنبت لتحقيق هذه المنافع والمواقع والمناصب، ومنها خنق حرية التعبير بين أعضائه، وتقليص هامش النقاش السياسي والفكري، وتهميش الكفاءات، وسلك مسالك خاطئة في التنخيب مبنية على القرب والولاءات المغشوشة للأشخاص، والانفتاح على فئات لا يهمها من السياسة الى المقاعد الجماعية والبرلمانية والحقائب الحكومية، أو عضوية المؤسسات العمومية. إن مواجهة تبخيس السياسة، تتطلب أولا تحصين أدوات المواجهة، التي هي الأحزاب السياسية، لما لها من أدوار ومسؤوليات في تأطير المجتمع ومد مؤسسات الدولة بالأطر المناسبة، ضد السلوكات الدخيلة، مع تجديد خطابها لينسجم مع تحديات ورهانات كل مرحلة، دون التفريط في مبادئها ومنطلقاتها، لكي لا تصبح جزءاً من التبخيس نفسه، وكما جاء في شطر بيت شعري معروف "مَا يُصْلِحُ الْمِلْحَ إِذَا الْمِلْحُ فَسَدْ"!