رغم كل اللغط الذي صاحب تكوين حكومة بنكيران، والذي بوأت انتخاباتُ السابع من أكتوبر الماضي حزبَه المرتبة الأولى ب 125 مقعدا من أصل 395، وبوأت غريمه في السياسة، حزب الأصالة والمعاصرة، المركز الثاني ب 102 مقعدا، فإنه لا مناص من العودة إلى الهدوء والتعقل للجلوس إلى طاولة الأخلاق الديمقراطية، هذه الأخلاق التي ما تزال في مراحلها الجنينية ببلادنا، لأن الديمقراطية ليست مجرد عمليات انتخابية أو نصوصا قانونية مهما علت دستوريتها تنظم تقسيم الغنيمة السياسية بين الأحزاب، بل هي أخلاق وتواضعات وتوافقات بهدف خدمة البلاد والعباد. فمن كان ديدنه خدمة الوطن والمواطنين فإنه لا محالة سيترفع عن التهجي ألفباء الديمقراطية متبجحا بانتصاراته خارج هذه المنظومة الأخلاقية الوطنية التي تعلو على غيرها من المبارزات الشطرنجية. لذلك يجب نعي جميعا أن: إن الحزب الذي يتبوأ صدارة الانتخابات لا يمثل نفسه، ولا جزءا من المواطنين (منطق الحسابات المغرضة) فقط، بل ضمير الأمة، إذ منذ قرون والفلاسفة آباء الديمقراطية بمفهومها الحديث(لوك، سارتر، مونتيسكيو..) يقرون أن ضمير الأمة يتجسد في الأغلبية وبالأغلبية، لأن هذا الضمير أصلا غير قابل للتجزيء، وإلا سنكون أمام ديمقراطية أخرى غير الديمقراطية التمثيلية وسنكون، أمام ممارسات تسعى إلى تشتيت الأمة لا إلى تمثيلها، مما سيفتح باب جهنم على أبناء الوطن الواحد. وبالمقابل فإن ضمير الأمة الذي يمثله الحزب الأول يجب أن يتسع ليشمل كل الأمة وأبناءها، إذ يرقى، منذ انتخابه، إلى الحديث باسم كل الأمة وضميرها، ويتسع صدره لكل الاختلافات، مهما تعددت، لأنها تؤدي في نهاية المطاف إلى التوحد والتجانس في ضمير الأمة. عندما عين الملك، الممثل الأسمى للأمة (وفق الفصل 42 من الدستور)، شخص بنكيران رئيسا للحكومة، فإن هذا الشخص لم يعد ملك نفسه ولا حزبه، بل هو ملك للأمة، ويجب أن يعبر عن كل الأمة بكل تلوينلتها، وما الحكومة والإدارة والوزارات إلا وسائل يجب أن تكون في خدمة كل فئات الأمة، ذلك أن الإدارة والقطاعات الوزارية يتم تقطيعها وتدبيرها وتنميطها وفق الأولويات والحاجيات الملحة للأمة، وليست "وزيعة" بين تيارات وأحزاب وأهواء. ولنفترض أن عبد الإله بنكيران عجز، أو تم إعجازه، سيان، عن تكوين الحكومة، وهو ما لن يقع، إلا إذا انتصرت الارتجالية وعدم وضوح الطريق إلى دمقرطة المجتمع والدولة، فإن الذي سيدفع الثمن غاليا هو ال"نحن" ، كلنا، لأننا: إذا ذهبنا إلى انتخابات جديدة، لا محالة لن تأتي بجديد إن لم تعمل على تكريس الحزب الأول الحالي بقوة أكبر، علاوة على تكلفتها الاقتصادية والسياسية (تعثر الدورة الاقتصادية، تعثر الاستثمارات، تعثر التشريع..). وحتى إن جاءت بالجديد فلن يكون أكثر من تبادل نفس الأدوار بين نفس الأطراف المتصارعة، وهو ما سيكرس استمرار الأزمة الحالية. ثم هل، مع كل ذلك، سنربح رهان الدمقرطة المجتمعية، هل سنربح المستقبل الديمقراطي بآلياته المتواضع عليها دوليا وديمقراطيا. وإذا ذهبنا إلى سيناريو تكليف الحزب الموالي بتشكيل الحكومة، نقيض الحزب السابق، كما يدعو إلى ذلك بعض صغار الحس الديمقراطي، فإن لذلك تبعات كثيرة وعديدة على مسارنا التحديثي، فعلاوة على غياب السند القانوني الدستوري، فإن بعض المحللين، عن حسن نية أو سوئها، يأبون تأويل الفصل 47 من الدستور لصالح الدفع بالدمقرطة وتكريس الممارسة الديمقراطية بما هي مباديء عامة كونية تلتقي حولها الأمم. إذ المشرع حينما سكت عن هذا السيناريو لم يكن ذلك تقصيرا أو غفلا منه، بل هو سكوت مقصود، في اعتقادي، وذلك لتقوية مركز الحزب الأول لتشكيل حكومته. فلو أباح الدستور هذا الحل لتنطع كل حزب جاء ثانيا من أجل خلط الأوراق طمعا في تشكيل الحكومة ضدا على إرادة الأمة المتجسدة في الحزب الأول. وبالتالي فإن الدفع بالتأزيم السياسي ستكون مكرسة دستوريا وبقوة القانون، وهذا ما يتنزه عنه المشرع الدستوري الحكيم. وقد تحدث فقهاء الديمقراطيات الراسخة عن ذلك منذ عقود، ووصلوا إلى نفس هذا الموقف الذي يتبناه دستورنا اليوم. أما إذا تخيلنا سيناريوهات تكوين الحكومة من حزب آخر غير الحزب الأول في ظل هذه التجربة، فإن الأمر سيؤدي لا محالة إلى وضع أعقد وأعوص، وإلى أزمات سياسية يصعب الخروج منها، إذ لن تستطيع الحكومة في هذه الحالة شيئا غير تقوية اللوبيات المستفيدة من البلوكاج. إذ كيف تستقيم مواجهة معارضة فريق برلماني كبير بعدده ومنضبط لقيادته الحزبية، وأقول الحزبية ولا أقول الفريق، كيف ستتم مواجهته في المعارك البرلمانية القائمة على التصويت العددي والانضباط للحضور. وعلى المستوى الخارجي كيف سيفهم الديمقراطيون الدوليون-عدا الشركات الدولية التي تصطاد في الماء العكر للدول النامية - والذين لهم مصالح مشتركة كثيرة في دمقرطة الكيان المغربي، ذلك. كيف سيفهمون أن الدستور المغربي في واد والتنزيل في واد آخر . وأن البرلمان في واد وضمير الأمة في واد آخر. إذ الأصل في الذاكرة الديمقراطية لهؤلاء الشركاء الدوليين احترام إرادة ضمير الأمة التي تكرسها الأغلبية، مع احترام الأقلية في المنافسة على تمثيل ضمير الأمة هذا، وليس توزيعه. وإنا لنا في التجربة الإيطالية على عقود السبعينات إلى التسعينات دروس وأكثر من دليل. إن من شان عدم الانضباط للحس الديمقراطي ولأخلاقيات الديمقراطية أن يحكم علينا بنفس تجربة إيطاليا السبعينات والثمانينات والتسعينات لما كانت مسرحا للمافيات واللوبيات وعدم الاستقرار السياسي وصل حد التسرب إلى الأحزاب والمؤسسات وهو ما كلف الدولة غاليا اقتصاديا ودوليا مع كل ما تتمتع به إيطاليا من مؤهلات. خلاصة هذه العجالة اذن هي أن الوعي الحقيقي بدقة المرحلة، مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، ينطلق من الإيمان بأهمية الأخلاق الديمقراطية في بناء الدولة، وأن الدولة لا تبنى بالقانون والانتخابات وحدهما، وإن شكلا جزءا مهما من الديمقراطية، بل بالإرادة القوية لتجاوز المصالح الفئوية القريبة والحزبية والأغلبية الشعبوية التبسيطية للعمل السياسي والعمل الحزبي الهادف بما هو آلية مهمة وأساسية في تأطير المواطنين ليكونوا قادرين على التعبير عن ضمير الأمة جمعاء.