أثار قبر في طور التلاشي وسط ساحة أحراش بتازة العليا جدلا واسعا، خلال الأسابيع الأخيرة، في أوساط نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، لاسيما أبناء المدينة القاطنين بها أو المتواجدين خارجها أو بعيدا عن تضاريس الوطن. الآراء في مجملها وإن جاءت متباينة، ومتضاربة حول هوية صاحب القبر، إلا أنها أجمعت على ضرورة احترام حرمته والتعجيل بترحيل الرفات إلى مكان يحفظ للميت كرامته. الجريدو طرحت الأسئلة التالية واستمعت إلى آراء المواطنين: "لمن يعود هذا القبر الذي يتوسط ساحة أحراش الشهيرة؟ هل هو قبر ضابط سام في الجيش الفرنسي أم رفات قاض شهير اختير دفنه بباب المحكمة؟ هل هو قبر لمفكر أو فيلسوف ضاعت هويته أم يعود لشخصية وافدة جرفها النسيان كانت ذات ارتباط وثيق بجغرافية تازة؟ هل يرجع القبر لجندي مجهول أم لمتسكع لا هوية له في زمن عنوانه ضياع الهوية؟ هل هو رفات لأحد أعيان تازة ووجهائها بداية القرن العشرين أم لرجل متدين وولي صالح اختفى أثره؟ أسئلة وغيرها كثير استقت الجريدة من خلالها آراء الناس ورصدت أجوبتهم واستفهاماتهم وأعدت في شأنها الورقة التالية: بساحة أحراش الشهيرة، غير بعيد عن النافورة التي استنزفت مالية الجماعة لسنين وأعوام لتستقر في شكلها الجمالي الحالي، وعلى بعد حوالي 10 أمتار من باب المحكمة العتيقة، التي تحولت إلى موقع مهجور بعد إغلاقها من قبل سلطات المدينة دون معرفة مآلها، وغير بعيد عن باب القبور الشهير بالمدينة العتيقة، ثمة قبر مجهول الهوية يتوسط الشارع العام مزركش بفسيفساء دون شاهد، وفي طور التآكل التدريجي. يقول محمد العلوي الباهي، باحث في الحضارة المدنية صاحب كتاب "علماء تازة ومجالسهم العلمية. مقاربة تاريخية"، إن ساحة أحراش هي القلب النابض لمدينة تازة العتيقة؛ حيث كان يقام السوق الأسبوعي قبل فترة الحماية. ولشساعتها ورحابتها وجدها المستعمر سانحة لتثبيت هياكله الإدارية، وتوظيف فضائها الاستراتيجي لتشييد المرافق العمومية التابعة لسلطات الحماية. ومن أهم البنايات والمرافق الإدارية، نجد مقر المقيم العام، ومقر مراقبة الشؤون المحلية، والمحكمة، والبريد، ومقر البلدية، والسوق المركزي، والمدرسة الجديدة، والمستشفى...إلخ. ويضيف الباهي أن سلطات الحماية كانت قد خصصت للفرنسيين مقابر خاصة لدفن موتاهم، (مدنية وعسكرية)، وفق طقوسهم المألوفة. ويجزم المتحدث هنا أنه لا يمكن العثور على رفات أجنبي خارج المقبرة المسيحية المسورة والمحروسة، ومكانها موجود اليوم قرب فضاء المعرض البلدي بالمدينةالجديدة. منبها إلى أن الاستعمار الفرنسي سحب رفات عدد من الشخصيات الهامة عقب انسحابه وحصول المغرب على استقلاله. وهو ما يفسر في نظر المتحدث نفي صفة الهوية الفرنسية عن صاحب القبر. وينتصر محمد بلشقر، رئيس الهيئة الوطنية لحماية المال العام، لفكرة إقدام المستعمر على اختيار ساحة أحراش كمنطقة إدارية ليس لأن الساحة محورا رئيسيا تتقاطع أو تصب فيه جميع المداخل، بل لأنه فضاء رحب ومراقب ويستقطب مختلف الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والخدماتية. وحول رأيه في هوية صاحب القبر تساءل: "أين ذهب السياج الحديدي متقن الصناعة الذي كان يحمي هذا القبر؟ وما الغاية من انتزاعه وترك حرمة القبر عرضة للتلاشي وركن عربات الخضر؟" في هذا السياق، تجمع المصادر التاريخية على أن هذه الساحة شهدت أحداثا دامية خلال فترة الحماية؛ إذ لعبت دورا مهما خلال المطالبة بالاستقلال. وكان السكان يعبرون عن سخطهم للاستعمار وولائهم للسلطان. كما أنها شهدت أطوار فرحة وطنية كبيرة تمثلت في استقبالها للمغفور له محمد الخامس خلال زيارته إلى هذه المدينة إبان الاستقلال. وظلت تشهد مختلف الاحتفالات بالأعياد الدينية والوطنية. لكن عبد الإله بسكمار، صحافي وروائي صاحب كتاب "تازة بين القرنين الخامس عشر والعشرين: الوظائف والأدوار"، فيقول: "نقولها بكل تواضع، لا يُعرف صاحب هذا القبر الموجود بقلب ساحة احراش تازة العليا، هو موجود منذ أن خرجنا إلى هذا العالم". ويستشهد بسكمار برأي والده رحمه الله، وهو أحد أعيان المدينة ومناضليها، الذي قال إنه قبر "الجندي المجهول"، والبعض ذهب إلى أنه قبر أحد الضباط الفرنسيين. بينما ذهب أحد المنقبين إلى أنه قبر ابن بطوطة. ويخلص بسكمار إلى أن الحقيقة لا يعرفها أحد. ويضيف صاحب رواية "قبة السوق"، الصادرة في جزأين، "في كل الأحوال مؤسف أن يلاقي هذا القبر الموجه تجاه القبلة الإسلامية مصيرا مؤسفا". أما مولاي التهامي بهطاط، رئيس تحرير "المجلة المغربية" الشهرية، فيذهب بالنقاش بعيدا ويقول: "أمة لا تحترم أمواتها لا تستحق الاحترام". ويسوق مشهدا مماثلا في قرية رْشيدة بتخوم مدينة كرسيف، حوالي 60 كلم شرق تازة؛ حيث "يوجد هناك ضريح لشخص مجهول، كل ما يعرفه الناس عنه أن اسمه طلحة"، والعجيب، يضيف مولاي التهامي بهطاط، صاحب مؤلف "الأصالة والمعاصرة.. حزب البعث"، أن "القبر في اتجاه بيت المقدس وليس القبلة، كما أكد أكثر من مصدر". وأضاف: "كانت هناك مقبرة على بعد أمتار من ضريح السي طلحة، لكنه لم يدفن فيها، بل دفن وسط الطريق. وبالنسبة لاتجاه القبلة (الكعبة) محددة وجميع قبور القرية تتجه نحوها باستثناء هذا القبر الذي يوجد وسط بناء متواضع، كما أنه لا يتوفر على الدربوز أو الكربوز. أضف إلى ذلك أن القرية كانت موطن علماء وفقهاء لم يكونوا ليسكتوا على دفن بهذه الطريقة، لو لم تكن هناك مبررات من نوع ما. فضلا عن أن القرية تعتبر سيدي طلحة من ساداتها وأوليائها (مجموعهم 65 وليا ضمنهم سيدتان)". وينخرط مواطن آخر في الجدل دون استئذان ويتساءل: "هل من متطوع لترميم هذا القبر أيا من كان الراقد فيه؟". إن هذا القبر، يضيف صاحبنا، "ينتمي إلى تراث وتاريخ تازة. يجب ترميمه وكتابة لوحة رخامية فوقه، سواء كان يعرف صاحبه أم لا. أما إذا كان صاحبه مجهولا وهو كذلك، فإنه مواطن تازي مسلم ويستحق الاحترام". ويستطرد ثانية وبحرقة: "لماذا تحرص الأمم الأخرى على تقديس وتبجيل ما يسمى بقبر الجندي المجهول، وتنظم زيارات موسمية له، وتوضع الزهور بجانبه. عندهم يحترم الأحياء كما يحترم الأموات أما عندنا فإنه لا حرمة لأحد". لكن أحد أبناء المدينة، عبد العزيز حاجي، سيقلب الرواية رأسا على عقب بقوله: "هذا القبر قد يكون إما قبر امرأة أو رجل من عائلة الحاجي حسب ما كنا نسمع ونحن أطفالا دون كبير اهتمام". ويؤكد المتحدث أن بساحة أحراش يوجد قبران؛ أحدهما لذكر وآخر لأنثى شقيقين "لجدي وجد حميد حاجي؛ حيث تم دفنهما بهذه الأرض التي كان يملكها أبوهما في ذلك الزمان. والتي سلبت وتمت سرقة الوثائق التي تثبت ملكية الأرض منه بعد وفاته". ويتأسف المتحدث لكون أناس كانوا يعرفون هوية القبرين رحلوا إلى الدار الآخرة. ولا يتردد الحاجي في اعتبار قبر موجود غير بعيد عن القبر المنسي (بجانب استوديو التوزاني)، وفي هذا الصدد تأكدت الجريدة من وجود القبر المشار إليه، لكنه ليس كغيره إذ يحظى بعناية خاصة، فهو مزين بالفسيفساء ومحاط بسور وسياج يحميه ومساحته تتجاوز 20 مترا مربعا. ويأتي هذا الانقسام في تحديد هوية القبر المنسي، الذي يعود إلى ما قبل الحماية، إلى اعتماد معظم من استقينا آراءهم على ما هو متداول من روايات شفوية، دون الاحتكام إلى وثائق. عادل أندلسي، مواطن تازي يقدم نفسه كأحد أبناء تازة مهاجرا في إيطاليا، يقول: "ألفنا رؤية هذا قبر كلما مررنا بساحة أحراش، لكن لا أحد لديه الإجابة لمن يعود؟ يقولون لجندي مجهول، والله اعلم". لكن الباحث محمد العلوي سيعود ليؤكد للجريدة أنه يتوفر على مجموعة من أخبار القبر المشار إليه كَونَتْ لديه دراسة هامة لا تخلو من فائدة سيعمل على نشرها مستقبلا. ويقدم معلومات فيما يخص ضريح "طلحة" بقرية رشيدة المتجه شاهد قبره نحو بيت المقدس كما هو شائع هناك، فقد وقف عليه في زيارة جمعوية السنة الماضية، وسمع هذه الشائعة". وفي علاقة بحرمة القبر، أبدى أحد المتتبعين للشأن الاجتماعي بتازة أسفه وتمنى لو ترخص له السلطات للقيام بجمع رفات هذا القبر المجهول بساحة أحراش الذي تحول إلى ما يشبه كومة تراب متآكلة في الشارع العام، ونقله على الفور إلى مقبرة المدينة. وقال: "رفات هذا المواطن المغربي مجهول الهوية بهذا المنظر البشع يشكل أكبر إهانة لأموات المسلمين. كما يقدم صورة على تناقض صارخ فيما يخص ما نعتقد به وما نقوم بتطبيقه من تكريم للإنسان على أرض الإسلام". وبخصوص معلومة "قبر الجندي المجهول"، يسوق عزيز باكوش، صحافي مدير موقع "فاس اليوم"، سياقا تاريخيا للحدث بسرده أسباب النزول؛ حيث اعتبر نهاية الحرب العالمية الثانية مشهدا بصريا مؤسسا. فقد رأى المسؤولون في دول الحلفاء أن جثث الكثير من الجنود الذين لقوا حتفهم في المعارك لا يمكن التعرف عليها، تبعا لذلك قررت حكومات كل من بلجيكا وفرنسا وبريطانيا وإيطالياوالولاياتالمتحدةالأمريكية تكريم ذكرى هؤلاء الجنود بطريقة خاصة. فقامت كل حكومة باختيار جندي مجهول رمزي ودفنه في العاصمة الإدارية للدولة، أو بالقرب منها، ثم شيدت نصبا تذكاريا أو ضريحا تكريما له. ويستشهد المتحدث بمعلومة تاريخية تؤكد عودة أول ضريح للجندي المجهول إلى عام 1858، وهو ضريح "جندي المشاة" في فريدريكا في الدنمارك، بعد حرب سكيلسفيغ الأولى. ويعود ضريح مهم آخر إلى عام 1866 الذي وضع في الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد أحداث الحرب الأهلية هناك بين الشمال والجنوب. لكن بداية الأمر كتقليد فعلي أخذت مكانها بعد أحداث الحرب العالمية الأولى التي بلغ فيها عدد الضحايا والجنود الذين لم يكن بالإمكان التعرف على هويتهم عدداً هائلاً، ويعتقد أن بداية التقليد أخذت طريقها من تأسيس ضريح الجندي المجهول تحت ما يعرف بقوس النصر في باريس عام 1920. لكن قرارا من قبيل نقل الرفات ليس قريب المنال، يعلق متحدث آخر، "المشكل هو المسطرة المعقدة جدا لنقل رفاته من وإلى مكان يليق به، مهما كان اسمه أو دينه وجب إكرامه". ويضفي متحدث آخر الغرابة على الجدل بقوله: "هذاك لقبر منين حليت عني وهو تما. كان عندو الشباك وحيدوه. والله أعلم تيقولو فيه شي كنز؟ أما عبد القادر الرميلي، مدير مؤسسة تعليمية وناشط تواصلي، فيدلي برأيه قائلا: "منذ صغري كنت أتساءل لماذا دفن صاحب هذا القبر وحده في هذا المكان وسط الأحياء؟ ولكن كنت أسمع من أمي وأبي عن المدخل إلى تازة العليا بين الأقواس وسور رحبة الزرع التي يوجد بداخلها قصر البستيون؛ أي المدخل القديم من دار العامل إلى مقر العمالة القديمة، كنت أسمع منهما "باب القبور"، فهل كانت هناك قبور قريبة من هذا القبر؟ ويتابع مستطردا: "من المحتمل أن يكون هذا القبر لأحد المعمرين الفرنسيين لأنه غير مُقبَّل اتجاه القبلة. كما قبورنا نحن المسلمين بمقبرة المدينة، واتجاهه هو نفس اتجاه قبور النصارى الموجودة مقابل معرض تازة والله أعلم؟". ويضيف أن أصل التسمية التاريخية لهذا الشارع هي "باب القبور"، ممتد من العمالة حتى فيلا بوعبدالله. وعلى صعيد تدبير أمر نقل الرفات، تمنت الفنانة فاتحة الحيمر أن ترخص لها السلطات "هذا الأجر الذي أنال ثوابه من رب العالمين". ودعا مواطن زائر للمدينة الى وجوب ترميمه على الأقل، ووضع سياج حوله، حتى يتم التعرف على انه قبر ويحفظ من التدنيس، وقال: "الذين يحترمون إنسانيتهم، ويكرمون موتاهم في مواقعهم يصنعون الحضارة في أبهى صورها". امحمد العلوي الباهي قبل أن ينهي حديثه بخصوص نقل الرفات من عدمه سينبه بنبرة متشددة: "لا يجب تحويل القبر من مكانه (لثوابت تاريخية)"، وزاد موضحا أن "الاستعمار الفرنسي احترم حرمة وهوية القبر المجهول، خاصة لما عمد إلى تزفيت طريق السيارات، ومدد الرصيف في اتجاه الطريق حتى لا تتم إزالة القبر، كما أن مساحته الأصلية التي كانت مسيجة بشباك حديدي ومؤطرة بالخشب أكثر من مساحته الآن، بالإضافة إلى أن الضريح ومساحته الحقيقية وجوبا في تعهد وزارة الأوقاف، فلا تحولوه من مكانه لثوابت تاريخية سيُكشف عنها يوما ما. وهناك الكثير ما يُقال ضمن دراسة معمقة ستصدر قريبا".