إذا كنت تنتمي إلى العالم العربي و/أو الإسلامي، وتكتب، ولا يهم هنا، المنبر الذي تكتب من خلاله أو نوعية ما تكتبه فأنت بمجرد ممارستك لفعل الكتابة تعرف أنك لا تختلف كثيرا عن بطل فيلم "الحدود" الذي ألفه الكاتب السوري الساخر محمد الماغوط، والذي يحكي قصة سائق شاحنة (دريد لحام) فقَد أوراقه الثبوتيه في الحدود بين بلدين وهميين "غربستان" و"شرقستان" فصار عائشا بينهما لا هو يستطيع العودة إلى بلده ولا التواجد في البلد الآخر. هكذا هو الكاتب في المجتمع الذي ننتمي إليه، عائشٌ بين حدودٍ وهمية.. هذه الحدود قد يخُطّها الدين أو السياسة أو الأيديولوجيا.. وإذا كانت الأوراق الثبوتية تُمكّن أيّ مواطن في العالم من إلى الركون إلى بلده، على الأقل؛ فإنّ لا أوراق ثبوتية يمكن أن تحمي الكاتب العربي و/أو المسلم مِن رصاص "جنود الحدود" في كل مرة يحاول قلمه فيها، أن ينحاز عن الخطوط المرسومة سلفا. في أزمانٍ ماضية.. كان من يتجرأ على كتابة ما يخالف توجهات العامة، بخصوص الدين أو السياسة أو الجنس أو غيرها، نادرا ما يفلت من مصير قاتم متمثل في الحرق، أو الخزق أو الحبس أو المنفى. وتُحرّق كتبه في كل الأحوال.. الحديث عن هذه الأساليب الوحشية صار متجاوزا –إلى حدّ ما- في عصرنا الحديث. ومع ذلك فإنه مِن السُّخف أن نطرح السؤال عما إذا كان الكاتب في المجتمع العربي و/أو الإسلامي يكتب بحرية. رعب وخيال صحيح أنّ الرعب والخيال (الخيال العلمي تحديدا)، هما من الأنواع التي يتلقاها الإنسان العربي و/ أو المسلم، عبر الأدب والسينما دون أن يساهم في إنتاجهما، إلا أنهما ليسا المقصودين هنا. إنما أقصد ذلك الرعب الذي يصيب الكاتب قبل إقباله على الكتابة في موضوع ما، وإبان هذه الكتابة، وقبل النشر ثم بعده. ومَن جرّب الخوض في عالم الكتابة يفهم تلك الحالة النفسية التي تشل أوصال الكاتب في مجتمعنا، وتجعله يتموضع قُبالة لوحة مفاتيحه، ويجعَل ينقر عليها بشكل عشوائي وهو يخمّن: "أقول؟" أو "لا أقول؟" وفي الغالب يُنهي أزرار لوحة المفاتيح وقد قرر أن لا يقول ! أما أزمة الخيال فتتجلى في خيال المتلقي ذاتِه، وهو إما خيالٌ فضفاض واسِع يُسافر بصاحِبه إلى هوامش لم يقصِدها الكاتب ربما ولم تخطر بباله. أو خيالٌ ضيّق متراخٍ حين يتعلق الأمر بفهم المغزى الفني من نص معين، والقبض على الرمزية الجمالية فيه. لذلك ربما يبدو الخيال في كتاباتنا كما لو أنه رجل مشنوق، يحاول إخراج الكلمات.. لكن يدا ما تُطبق على حنجرته، وتجعل ما يخرج منه متحشرجا، متيبسا، مع احمرار وازرقاق في الجسد. هل يمكن أن نلوم المتلقي؟ لا أعتقد ذلك. القراءة هناك أزمة قراءة، ربما ليس بالشكل الذي يتمّ تصويره.. لكن وعلى الرغم من كل شيء فإن الأزمة موجودة، يقول علماء المخ والأعصاب إن دماغ الإنسان مع كل نشاط جديد يمارسه يكوِّن مسارات عصبية جديدة، الإنسان الذي لا يقرأ، أو لا يقرأ إلا نادرا، هل كوّن عقله تلك المسارات التي تُفكِّك رموز الكتابات الإبداعية؟ هل يستطيع استِشْفافِ روح الجمال فيها، بالتأكيد لا. من المسؤول إذن؟ هو الكاتب الذي يخاف. إن الكاتب الذي يخالف ضميره، ويزين كتاباته، حتى ينال رضى القراء ويحفظ مكانه في تلك المنطقة الآمنة بين الحدود؛ لا يختلف عن فاوست الذي باع روحه للشيطان. حامِل القلم، يفترض أن يسمو بالقارئ، أن يخط ما يراه عادلا، وحقا، حتى إذا لم ينجح في استمالة القراء، حتى وإن خسرهم فإنه يكسب نفسه.. ولا يكون ضمن المنساقين نحو عبارة "الجمهور عايز كده" بين الماركيز "دي ساد" و"نجيب محفوظ" كانت كتابات الماركيز دي ساد عنيفة دموية، حتى في تصوراتها الجنسية تتخللها مشاهد دماء وتعذيب، لذلك أطلق على من يتلذذ بتعذيب الآخرين اسم "سادي" نسبة إلى دي ساد. حوكِم الكاتب الفرنسي، وسجن مرات عدة، وفلح في الهروب أيضا، حتى أنه كان أحد نزلاء سجن الباستيل الشهير قبل أن يفر منه، والواقع أن ملاحقة العدالة لدي ساد لم تكن فقط بسبب كتاباته التي لا تعترف لا بحدود القانون ولا الدين ولا الأخلاق، ولكن لأفعاله الإجرامية أيضا، فالرجل اتهم في قضايا تعذيب واعتداء جنسي.. أما جلّ تصوراته الخليعة والعنيفة فقد كتبها وهو خلف القضبان.. هذه كلها أمور تدعو لكراهية الماركيز العنيف، خاصة علاقته الغرامية الجنسية بأخت زوجته. كنت أتساءل وأنا أقرأ سيرته: بالإضافة لكلّ خلاعاته وبشاعته لم يجد غير شقيقة زوجته ليتخذها خليلة؟ زندقة وخيانة أيضا؟ لكننا إذا قرأنا تاريخ دي ساد برويّة وتمعّن من زاوية أخرى، فسنجد أنفسنا أمام رجل كان يبدو طبيعيا في وقت ما، ولو أنه كان يعيش أزمة نفسية سببها خوفها من أبيه المتسلط الذي فرض عليه أساليب عيش معينة. الضغط الذي عاشه دي ساد في طفولته وسنوات شبابه الأولى جعلت منه وحشا ثائرا في حياته الخاصة كما في كتاباته، كان في داخله سوداويا ولكنه قرر التعبير عن ذلك. المؤسف هنا، أن شقيقة زوجته التي ربطته بها علاقة غير شرعية دونا عن كل نساء العالم، كانت هي حبيبته الأولى، حبيبته الأصلية قبل أن يُرغمه والده المتسلط على الزواج من شقيقتها. أما نجيب محفوظ، فإنه لم يسجن ولم يحاكم، فقط أُلصقت به تهمة الإلحاد. وتبعا لذلك تعرّض لمحاولة قتل خرج منها بطعنة عابرة، بالإضافة إلى منع روايته الشهيرة التي كانت أحد أسباب تعرضه لمحاولة "أولاد حارتنا" لفترة غير قصيرة. عندما سئل طاعن نجيب محفوظ عما إذا كان قد قرأ إحدى رواياته، أجاب بالنفي، ولكنه أكد على أنه سمع بأن نجيب محفوظ "كافر". أحد أهم من روجوا لإلحاد نجيب محفوظ هو الداعية الإسلامي واسع الجماهير الشيخ كشك. وقد استند الشيخ كشك في كتاب اسماه "كلمتنا في أولاد حارتنا" على كفر نجيب محفوظ مستخدما استدلالا طريفا جدا؛ جاء فيه أن نجيب محفوظ تتلمَذ على يد سلامة موسى وأن سلامة موسى ماركسي، والماركسية إلحاد، إذن فإن نجيب محفوظ ملحد بالضرورة ! أما المفارقة هنا، هو أنّ الشيخ الضرير هو نفسه قد تعرض للاعتقال في سجون عبد الناصر، فقط لأنه لم يخالِف ضميره وتجرأ على كشف مواطن الخلل في سياسة الزعيم المصري الذي عرف عنه اعتقال وتعذيب كل من يخالفه الرأي ومن أشهر ضحاياه وقتئذ الإخوان المسلمين.. لا ننسى هنا إعدام سيد قطب بسبب آرائه وأفكاره أيضا ! العملية إذن، من أولها إلى آخرها تدور في فلك المنع مِن التعبير، سواء كان الشخص الذي يُعبّر، ملحدا، أو مسلما ثائرا، أو مسلما دون أي وصف إضافي، أو داعية إسلامي، أو منظرا لحركة إسلامية. أما في عصرنا الحالي فإن الكاتب العربي و/أو المسلم يتلفت يمنة ويسرة قبل أن ينطق بما لا يحمد عقباه، ولسان حاله يقول: لسانك حصانك إن صنته صانك ! فيسبوك منبر من لا منبر له وهذه واحدة من أشهر الشائعات التي تترصد هذا الموقع الأزرق، صحيح أن قانون الفيسبوك يسمح للمستخدم بالتعبير على سجيته.. لكن المستخدمين الآخرين لا يسمحون بذلك إطلاقا.. إنهم هناك يتربصوك بك على الدوام، ومهما كانت آراؤك وبغض النظر عن الأفكار التي تروّج لها، والتوجهات الدينية أو الأيديولوجية أو السياسية أو الفلسفية.. إلخ التي تتبناها؛ فإن ثمة دائما فئة تتربص بك، وتشحذ أسلحتها مستعدة للطعن فيك وفي أقوالك، وفي سلامتك النفسية وقوتك العقلية، بالسبّ أو الشتم أو التسفيه أو السخرية وأحيانا بها جميعا. ولماذا نكتب أصلا؟ للتعبير عما يجول في خواطرنا، لأن الغبن الحقيقي هو أن يحمل الإنسان إلى قبره كلمات كان تجثم على صدره. ولأن الكتابة وسيلة من وسائل التغيير، ليس لأن الكاتب يُفترَض أن له إدراكا أكبر للعالم، وبوصلة تمنحه معرفة شاملة للحقيقة حتى يوجه المتلقي نحوها، ولكن لأن الكاتب، الأديب خاصة، يمتلك ملكات حسية فطرية تجعل إدراكه لما يدور حوله أكثر دقة. وهو حين يكتب يشير إلى اختلالات الطبيعة كما يراها، ويدل القارئ على الأبواب دون أن يدعي امتلاك مفاتيحها. وبذلك فإن الخطوة الأولى والأخيرة رهينة بالمتلقي وبطريقة فهمه وتأثره. تنحرف عملية الكاتب الصادرة من الكاتب الإنسان حين يشعر هذا الأخير أنه باختياره التعبير بحرية وصدق مهدّدٌ بأن يتعرض للعزل (الأسرة المجتمع..) أو التصنيف (كافر، ظلامي، متطرف، رجعي، ملحد، مادي، انتهازي،) أو التهديد (السجن، القتل..) خاصة أن خيال الكاتب المبدع، غالبا ما يصوّر له -إن لم يكن يغلب علبه الطابع التشاؤمي- أن كتاباته ستُستقبل بنوع من التصفيق المقرون بالتهليل وإلقاءِ الورود، ولا بأس ببعض العناق والقُبل ! تجاهل الكاتب وما يكتبه هو في حدّ ذاته ذبح. فما بالكم بسوء الفهم المقرون بكل أنواع العنف المعنوية أو المادية أو الجسدية؟ [email protected]