في سياق انعقاد الدورة العاشرة للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي يومي21 و 22 نونبر 2016،صادقت الجمعية العامة للمجلس على مشروع الرأي الاستشاري حول القانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي،الذي كان قد سبق و تقدمت به الحكومة المنتهية ولايتها في شخص رئيسها (رئيس الحكومة المكلف حاليا عبد الإله بنكيران)، والذي سبق وأن صرح بأن نفقات قطاعي التعليم و الصحة تشكل عبء ماليا على الميزانية العامة وبالتالي يجب على الدولة أن ترفع يدها عن القطاعين،وهو ما جعل الكثير من المهتمين بالشأن التعليمي ببلادنا، يطرحون حينها العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت مثل هذه التصريحات الرسمية هي إرهاصات أولية لبداية تملص الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية؟أم بالونات اختبار؟ أم تعبير عن نوايا حكومية سيئة وأهداف مبيتة ضد قطاع التعليم بالمغرب؟ أم جس نبض لأمر أدهى وأمر؟ وبالارتباط مع ما أوردناه أعلاه،بشأن مشروع الرأي حول القانون الإطار لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، فلابد أن نشير إلى النقطة أكثر إثارة للجدل في هذا القانون الإطار،وهي تلك المتعلقة بتأيد فكرة إلغاء مبدأ مجانية التعليم بأسلاك التعليم الثانوي والعالي. المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي كمؤسسة دستورية، بإعطائه لما يمكن أن نسميه فتوى( وليس رأيا استشاريا)، يكون قد شرعن لعملية تحويل التعليم من خدمة عمومية مجانية إلى خدمة مؤدى عنها،أي تحويل المواطن من مرتفق في علاقتها بقطاع التعليم إلى زبون، وفتح الباب لتملص الدولة من مسؤولية أساسية من المسؤوليات الملقاة على عاتقها. وهو ما يشكل من جهة، قفزا على حقيقية كون التعليم كقطاع حيوي هو من مسؤولية الدولة،من منطلق أن دعم المنظومة التعليمية الحرص على استفادة المواطنين منها، يمثل بعدا هاما من أبعاد السياسات الاجتماعية في أي بلد يحترم نفسه، ذلك أن تحقيق أهداف التنمية في أي مجتمع لابد أن يستند إلى مجتمع يتسم أفراده بمستوى تعليمي جيد. ومن جهة أخرى، يضرب في العمق في منطوق الفصل 31 الذي جعل من التعليم حق من حقوق الإنسان الأساسية، إذ يشير إلى أنه: "تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، من حق العلاج والعناية الصحية، الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، التضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة، الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة، التنشئة على التشبث بالهوية المغربية، والثوابت الوطنية الراسخة، التكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية، السكن اللائق، الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل أو في التشغيل الذاتي، ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق، الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة و التنمية المستدامة". ولعل ما يزكي معطى محاولة الدولة التحلل من مسؤولياتها الاجتماعية وبخاصة في قطاع التعليم، قيام الحكومة المنتهية ولايتها من خلال مشروع قانون المالية لسنة 2017 بتخفيض الميزانية المخصصة لوزارة التربية والوطنية والتكوين المهني. ففي الوقت الذي جرى فيه الحديث إبان اعتماد المخطط الإستعجالي 2009-2012 عن التزام الدولة بالرفع التدريجي من ميزانية التعليم ب 5 في المئة سنوي (بعد أن أثيرت مسألة عدم وفاء الدولة بالتزاماتها المالية لتغطية كلفة الإصلاح التعليمي خلال أكثر من منتدى رسمي )، وبعد التقليص سابقاً من ميزانية وزارة التربية والوطنية والتكوين المهني بنحو مليار درهم برسم السنة المالية 2015 علما أنه تم في نفس تلك السنة تقديم المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي للرؤية الإستراتيجية لإصلاح المدرسة العمومية2015-2030 وجعل سنة 2016 كموعد مبدئي لاعتمادها، نجد أنه تم من خلال مشروع قانون المالية 2017 الاستمرار على نفس النهج القاضي بالتخفيض من ميزانية وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، حيث انتقلت مخصصاته من 45 مليار و753 مليون و366 ألف درهم برسم السنة المالية 2016 إلى 44 مليار و646 مليون و498 ألف درهم سنة 2017. وهو ما يضرب في العمق ما كان يتردد عبر أمد من الزمن ليس بالقصي،كون قضية التعليم هي في المرتبة الثانية بعد قضية الوحدة الترابية،ويتنافى من جهة أخرى والرغبة والدعاوى إلى إصلاح المنظومة التعليمية ( التي انطلق موسهما الدراسي2016-2017 على وقع مشاكل الاكتظاظ والخصاص في الأطر التربوية والإدارية والتجهيزات ... ) وإعادة الثقة إلى المدرسة العمومية كي تصبح مدرسة المستقبل التنموي بحق . وتبعا لكل ما سبق ذكره من المعطيات والأرقام، يتعزز الاستنتاج باستمرار النظر لقطاع التعليم ككلفة مالية وليس كأداة أساسية لتثمين والاستثمار في الإمكان البشري الذي هو قطب الرحى في كل تنمية منشودة(في الأدبيات المعاصرة في نظريات النمو الاقتصادي تمت صياغة متغير للتعليم في شكل رأس المال البشري وإدخال هذا المتغير في نماذج النمو الاقتصادي). و هو ما يدفع للتشكيك في جدية النوايا المعلن عنها لإصلاح المنظومة التعليمية ومدى الرغبة في تفعيل الرؤية الإستراتجية لإصلاح المدرسة المغربية، وإنقاذ المدرسة العمومية ككل من الأزمة التي تتخبط فيها . علما أن النجاح في بلوغ الرهانات الكمية والنوعية لإصلاح المنظومة التعليمية في بلد كالمغرب،يرتبط بعدة مقومات ومرتكزات أساسية من جملتها عنصر التمويل . وأمام ما أثير في هذا المقال، أليس يدعو كل ذلك إلى أن نتساءل : هل الدولة المغربية لها الإرادة الفعلية لإصلاح أعطاب المدرسة العمومية المغربية المتفاقمة ؟. وإذا كانت المواطنة في ابسط التحديدات المتعارف عليها هي عبارة عن حقوق والتزامات، وأمام رغبة الدولة في قطع حبل الوريد بينها وبين المواطن المغربي والذي يجسده مرفق التعليم إلى جانب مرافق اجتماعية أخرى،وتبعا لذلك نصبح أمام مواطن زبون وليس مرتفق إرضاء لرغبة أوساط معينة في التحول من دولة تخدم إلى دولة تحكم تماهيا مع أطروحة نيو- ليبرالية "الدولة الأقل"، يثار السؤال حول دور الدولة ؟ومدى شرعية فرضها للضرائب وما إذا كان المواطنين ملزمين بذلك ؟. فكارثتنا الكبرى، أننا لسنا في دولة دخول مواطنيها مرتفعة،كما أننا لا نتوفر على نظام تعليمي على درجة من الجودة (ليس صحيحا أن يدفع الزبون ثمن خدمة ضعيفة الجودة )،فالمدرسة المغربية منذ أمد بعيد لم تعد تستجب لطموحات الشعب المغربي،والأكثر من كل ذلك: ما علاقة إصلاح وتجويد المنظومة التربوية التعليمية المغربية بإلغاء مبدأ المجانية؟وهل يدفع الطالب ثمن خدمة يستفيد فيها من شهادة لا تؤهله لولوج سوق الشغل؟ ختاما، قد يكون من المناسب أن نشير إلى أربع نقاط: النقطة الأولى: إن إصلاح المنظومة التعليمية لا يكون بالرغبة وحدها أو بحسن النوايا،فالأمر يحتاج لحوامل عديدة ترتبط بتامين شروط موضوعية من بينها التمويل العمومي ، فالتعليم كحق دستوري يفترض أن توفر له مستلزماته ،لا أن تحاول الدولة التملص من مسؤولياتها في هذا الباب وفي ذلك مخالفة لروح الدستور. فالكثير من الدول لا تزال تخصص اعتمادات مالية مهمة للتعليم في ميزانياتها العامة ،ونورد هنا مثال لتركيا التي رصدت حكومتها للجامعات إعتماد مالي يصل إلى 8.42 مليار دولار برسم الميزانية العامة لسنة 2017، وهي تفوق بذلك الاعتمادات المخصصة في ذات الميزانية لخمس وزارات مجتمعة( العلوم والصناعة والتكنولوجيا، والجمارك والتجارة، والاتحاد الأوروبي، والغابات وشؤون المياه، والشباب والرياضة ). النقطة الثانية : يعتبر مبدأ مجانية التعليم - كما يشير بعض الباحثين في القانون- من مبادئ النظام العام، فهناك دول متقدمة اقتصاديا دخول المواطنين بها مرتفعة ولا تزال تتبنى مجانية التعليم من المهد حتى اللحد،وإن تبني الحكومة المقبلة بالمغرب لإجراء إلغاء مجانية التعليم تعتريه خطورة قصوى على الشرائح الفقيرة و أصحاب الدخل المحدود. النقطة الثالثة : إن مجرد طرح مسألة إلغاء مجانية التعليم للتداول، هي محاولة لتهريب النقاش وصرف للأنظار عن معالجة القضايا الأساسية والإشكالات الجوهرية و التي لا إصلاح حقيقي دون ملامستها ومعالجتها بكل واقعية ومسؤولية ووطنية . فهل مجانية التعليم بالمغرب هي العقبة أمام إنجاح تنزيل الاختيارات والمبادئ الكبرى الناظمة لإصلاح المنظومة التعليمية ؟ النقطة الرابعة :المرافق العمومية الحيوية بما فيها مرفق التعليم تعتبر صلة الوصل بين الدولة والمواطن بما توفره وتقدمه من خدمات، وبما أن نخبنا المنخرطة في تدبير الشأن العام جلها مولع بما هو فرنكوفوني ومتحمس له ،لابأس من أن نذكرها بنتائج استطلاع للرأي أجري سنة 2009 بفرنسا حول "مكونات الهوية الوطنية الفرنسية" ،حيث اعتبر أغلبية المستجوبين المرفق العمومي جزء من الهوية الوطنية وهو متولد عن مفهوم العقد الاجتماعي الذي نشا في عصور التنوير وتشكل بعد قيام الثورة الفرنسية ويتجسد في قيام الدولة ( الحكومة الجمهورية ) بتسيير والتصرف في الأملاك العامة التي يتم تمويلها عن طريق الجباية وفي المقابل تتولى تأمين مهام الأمن والعدل والدفاع،التي توسعت لتشمل المرافق العمومية الأخرى: الصحة ، التعليم. *باحث في التدبير الإداري والمالي [email protected]