الكتابة الإبداعية عمل فردي بحت، يتحقق في الغالب، خلال اختلاء الكاتب بنفسه وتعمقه في ذاته مستحضرا ماضيه المتمثل في تجاربه الشخصية، وتلك التي استخلصها من حيوات أشخاص آخرين عرفهم في حياتهم أو سمع أو قرأ عنهم، ومستحضرا عالما آخر من الخيال المحض قد يوجد ما يشابهه في الواقع وقد لا يوجد له. لكن الكتابة تفقد جزءا كبيرا من قيمتها في غياب عنصرين: القارئ والناقد. هل ثمة أعمال مكتوبة لم يتناولها بالنقد أحد أو أخرى لم يقرأها أحد على مرّ التاريخ؟ وماذا عن تلك الكتابات التي لم يقرأها أحد ولم يُكتب عنها حرف واحد؟ هذه الأخيرة وُجدَت بالتأكيد في أزمنةٍ وأمكنةٍ ما، إلا أننا لَم نعلم ولن نعلم عنها أي شيء على الإطلاق. فالكتاب الذي لا يُقرأ تبقى أفكار كاتِبه سجينة جمجمته، محصورة بين خلايا دماغِه. لا يُحرِّرها أنها انتقلت من عقل إنسانٍ إلى كومَة مِن الورق أو إلى ذاكرة جهاز كمبيوتر. لكن ما الغاية من الكتابة..؟ سؤال له إجابات معقدة متشابكة تدور حول مَحاور محدّدة: الكتابة إهراقٌ لوجَع الذات هو قلقٌ يسري في عروق صاحبه. مردّه تلك الأفكار والصور والخيالات التي استوطنت عقله فصارت تأكل وتشرب وتسرح وتمرح هناك محدثة ضجيجا وجب التخلّص منه، كتلك الدمعات التي تثقل محاجر أصحابها. إنها شحنات من الطاقة الزائدة يسعى الكاتب للخلاص منها.. أناسٌ وحكايا وكلمات وصرخات وأغنيات حقيقية تحلم بأن تحطّ على كوكب الورق منتقلةً مِن عقل صاحبها إلى عقول أخرى، فمُتخذة بذلك شكلا آخر من أشكال الحياة. فارتياح الكاتب وخلاصه لا يتحقّقان بمُجرّد بوحه.. ولكن بوجود مَن يشاركُه فيه. تقدير القارئ، تفاعله، تلقيه للعمل الإبداعي نعم، يمكننا أن ننكر ذلك أو نصرِّح به، ولكن أي ّكاتب يحتاج إلى مَن يقرأ له، فالكاتب بلا قارئ يتحوّل هو بذاته إلى شخصية وَهمية. أي إنّ وصفه بالكاتب وصف لا معنى له في غيابِ المتلقي. ولكنه، أكثر من ذلك يحتاج إلى مَن يُحب كتاباته. فكتاباته جزء من ذاته وكينونته. أن لا يعجبَ أحدٌ على الإطلاق بمؤلفات كاتب ما، هي كأن لا يحب أحدٌ شكله، أو شخصيته، أو أسلوبَه في الكلام.. وإذا طالَ الأمر واستفحل، فإنه قد يتجاهل ويكره ذلك الجزء فيه الذي لا يحبه أحد. وكلُّنا، بشكلٍ غريزي نعشَق الإطراء. وأحيانا نقع في حب الآخرين فقط لأنهم يحبون فينا شيئا من ذاتنا: شكلنا، صوتنا، طريقة تفكيرنا.. الكاتِب الذي لا يجِد صدى طيبّا لكتاباته عند الآخرين قد ينتهي به الأمر إلى هجران أحد الثلاثة: كتاباته، الآخرين، نفسه ! التأثير في الآخرين أو خلق التغيير هذه في الغالب هي غاية الكاتِب المُلتزم: دينيا أو أخلاقيا أو إيديولوجيا. حيث يتجاوز الكاتب في هذه المرحلة حاجته إلى إفراغ وجعه، وجعل الآخرين يحبون ما يكتبه، إلى الرغبة في التأثير فيهم، ليتأتى له بذلك، ولو بعد حين، أن يغير شيئا في نمط المجتمع الذي يعيشه من خلال تغيير نمط تفكير الأفراد فيه. فهو بذلك لا يشارك قراءه خيالاته وأحزانه وأفراحه.. لكنه يشاركهم وجهة نظره في قضايا مختلفة ويسعى لجعلهم يتبنّونها كما لو كانت بنات أفكارهم هم. بالطبع لا يفصح الكاتب النبيه عن هذه النوعية من النوايا، لكنها لا يمكن أن تمرّ مرور الكرام في وعي المتلقي الفطن. البحث عن الشهرة وإذا قيل لك إن الكتابة في مجتمعاتنا تجلب الشهرة فاعلم أن تلك إشاعة بالتأكيد. فقد ثبت بالأدلة التي لا تقبل التكذيب أنّ الشهرة في بلداننا المتخلفة غالبا ما تكون من نصيب أولئك الذين يقفون على المنصّات وزملائهم الذين يتراكضون فوق المستطيل الأخضر إن كان نجم حظهم ساطِعا. وبتبسيط العلَّة، أو بكثير من التفاؤل يمكن أن نقول أنّ ذلك يرجع إلى سواد نسبة الفئة الناشئة (أطفال، المراهقين) بالمقارنة مع الناضجين.. لذلك فمن الطبيعي أن تتراجع القراءة في مقابل الرياضة والفنون.. والحق يقال: كلنا بدأنا صِغارا ذوي نزقٍ ورُعونة.. ومازِلنا نكبر ! هناك طبعا من يحب أن يكون مشهورا عند فئة القراء المثقفين فقط دون غيرهم من العامة. فللأدب والأدباء رِفعة وسطوة ووجاهة لا يكره أحد أن يناله منها نصيب. ولكنّ مَن يكتب بهدف الشهرة لاغير، دون وجعٍ يُؤرِّقه، أو قضيةٍ يدافع عنها، يَفتقد داخليا إلى ذلك المُحرك الذي يجعل جسَده ينتفض وعقله يختلّ ما لَم يكتب.. لذلك فإنّ كتاباته تصل إلى المتلقي باردة خالية مِن كُل عاطفة. ومن منا يستلذّ الطعام المَطهوّ على عَجل والخالي من الملح والبهارات؟ الكتابة الأدبية تقول الكثير عن كاتبها، وهي، دون أن يدري، تفضح نواياه ودواخله، وقد تصرخ في وجه القارئ قائلة: "هذا الكاتب خائن، لقد أمضى الوقت يرصّ الكلمات، ويدبّج العبارات بلا حسّ ولا مشاعِر " نعم، يمكن أن نسميها خيانة الكتابة ! ولأن الحياة لا تلتفت إلينا إلا حين ندير لها ظهورنا، فإنّ الكتابة أيضا لا تحقق لصاحبها ذلك القدر الضئيل من الشهرة إلا حين تكون هذه الأخيرة هي آخر غاياته، فيكون كاتبا من أجل الكتابة.. من أجل عينيها ولا شيء غير ذلك. الكتابة من أجل المال الكاتِب في المغرب مثلا (لأن هذه الحالة عامة في كل بلدان العالم الثالث) مضطر دائما أبدا للاختيار بين الخبز والكتابة. فإما أن يتفرّغ للكتابة وينقطع عن أسباب العيش وهكذا فإنه لن يأكل (اللهم إن كان ثريا بالوراثة) ثم يموت (واقعا ومجازا) أو يشتغل ثمان ساعات في اليوم وأكثر.. وفي هذه الحالَة أي جهد وأي وقت سيتبقى لديه ليعطي للكتابة الإبداعية حقها؟ في المغرب تحديدا؛ الكتابة الإبداعية ليست مهنة، ولا يمكن –إلا في حالات نادرة جدا- أن تدرّ على صاحبها دخلا من أي نوع. بصيغة أخرى: أن تكون كاتبا متفرغا يعني أن تظلّ جائعا بائسا بلا تأمين ولا ضمان لأبسط احتياجاتك. وأن تعمل لتؤمِّن عيشَك يعني أن تتخلى عن حلم الكتابة. وحتى ولو قاومت وقاومت سيكون إنتاجك من الكتابة الإبداعية إما ضئيلا جدا من حيث الكم، أو ضحلا من حيث المستوى. وفي كلتا الحالتين لن تكون مؤهلا لحمل صفة "كاتب" إلا إذا كنت إنسانا خارقا من فصيلة "سوبرمان" ! لماذا نكتب؟ نكتب، ربما لكل هذه الأسباب السالف ذكرها، وربما نكتب لبعضها فقط. وأيا تكن أسبابنا فإن الكتابة عملية تنتج تراكما في الوعي لدى الكاتب الذي يستكشف ذاته من خلالها، ولدى القارئ الذي يصادف فيها نفسه المفقودة.. ولعلّ من السذاجة أن أضيف هنا (وسأضيف ذلك على أية حال) أن المجتمع الذي لا ينتج كتبا في الأدب: شعرا أو نثرا، قصة أو رواية أو شذرة أو مقالة.. ولا يأكل أبناؤه من خبز تَنّورهم.. هو مجتمع لا يتقدم.. وسيبقى –كما هو منذ عقود- دائما سائراً في طريق النموّ ! [email protected]