نقلت مذكرة التحكيم التي قدمتها أحزاب المعارضة إلى الديوان الملكي، الأسبوع ما قبل الماضي، الصراع السياسي الدائر بينها وبين عبد الإله بنكيران، زعيم الأغلبية الحكومية، إلى جبهة سياسية جديدة جعلت ملك البلاد في قلب معركة الفصل بين رئيس «حكومة جلالته ومعارضة جلالته». « أمام وضع تنتهك فيه مقومات الدولة الديمقراطية، بفعل التصريحات والإيحاءات الصادرة عن السيد رئيس الحكومة، خاصة مع اقتراب موعد الاستحقاقات، وحتى لا نضطر إلى المواجهة العلنية التي لن تفيد إلا خصوم بلادنا، كما أنها ستبخس العمل السياسي، وتضرب في الصميم نبله، بالشكل الذي سيؤثر سلبا على الاختيار الديمقراطي للمملكة المغربية، لا يسعنا إلا أن نتوجه إلى جنابك الشريف، ملتمسين تحكيمكم باعتبار سدتكم العالية بالله الحكم الأسمى بين مؤسسات الدولة»، بهذه العبارات اختار قادة أحزاب المعارضة الأربعة (الاستقلال، الأصالة والمعاصرة، الاتحاد الاشتراكي، الاتحاد الدستوري) فتح جبهة جديدة في صراعهم مع بنكيران، سلاحها هذه المرة الفصل 42 من دستور المملكة الجديد. ولئن كان طلب المعارضة يجسد استمرارية تقدير الدلالة الرمزية لوظيفة التحكيم الملكي في المخيال السياسي الحزبي المغربي، إلا أن أسئلة مشروعة تطرح بهذا الصدد من قبيل: هل حالة الصراع السياسي بين المعارضة ورئيس الحكومة تستوفي الشروط الواردة في الوثيقة الدستورية بشأن تحكيم ملكي بمقتضى الفصل 42؟ وهل يرقى التدافع السياسي بين الطرفين إلى درجة الخطورة الدستورية التي تهدد الاختيار الديمقراطي وسير المؤسسات الدستورية أم أن محركه بواعث أخرى؟ الثابت أن دستور الربيع العربي رسم وظيفة التحكيم الملكي، كممارسة سياسية وقاعدة دستورية تعين على حل الخلافات السياسية والمجتمعية الشائكة، وذلك بالتنصيص عليها في الوثيقة الدستورية، وتحديد شروطها وحصر حالاتها حتى لا تستغل لغير ما وضعت من أجله وتحقيق مآرب سياسية أو مصلحية. فواضعو الدستور ما بعد الحراك المغربي حرصوا على ترسيم وظيفة التحكيم بالإشارة في الفصل 42 «الملك رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة». ومهما يكن النقاش الحاصل الآن والموقف المعبر عنه من قبل كل فريق، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، وأننا أمام استعمال غير موفق كذلك هذه المرة للفصل 42، بعد أن حاولت قيادة حزب الاستقلال إشهار سيف ذلك الفصل في وجه التجربة الحكومية التي يقودها زعيم إسلاميي المؤسسات، إثر قرار المجلس الوطني لحزب الاستقلال الانسحاب من الحكومة. وإذا كانت سابقة اللجوء إلى الفصل 42 من الدستور من قبل الاستقلاليين قد فشلت في تحقيق مرامه بالنظر إلى عدم استيفاء الشروط الدستورية للتحكيم الملكي في خلاف بين حزبين ( الاستقلال والعدالة والتنمية) لا بين مؤسسات دستورية، فإن عبد الرحيم منار السليمي، أستاذ العلوم السياسية، يرى أن المعركة السياسية التي تخوضها حاليا أحزاب المعارضة ضد رئيس الحكومة جعلتها تفقد « عقلها الدستوري «، وباتت تعاني من سوء تقدير دستوري كبير، وذلك لما ارتكبت خطأ جديدا بطلب تحكيم ملكي حول موضوع لا تتوفر فيه شروط التحكيم. ويبدو واضحا، حسب السليمي، أن المعارضة باتت تخلط بين «التظلم « و»الاستعطاف « و»طلب التحكيم «، فالقراءة التحليلية لمضمون المذكرة التي قدمت للديوان الملكي تبين أنها عبارة عن مزيج من التظلم والاستعطاف البعيد عن الشروط المطلوب استيفاؤها لبناء حجج مذكرة التحكيم. وفي معرض تشريحه الدستوري لمذكرة المعارضة، يؤكد أستاذ العلوم السياسية أن طلب التحكيم الوارد فيها مشوب بعيوب جوهرية كثيرة، أولها أن المعارضة تتدخل في مجال علاقة بين مؤسستين دستوريتين هما: الملكية ورئاسة الحكومة وذلك حينما تشير في مذكرتها إلى تصريحات بنكيران حول دور الملك في ضمان استمرار الحكومة الحالية، فالمعارضة هنا أعطت لنفسها حق التدخل في علاقة منظمة بمقتضى الدستور يملك رئيس الدولة وحده الحق الدستوري والسياسي في تقييمها. أما العيب الجوهري الثاني فيتمثل في كون مذكرة المعارضة تخلط بين مجالين مختلفين من حيث الدرجة الدستورية: قضايا الدولة والعلاقة بين المؤسسات الدستورية للدولة ( رئيس الدولة ورئيس الحكومة ) ومجال الانتخابات والصراع بين المعارضة والحزب الحاكم، فالأمر يتعلق بمجالين متباعدين يختلطان في ذهن المعارضة. ويتمثل العيب الثالث، حسب السليمي، في اعتقاد أحزاب المعارضة أنها مؤسسات دستورية، فالمعارضة لازالت لم تفهم لحد الآن أن الحزب السياسي هو تنظيم سياسي وليس مؤسسة دستورية، لذلك فشروط التحكيم غير متوفرة لغياب أزمة أو خلل في العلاقة بين المؤسسات الدستورية، فالملك لا يمكنه التحكيم بين الأحزاب في صراعاتها السياسية أو الشخصية. وإلى جانب العيوب الثلاثة، يشير السليمي إلى عيب جوهري في المذكرة يكمن في خلط المعارضة بين الصراع حول موضوع تهريب الحملة الانتخابية والصراع بين المؤسسات الدستورية، مشيرا إلى أن أخطر ما في المذكرة هو محاولة إدخال الملك في صراع حزبي انتخابي، فحزب الاستقلال طلب من الملك التحكيم بين مكونات الأغلبية في حكومة بنكيران الأولى، وتحاول الآن المعارضة إدخال الملك في صراع حزبي انتخابي، الشيء الذي يعني أن الأحزاب لازالت تفكر في المغرب بدستور 1992، لذلك فالتوصيف الصحيح الذي يجب أن تشتغل عليه المعارضة وتجد له أساسا قانونيا هو أن رئيس الحكومة وبعض الوزراء يقودون ما يشبه حملة انتخابية سابقة لأوانها، فالوضع الحالي يشير إلى أن الحملة الانتخابية يتم «تهريبها» بستة أو سبعة شهور قبل انطلاق الأجل القانوني للحملة، والصراع حول هذا الموضوع يحتاج إلى حله في مدونة الانتخابات. الأكيد أن الخلاف بين المعارضة ورئيس الحكومة لم يصل إلى درجة تستدعي تدخل الملك لممارسة صلاحياته طبقا للفصل 42 من دستور 2011، بيد أن خطوة أحزاب المعارضة الأربعة تضع قيادتها أمام أسئلة حارقة من قبيل: هل غامرت تلك القيادات بطلب التحكيم الملكي وإقحام المؤسسة الملكية في صراع سياسي يبدو أن محركه الرئيس انتخابي؟ وهل تستطيع أن تدبر مرحلة ما بعد الاستنجاد بالقصر دون خسائر سياسية؟ بلقاضي: توظيف المؤسسة الملكية ممنوع دستوريا ويضرب مبدأ تكافؤ الفرص قال إن التواصل بين المعارضة ورئيس الحكومة في درجة الصفر المهدي السجاري لم يكن المتتبعون للشأن السياسي المغربي يتوقعون لجوء المعارضة إلى المؤسسة الملكية للفصل في الصراع السياسي بينها وبين رئيس الحكومة، الذي اتهم بإقحام الرموز والمقدسات بشكل سيؤدي إلى انتهاك مبدأ المساواة، وفق ما جاء في المذكرة. مضمون هذه الوثيقة ارتبط ارتباطا وثيقا بالانتخابات التي سيعرفها المغرب، حيث اعتبرت أن رئيس الحكومة المغربية يعمل على إيصال معلومات خاطئة للشعب المغربي مفادها أن الحزب الذي يترأسه يظل الحزب المميز لدى المؤسسة الملكية، وأنه الحزب الوحيد الذي يهدف إلى الإصلاح وحسن التدبير، وأن باقي الأحزاب، خاصة غير المشاركة في الحكومة، تعمل على عرقلة عملها وتحاول إسقاطها بطرق غير مشروعة. ويرى ميلود بلقاضي، أستاذ العلوم السياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال في الرباط، أن تقديم الملتمس جاء في عز مطالبة أحزاب المعارضة بتفعيل مقتضيات الدستور، وانطلاق مناقشة مشاريع القوانين التنظيمية المؤطرة للانتخابات المقبلة، وكذا تزامنه مع إصدار عدة تقارير واستطلاعات للرأي تؤكد تفوق بنكيران في مواجهاته على ممثلي أحزاب المعارضة، خصوصا في الجلسات الشهرية واحتلاله المراتب الأولى في هذه الاستطلاعات. كما يأتي هذا الملتمس، وفق التحليل ذاته، «في سياق يتميز بوصول التواصل بين أحزاب المعارضة ورئيس الحكومة إلى درجة الصفر، وأيضا شخصنة التطاحن بين بنكيران وشباط والعماري ولشكر، وتراجع أحزاب المعارضة عن عدد من قراراتها، كمطالبتها بمقاطعة الانتخابات والتراجع عنها، ومطالبتها بتشكيل هيئة مستقلة للسهر على الانتخابات والتراجع عنها بعد الحسم الملكي في الأمر، والعودة إلى مناقشة مشاريع القوانين بعد الانسحاب بمجلس النواب. واعتبر بلقاضي أن الأمر يتعلق ب»شكاية إلى ملك البلاد أكثر منها ملتمسا»، وتساءل عن عدم لجوء المعارضة إلى مواجهة بنكيران بتقديم ملتمس رقابة لإسقاط حكومته». وأضاف أن «ملتمس أحزاب المعارضة فيه عدة رسائل، منها طلب جلالة الملك ممارسة واجباته كرئيس للدولة، وممثلها الأسمى، ورمز دوامها واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، والساهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والجماعات لمنع رئيس الحكومة من استغلال أو توظيف المؤسسة الملكية في هذا الوقت الانتخابي لأن ذلك ممنوع دستوريا، ويضرب مبدأ تكافؤ الفرص بين الفرقاء، ويهدد الخيار الديمقراطي». أما بالنسبة إلى رئيس الحكومة، يضيف الخبير السياسي، «فرسالة الملتمس واضحة، وهي أنها لن تسمح له كرئيس حكومة باستغلال موقعه وقربه من الملك لتصفية حساباته مع أحزاب المعارضة، وبأنها مستعدة للذهاب بعيدا إذا ما استمر رئيس الحكومة بخرق مقتضيات الدستور ومبادئ الخيار الديمقراطي واستغلال النفوذ». وذهب بلقاضي إلى أن هذه المعطيات مؤشر آخر على أن الانتخابات المقبلة ستكون محطة صعبة للدولة وللأحزاب السياسية، وأن هذه المرحلة قابلة لكل الاحتمالات في ظل التطاحن بين المعارضة والأغلبية وتصفية الحسابات بينهما على حساب القيام بمهامهما الدستورية وإعادة النبل إلى العمل السياسي. أحزرير: استنجاد المعارضة بالملك سلوك «مجاني ومتسرع» قال إن كل الأحزاب تتنافس على العيش في جلباب الملك حليمة بوتمارت اعتبر عبد المالك أحزرير، أستاذ العلوم السياسية بجامعة المولى إسماعيل بمكناس، أن طلب التحكيم حول تصريحات رجل سياسة «محاولة للإستقواء بالمؤسسة الملكية، و«عراك هامشي لا ينم عن نضج الفاعلين»، مشيرا إلى أن الخطوة التي أقدمت عليها المعارضة تعبر عن تخوفها من بقاء بنكيران على رأس الحكومة، ومن تصدر العدالة والتنمية الاستحقاقات. – كيف يمكن فهم استنجاد المعارضة بالملك من خلال المذكرة التي رفعتها مؤخرا إلى الديوان الملكي؟ أود في البداية أن أرجع بك إلى ذاكرة التاريخ السياسي المغربي خاصة مرحلة بعد الاستقلال، فبعد أن وضع المغرب أول دستور للمملكة كانت النخبة السياسية على استعداد لتنزيله والاحتكام إلى مقتضياته وقواعده. ورحم الله صاحب –النقد الذاتي – الفقيه والسياسي علال الفاسي، ورحم الله الأستاذ مولاي عبد الله إبراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد، والدكتور عبد الكريم الخطيب وعلي يعتة وبلحسن لوزاني وغيرهم ممن قضوا نحبهم وتركوا أحزابهم لنخبة بائسة في زمان الرداءة. أتذكر ونحن في الستينيات من القرن الماضي كيف كان التآلف بين القيادات الحزبية، حيث تجمعهم الوطنية والمصاهرة كما جاء في أعمال «جون واتربوري»، حيث تجتمع كل التنظيمات الحزبية بمناسبة عرس أو عقيقة لأن قاسمهم المشترك « تمغرابيت «، ولكن يختلفون وينطلق الصراع فيما بينهم وهم يناقشون القوانين أو السياسات. فكان كل حزب ينطلق من قناعته الإيديولوجية وأرضيته المذهبية والبرنامجية، فتصنع السياسات وتتم الفرجة السياسية عبر خطاب سياسي رفيع، تنقله الصحافة ليصفق القراء والمناضلون، فيزدادوا شغفا بالسياسة رغم مخاطرها. فعلى سبيل المثال أذكر تلك – الفرجة – السياسية التي عبرت عن نضج رجل السياسة آنذاك، بعد أن قدمت المعارضة من خلال التجربة البرلمانية الأولى (حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية) مقترح قانون طرحت فيه تحديد الملكية، فانطلق كل حزب من قناعته المذهبية، فالخطيب وأحرضان وأحمد رضا كديرة عبروا عن قناعتهم انطلاقا من اختياراتهم الليبرالية لمعارضة المشروع، بينما المعارضة على أسس التعادلية أو الاشتراكية دافعت بشدة على هذا المقترح لتحقيق عدالة اجتماعية انطلاقا من الإصلاح الزراعي، والأرض لمن يحرثها. واشتد الخلاف السياسي، ولم تطلب المعارضة التحكيم الملكي وفقا للمادة 40 من دستور 1962 إلا بعدما طلبت هذه الأخيرة التحكيم للبت في مدى دستورية الدورة الاستثنائية. لقد كان زمان السياسة العليا، أما اليوم فعوض أن تناقش الحكومة والمعارضة مختلف المشاكل للتخفيف من الانتظارات التي وصفت بأنها قاتلة (تعليم في غرفة الإنعاش، ومخطط أخضر لم يصل إلى أهدافه، وجامعة ومستشفيات تحتاج إلى تدابير استعجالية…)، أصبحنا نعيش على أطلال السياسة. لقد قرأت النص الكامل للمذكرة التي وقعتها أحزاب المعارضة وبعد دراسة مضامينها تبين لي أن هذا الاستنجاد مجاني. أعتقد أنه سلوك متسرع يذكرنا بالتحكيم الذي سبق لشباط أن طلبه قبل أو بعد خروجه من الحكومة. لقد تبين لي أن الفعل السياسي والعمل الحزبي ارتهن بالإرادة الملكية، وأن طلب تحكيم ملك البلاد تم في غير موضعه، بل هذا السلوك سيوقف تنزيل الدستور الجديد، وهذا سيشكل أكبر خيبة أمل في نخبنا السياسية. – هل يجد لجوء المعارضة إلى طلب التحكيم الملكي أساسا دستوريا؟ يعتبر طلب اللجوء إلى التحكيم الملكي عملا سياسيا مشروعا، وضع له الدستور في فصله الثاني والأربعين ضوابط دقيقة وانحصر في: مخالفة أو تجاوز المؤسسات الدستورية، مخالفة الاختيار الديمقراطي موضوع الإجماع بين مختلف المكونات السياسة والمجتمعية، المس أو الإخلال بالتعهدات الدولية، وتعثر السير العادي للمؤسسات الدستورية أو الإخلال بمساطر الأداء الحكومي أو البرلماني. كما أن المؤسسة الملكية غير ملزمة دستوريا بالجواب، وحتى لو افترضنا فلا بد أن يتم بمقتضى ظهير شريف يوقعه رئيس الحكومة. وهذا السيناريو غير واقعي ومستبعد لأنه سيجعل من هذا الأخير خصما وحكما في نفس الوقت. وأرى كذلك أن هذا التحكيم سيكرس عرفا سيشكل باعتباره مصدرا من مصادر القانون عيبا من عيوب الممارسة الديمقراطية. – هل إقحام المؤسسة الملكية في الصراعات السياسية سيضر بالمؤسسات في عمقها، خاصة في ظل الظرفية السياسية الحالية المتسمة بالتحضير للاستحقاقات الانتخابية؟ إقحام المؤسسة الملكية كما قلت ليس في محله، فهذا شأن داخلي سياسي محض يهم الفرقاء الحزبيين. والخلاف الذي أعتبره سياسويا لا يستند بتاتا إلى منطوق الفصل 42 من الدستور. ففي الكلمة التي ألقاها بنكيران في إقليمالرشيدية والتي قال فيها إن حكومته كادت أن تسقط لولا حرص جلالته على استمرارها، يمكن القول أولا بأن الملك هو بالفعل الضامن الأساسي في استمرار الفريق الحكومي، لأنها حكومة صاحب الجلالة. ويمكن كذلك أن نعتبر المعارضة، معارضة جلالة الملك. وثانيا : هذه التصريحات صدرت عن إنسان ليس ملكا، وكما تعلمين أنه في عالم الأولياء والعارفين بالله، رغم حكمتهم فهم يلجؤون إلى بعض الشطحات، أي خروج الولي عن المعتاد وعن الحكمة فما بالك برجل السياسة. وثالثا: التشكي من تصريحات رئيس الحكومة هي عملية تسخين يقوم بها كل الأطراف قبل بدء عملية الانتخابات المحلية، وهذا شيء طبيعي حيث لا ننسى أن رئيس الحكومة هو أمين عام الحزب. لقد وصلنا إلى الإدراك السلبي للسياسة، كما وصلنا إلى استعمال الكلمات القدحية والساقطة كوصف بنكيران بزعيم» القتالة « أو نعت العماري «بالصعلوك» و«الباندي». إن كل الأحزاب من اليمين إلى اليسار تتنافس في العيش في جلباب الملك مساهمين في تحويل النظام السياسي إلى نظام «بترمونياني»، يقوم على الوفاء عوض أن يعمل الجميع لينتج ويناضل من أجل غد أفضل. فبعد تعيين حكومة بنكيران الأولى قال لهم الملك: «إلى العمل»، وهذه الكلمة لها دلالات. كان على هذه الأحزاب أن تفتح ورشا فكريا حول أزمة التمثيلية، وأزمة الإنتاج التشريعي مثلا، وهل الديمقراطية التشاركية تعتبر حلا بديلا وواقعيا بالمغرب؟ لكن هذه القوى السياسية تدور حول «الستاتيكو» وتعمل على استمراره، وهذه هي قمة الخمول والتواكل، في حين أن السياسة تحتاج إلى الابتكار والخيال الواسع. ونص الرسالة الموجهة إلى الملك من طرف المعارضة يسير في نفس خطاب بنكيران، لأن طلب التحكيم حول تصريحات رجل السياسة هو في الحقيقة محاولة للإستقواء بالمؤسسة الملكية، كما يقول الخصوم أي يطلب حماية المعارضة. هذا عراك هامشي لا ينم عن نضج الفاعلين. ولا شك أن شطحات بنكيران وخرجات العماري مثلا امتداد لتبادل الاتهامات والتشابك بالأيدي بين اللبار وشباط مباشرة بعد خطاب الملك لافتتاح الدورة الخريفية للبرلمان. أقول إن هناك حالة من العجز يعيشها الجميع. – هناك أصوات اعتبرت إقحام رئيس الحكومة للملك في التدافع بين السلطة التنفيذية والمعارضة بمثابة «انزلاق»، كيف تفسر ذلك؟ كانت المذكرات تعتبر وحدة قياس لنضج الطبقة السياسة، فعلينا أن نتذكر المذكرات حول المسار الديمقراطي والدستوري الموجهة إلى الحسن الثاني من طرف أحزاب الكتلة، وكيف كان يتم الحوار والتفاوض مع إدريس السلاوي مستشار الملك آنذاك. فالقادة الحزبيون كانوا يعبرون بكل حرية عن آرائهم السياسة في كل شيء. فكانت المذكرات فرصة للقاء مفتوح على السجال والرأي، لأن القصر في حاجة ماسة إلى معرفة ما تفكر فيه نخبنا الحزبية، وهذه النخب تعتبر هذه المذكرات (بارومتر) لقياس ردود الأفعال ليس فقط المناضلين بل مختلف مكونات الرأي العام . ولهذا تعمد هذه النخبة للتواصل عبر جرائدها – المحرر – التحرير – العلم – المكافح الوطني …إلخ – مع مختلف الشرائح لشرح ملابسات اللقاء. إنها تريد أن تصالح المغاربة مع السياسة. ولكن اليوم سيكون لهذا الصراع تأثير سلبي على إرثنا السياسي، وسيزيد من نفور الشباب من السياسة. ولا شك أن عدم اللجوء إلى المقاطعات والجماعات للتسجيل في اللوائح الانتخابية خير دليل على تدني مستوى أداء الأحزاب. – كيف ستنتهي حرب «المذكرات» وإقحام الملك في الصراع السياسي؟ وهل يمكن أن يكون لذلك تأثير سلبي على المشهد السياسي؟ كأكاديمي متتبع للشأن السياسي ببلادنا، أرى أن مخاوف المعارضة تبقى مشروعة، وأنها تعبر عن تخوف المعارضة من بقاء بنكيران على رأس الحكومة، ومن تصدر العدالة والتنمية القائمة الأولى. لقد كان على أحزاب المعارضة أن تتنافس في تأطير المواطن وإدماجه حتى لا يكون عرضة للتهميش، ونحن نعرف جيدا الآثار السلبية لهذه الظاهرة، فهي تجعل المرء يتحالف مع الشيطان. على المعارضة أن تنافس الحكومة في صياغة السياسات وترجمة أجنداتها إلى قرارات من خلال وجودها في المؤسسة البرلمانية عوض الانسحاب من اللجان. كنت أنتظر من المعارضة أن ترفع مذكرة إلى الملك حول التباطؤ في تنزيل الدستور، أو حول منهجية جديدة ابتكرتها لإيجاد حل لقضيتنا الوطنية أو مساءلتها حول كيفية توزيع نسبة النمو التي ستصل هذه السنة، حسب الخبراء، إلى 5%… ، فهذه المشاركة الإيجابية هي التي ستمكن أحزاب المعارضة من تجاوز مشاكلها الداخلية، مواجهة الحكومة بمختلف مكوناتها وليس فقط حزب بنكيران هو الذي سيضفي عليها نوعا من المصداقية في كل مبادراتها. فهذه المواجهة لن تفيد أحدا، بل ستبخس العمل السياسي برمته. أتساءل لماذا استثني العنصر ومزوار وحتى بنعبد الله من هذه الموجة من الانتقادات وكأن حزب بنكيران حصل على الأغلبية المطلقة وشكل حكومته لوحده بدون تحالفات. إنه زمن شخصنة الصراع ومبارزة الخصوم، إنه نوع من اختلاس الواقع وتعطيل انتباه الشارع ومداراته عن المشاكل الحقيقية. وهذا ما أكدته حديثا السوسيولوجية السياسية الألمانية والفرنسية. التحكيم الملكي.. المعارضة تلعب آخر أوراقها لحصد نتائج غير مضمونة مصطفى الحجري بعد استنفادها عدة مراحل في إطار شد الحبل مع الحكومة وبالتحديد رئيسها عبد الإله بنكيران، لعبت المعارضة ورقة التحكيم الملكي، في خيار يبدو أن حجم الرهان عليه غير واضح، كما أن طبيعة المكاسب والجهة التي ستستفيد منها لن تبقى محصورة في فلك المعارضة لوحدها. علامات استفهام كثيرة رافقت الإعلان عن اللقاء، الذي جمع قادة أربعة أحزاب من المعارضة مع مستشاري الملك، قبل أن يتم الكشف عن مضمون المذكرة، بشكل جعل عددا من المتتبعين يؤكدون بأنها تسيء إلى جميع الفاعلين في الحق السياسي، سواء كانوا في المعارضة أو الأغلبية، وأن الرهان الحقيقي الذي كان من المفترض السعي إليه هو بناء معارضة قوية وحكومة منسجمة. في هذا السياق قال إدريس لكريني، أستاذ العلوم السياسية، إن الأحزاب السياسية في المعسكرين فضحت نفسها، وأكدت أنها «عاجزة عن تدبير خلافاتها، وبالتالي مواجهة التحديات الحقيقية المتمثلة في معالجة الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية وتنزيل مقتضيات الدستور». ويبدو واضحا أن الواقفين وراء المذكرة استشعروا الحرج السياسي، الذي يمكن أن تتسبب فيه، وهو ما يفسر الاجتهاد في محاولة الدفاع عن هذه الخطوة، من خلال التأكيد على أن هذا القرار جاء من موقف قوة وليس من باب التشكي والضعف، لدحض ما ورد في تحليلات عدد من المتتبعين، إضافة إلى ردود الفعل المتهكمة التي صدرت عن الأغلبية. وقلص لكريني من حجم المكاسب التي يمكن أن تجنيها المعارضة من محاولة إقحام المؤسسة الملكية في الصراع السياسي، الذي تبين أن هاجسه الأساسي انتخابي، وقال إن المؤسسة الملكية اتضح بأنها في كثير من الأحيان فضلت النأي بنفسها عن الصراعات، وهو ما اتضح خلال الإشكال الذي أعقب النسخة الأولى من حكومة بنكيران، مضيفا بأن خطوة المعارضة تكشف وجود أخطاء تورطت فيها هذه المعارضة إلى جانب الأغلبية. وأشار لكريني إلى أن «الطرفين معا لم يكونا في المستوى» بغض النظر عن المكسب من وراء المذكرة، الذي يمكن أن يعود إلى المعارضة كما يمكن أن يؤول إلى الأغلبية. وقال المتحدث ذاته إن الطرفين معا لم يكونا بالنضج الذي يتيح لهما استغلال ما أتاحه الدستور، بغض النظر عن المكاسب التي يمكن جنيها من وراء التحكيم، في ظل سعي المعارضة إلى إفراغ الحكومة من أي مكتسب وإظهار حصيلتها وكأنها فارغة، ورد فعل الحكومة المتمثل في إشهار ملفات الفساد والتلويح بها، لقطع الطريق على أي انتقاد يطال تدبير الشأن العام مع تغييب المنطق التشاركي. «المذكرات الموجهة للملك».. من التأسيس لمشروع مجتمعي إلى صراع انتخابي م. الحجري – م. السجاري أعاد إقدام المعارضة على رفع مذكرة للملك إلى الأذهان المذكرات التي سبق أن رفعتها أحزاب الكتلة للقصر في تسعينيات القرن الماضي، بشكل جعل المقارنة ضرورية وموضوعية سواء بالنظر إلى السياقات أو المضمون أو الأطراف التي تبنت المذكرة الأخيرة. عدد من المتتبعين يرون أن المذكرة الحالية طغت فيها أنانية القيادات التي تتحكم في عدد من الأحزاب التي وقعت عليها، وهو ما يتكشف من خلال الارتجال والتخبط الواضح في صياغتها، ما جعلها عبارة عن اجترار وإعادة لكلمات وجمل تدور حول هدف حصري، عكس المذكرات السابقة التي كانت جريئة ورفعت تحدي الإصلاح السياسي والتأسيس لمشروع مجتمعي جديد. في هذا السياق، يؤكد إدريس لكريني، أستاذ العلوم السياسية، أن أهمية المذكرات «مرتبطة بشكل أساسي بطبيعة المرحلة التي طرحت فيها، وثقلها من حيث الانشغال بقضايا كبرى»، وهو ما يفسر الأهمية الكبيرة التي كانت لمذكرة المطالبة بالإصلاحات الدستورية والسياسية التي وقعها سنة 1992 كل من عبد الرحمان اليوسفي عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وعبد الله إبراهيم عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وعلي يعتة عن التقدم والاشتراكية ومحمد بنسعيد عن منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، ومحمد بوستة عن حزب الاستقلال. طبيعة الأسماء التي كانت تتزعم هذه الأحزاب يعكس إلى حد كبير الاهتمام والضجة التي خلقتها هذه المذكرة عكس المذكرة الحالية التي صدرت عن أسماء صعد بعضها إلى القيادة بصراعات وتجاذبات أفضت إلى انشقاقات ومشاكل داخلية في أحزابها، وبالتالي فسياق الإقدام على طلب التحكيم الملكي من خلال المذكرة مرتبط، حسب لكريني، بنقاش داخلي بين فاعلين سياسيين كان من المفترض أن يسوى بين هذه الأطراف دون اللجوء إلى المؤسسة الملكية. لكريني قال إن مضمون المذكرة يكشف أننا أمام «معارضات عدة، وليس معارضة واحدة» ، بحكم أن بعض القيادات لا تحبذ الانضمام للبام ،ما يوضح حجم الشتات في المعارضة، في حين أن المذكرات السابقة كانت لها مصداقية، وأهمية مرتبطة بثقل الكتلة التي كانت مشكلة من أحزاب قوية لها مواقف واضحة وحضور وقاعدة». وأضاف لكريني أن الاهتمام بهذه المذكرة بقي ضعيفا مقارنة بما لقيته مذكرتا 1992 و1996 اللتين حظيتا بجرأة وإقناع واهتمام مجتمعي، وهو أمر لا نراه حاليا ما يكشف عمق الأزمة التي يعيشها المشهد الحزبي بكل مكوناته سواء في الأغلبية أو المعارضة». من جهته، يصف عباس بوغالم، أستاذ العلوم السياسية بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، خطوة المعارضة ب»البدعة» في الممارسة الحزبية والسياسية. وأكد أن «المذكرة في تاريخ الممارسة السياسية المغربية ارتبطت بقضايا كبرى تمس مسائل جوهرية في البناء الديمقراطي، منها مطالب الإصلاح السياسي والدستوري، حيث تشكل هذه المذكرات اليوم مرجعا». وانطلاقا من هذا التصور، يوضح الخبير السياسي، فالأمر لا يتعلق بمذكرة على منوال المذكرات المعروفة في التاريخ السياسي المغربي، والتي ترتبط بمواقف ذات حمولة فكرية ومرجعية وإيديولوجية، بل إن مذكرة المعارضة التي تقدمت بها قبل أيام عبارة عن «وشاية» لا ترقى إلى مفهوم المذكرة كما هو متداول في الحياة السياسية المغربية. واعتبر بوغالم أن «الصراع الحزبي والسياسي الذي يعرفه المغرب اليوم لا يستحق توجيه هذه المذكرة، لأننا أمام وثيقة دستورية حققت خطوات في إطار مأسسة الممارسة السياسية، وبالتالي فالبناء الديمقراطي كان يقتضي الاشتغال من داخل الإطار المرجعي الذي تشكله نصوص قانونية ودستورية تؤطر الممارسة السياسية». وسجل أن بعض الفاعلين الحزبيين لازالوا مرتهنين إلى وضع ما قبل دستور 2011، على اعتبار أن الفاعل الحزبي لا يمتلك استقلالية قراره السياسي». وأضاف: «الدستور الجديد حقق انفتاحا سياسيا فتح الباب أمام التنافس السياسي وفق ما هو متعارف عليه في الممارسة الديمقراطية، حيث تتم هذه المنافسة وفق الأطر المرجعية المنظمة للممارسة السياسية». وسجل المتحدث ذاته أن «الفاعل الحزبي لديه مشكل على مستوى ثقافته السياسية، إذ أن البعض مازال يحمل ثقافة تقليدانية، مما يشكل خطرا على الاختيار الديمقراطي على اعتبار أننا إزاء فاعلين حزبيين ليست لديهم ثقافة سياسية ديمقراطية»، وفق تعبيره. وفي المقابل، يرى بوغالم أنه «في إطار المنافسة السياسية يكون هناك صراع، وهو أمر محمود يتم في مجالات معروفة من مهرجانات خطابية ووسائل إعلام وبرامج حوارية وغيرها، لكن الغريب هو أنه في السابق كانت أحزاب المعارضة هي التي تناضل من أجل البناء الديمقراطي، قبل أن تنعكس الآية اليوم». واعتبر أن «ما يحز في النفس هو حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان دائما في مقدمة الأحزاب المدافعة عن الممارسة الديمقراطية الحقة من خلال اللجوء إلى قواعده وجماهيره، قبل أن يصبح اليوم يستنجد بالمؤسسة الملكية التي يفترض أن تمارس التحكيم». وأشار إلى أن الديمقراطية هي التي يفترض أن تكون حكما في الصراع داخل الممارسة السياسية، من خلال صناديق الاقتراع، لكن مبادرة أحزاب المعارضة تجعلها وكأنها أصبحت عاجزة عن الدخول في منافسة سياسية حقيقية مع باقي الأحزاب. مذكرة أحزاب المعارضة طرحت قضية استغلال الرموز والمقدسات، من خلال التصريحات الأخيرة للأمين العام لحزب العدالة والتنمية في المهرجان الخطابي المنظم بمدينة الرشيدية، حيث اعتبرت أن هذه التصريحات التي يقحم فيها بنكيران المؤسسة الملكية «لن يترتب عنها سوى انتهاك مبدأ المساواة بين مختلف الأحزاب السياسية خاصة مع اقتراب الانتخابات».