يبدو أن الملك أكثر تفتحا من كثير من الفاعلين الدينيين والقانونين في هذا الوطن، فقد سبق وأن دعا في خطبة "ثورة الملك والشعب" إلى خيار التنوير في فهم الدين الإسلامي، واعتبر ادعاء امتلاك الحقيقة الدينية من طرف بعض الجهات واحتكار الدين الصحيح دافعا نحو التطرف. وها هو الملك يصرح في لقاء صحفي مرة أخرى بأنه أمير للمؤمنين من كل الديانات وبأن الإسلام المغربي معتدل وسمح...أليست هذه إشارات قوية على كل المتنورين من رجال الدين ومن المثقفين بمختلف إيديولوجياتهم التقاطها و تبنيها والالتحام حولها ومعها لتشكيل جبهة قوية تضغط لإعادة صياغة القوانين التي تستمد شرعيتها من الدين وفق فهم صحيح ومنفتح لهذا الدين غير متناقض مع منظومة حقوق الإنسان الكونية التي تقر حرية المعتقد كحق إنساني مقدس !! في هذا الإطار نقول إذن: إن المرجعية المؤسسة للحرية الدينية، والضامنة لبقائها واستمرارها؛ مرجعية تضرب جذورها في تعاليم الدين الإسلامي نفسه، وما علينا إلا إعادة قراءته جيدا، فالدين (بخلاف ما يُعتقد) هو المؤسس للحرية الدينية، تكليفا وإيمانا، وتفصيلا وتشريعا، وكل إخلال بهذه الحرية الدينية إنما هو إخلال بالدين في مقتضياته الإيمانية والتشريعية. لابد لكل متأمل في منهجية ترسيخ الإيمان في القرآن أن يستنتج ضمانات حرية الضمير منها، فالقرآن يدعو إلى تحرير العقل من سلطان الأهواء والشهوات التي من شأنه أن تقيد حركته الحرة في التفكير، يقول القرآن في هذا الهدف: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا" (الفرقان 43)، ثم إن القرآن نفسه ينكر بشدة على أولئك الذين سلطوا على أنفسهم سلطانا خارجيا يتبعون ما يرشدهم إليه من المعتقدات، فيفقدون بذلك حريتهم في التفكير والاعتقاد في قوله بلسان هؤلاء: "قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ" (الزخرف 22) وكذلك قوله "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون" (البقرة 170). نكتفي بهاتين الآيتين وإن كانت الآيات التي تقر الحرية الدينية وتدعو إليها كثيرة، فالقرآن يدعو لإعمال العقل وتبني التفكير الذاتي الذي يعد قوام حرية الاختيار، بل إنه تجاوز هذه الدعوة للتوعد بمعاقبة من استغنى عن هذه الخاصية التي وهبه الله بقوله "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" (الملك 10) فإذا ما مارس الإنسان حرية التفكير والاعتقاد فسينتهي إلى ما يكون له أجر عليه بذلك - حتى ولو انتهى إلى دين آخر أو إلى اللاّدين - لأنه اختيار حرّ وصل إليه بعد عناء التفكير عبر استخدام ملكة العقل التي ميّزه الله بها عن باقي خلقه، أما وإن أخل بذلك فنصّب على عقله سلطانا من آباء وأجداد ورهبان وكهّان ووسائل إعلام وأبواق غواية... فعليه أن يتحمل مسؤوليته إزاء ما انتهى إليه من معتقدات...لأن الله مكّن الإنسان من حرية الاعتقاد تمكينا فطريا وشرعيا معا، ومن فرّط في هذه الحرية إنما يفرط فيها عن طواعية وليس له حجة غير أنه كسول لا يقوى على تشغيل عقله، فوهبه جملة ل"مجرمين" يتلاعبون به ويقودونه وفق مصالحهم الشخصية، ومن هؤلاء المجرمين من صار فاحش الثراء متوسلا غباء من يرسلهم للانتحار انفجارا للظفر بالحور العين...فتحميل القرآن الإنسان هذه "المسؤولية" لم يأت عبثا، وإنما لخدمة الإنسان نفسه وتكريما له، وتلك المسؤولية هي أقوى الضمانات للممارسة الفعلية لهذه الحرية. الحديث عن الحرية الدينية لا يستقيم اليوم دون ربطه بالقانون، وإلا ظل مجرد ترف فكري وتغريدا خارج السرب، فلابد من خاصية "التفعيل"، ولتفعيل حرية المعتقد في مجتمعنا يجب ضمان الحق في إظهار المعتقد والتعبير عنه قولا وفعلا، بالتصريح به علنا وبممارسة عباداته وشعائره أنى كانت، ويدعم هذا ما يدعو إليه القرآن من حرية الاعتقاد؛ لأن منع الإنسان من التعبير عن معتقده سيسقطه في نوع من النفاق، فيصرّح بعكس ما يؤمن به، وقد يقيم طقوسا دينية لا يؤمن بها، إنما يفعل ذلك خضوعا ل "قهرية" المجتمع والقانون التمييزي، وهذا حال بعض الملحدين واللادينيين وكذلك معتنقي مذاهب وديانات أخرى في المغرب. لم يعد مقبولا اليوم تحت أي مسوغ ممارسة القهر على الناس باسم الشرع والقانون، فإن كان على القرآن (وهو المصدر الأول للتشريع) فإنه يقرّ بحرية الاعتقاد ويلزم بها...وما على المشككين إلا إعادة قراءة القرآن بذهن خال من المؤثرات التفسيرية المتطرفة التي ألحقت به عنوة لتشويهه...وأما عن القانون؛ فليس يوجد أي مسوغ لاستمراره في الرقابة على ضمائر الناس ومصادرة حرياتهم الفردية والجماعية باسم الدين، فليس من المعقول أن تحاكم شخصا ب"تهمة" أو قانون يستمد شرعيته من دين (أو بالأحرى تفسير معين لهذا الدين) لا يدين به أصلا، إن كان الله بجلاله استنكر هذا، فكيف نفعله نحن !!! *باحث سوسيولوجي بمختبر LAREPS بجامعة فاس [email protected] https://www.facebook.com/rachid.sociologie.7