نخندقهم في خانات ليست بخاناتهم، ونموضعهم بمواضع ليست بمواضعهم، ونحكم عليهم بأحكام لا تتلاءم وحقيقتهم، ونصبغهم بصبغات لا تتلاءم وألوانهم الحقيقية… ونحكم عليهم انطلاقا من المظهر دون الاقتراب منهم، ودونما البحث في جوهرهم… فكم من حقيقة ضائعة وراء أدوار تمثيلية وصفات وهمية، وكم من صفات ونعوت أطلقناها عليهم مجانيا دونما تمحيص أو تفحص… وكم من سهام صدئة، أطلقناها عليهم وكم من أدى ألحق بهم دونما تفكير أو تروي… !!! ذاك هو حال بطل روايتنا، الذي يحكمون عليه دائما في عقلهم الباطن بالسجن ويربطون اسمه بالزنزانة، ويضعون يديه بين الأصفاد وينعتونه بأسماء ضاربة في الاجرام والجريمة . فما كدنا نصل إلى باب مطار الحسيمة مع المدير الفني لمهرجان النكور للمسرح ورئيس “جمعية تفسوين” الذين عملا على إيصالنا بعد انتهاء فعاليات المهرجان، حتى بدأت سهام النظرات الخارقة والمتفحصة تتجه حولنا والابتسامات العريضة تستقبلنا، من موظفين بالمطار وأناس ينتظرون دورهم لاتخاذ اجراءات السفر، سواء داخل المغرب أو خارجه، حتى اقتربت مني سيدة، عرفت أنها مهاجرة مغربية بالديار الهولندية، “اختي سمحي لي واش هذا اللي في مداولة؟” ماكدت أجيبها حتى أخبرت باقي عائلتها فاتجهوا للسلام والتقاط صور معه، هم وغيرهم من المنتظرين والعاملين بالمطار ومقهى المطار. وصلت الطائرة التي ستقلنا نحو مدينة تطوان ثم الدارالبيضاء، الشيء الذي لم يستسغه بطل روايتنا، الذي ينعته الجمهور بأعتى مجرمي الشاشة، والذي ترهبه بعض النظرات وتخافه بعض الشخصيات حقيقة وعلى أرض الواقع أيضا… فهو لا يحب عمليتي النزول والصعود بالطائرة، رغم كثرة تجواله وسفره، ويفضل ان تكون عملية واحدة فقط، بدل مرتين أو أكثر. ونحن في الطريق، لصعود درج الطائرة استعدادا للانطلاق، كانت التحايا والابتسامات العريضة وتبادل كلمات الاعجاب ك "تبارك الله عليكم، الله يخليكم" وغيرها من كلمات الإطراء… هل يعجبك الركوب قرب النافذة؟ نعم بالتأكيد شكرا، فتح لي المجال لكي أمر وأخذ محفظة حاسوبي مع حقيبته وعلقهما بدرج الأغراض بالطائرة، ثم جلس مكانه بكل هدوء وأدب، وأنا أشكره على مساعدتي، بدأ أحد الشباب يأخذ معه من مكانه “سلفي ” للذكرى. والطائرة تقلع بدأ يكبر، محاولا تفادي التفكير في هذه العملية، التي يكرهها عند كل رحلة له، لما تخلقه له من دوران، ( هذا الأخير الذي يصيب في معظم الأحوال حسب تفسيره، الناس الذي لايدخنون ولايشربون الخمر كما هو الحال لديه). بعد التعرف على اسمي الذي يشبه اسم زوجته، وبعدما تبادلنا مشاهدة صور أطفالنا وأسرنا، تطرقنا لعدة مواضيع سياسية منها، وثقافية واجتماعية وفنية وأسرية، الشيء الذي جعلني أرسم له صورة واضحة المعالم، غير تلك الضبابية التي كنت آخذها من بعيد. فهو إنسان، نعم إنسان يحس ويتألم من أجل الاخر ويشعر بفرحه وانتصاراته وأحزانه وأتراحه ويشاركه فرحه وكربه، مؤمن ويخشى الخالق، خلوق ومؤدب، غير تلك الأدوار التي يؤديها في معظم الأحيان والتي صنفه الجمهور من خلالها وطبع كل سلوكياته بها. رزين ورصين، مثقف ومطلع، أب حنون جد متعلق بابنته وابنه، وزوج يقدر الحياة الزوجية، يعتز بزوجته ويفتخر بها ويقدر كل المجهودات التي قامت بها من أجل ابنائهما وأسرتهما، لكونها ضحت بعملها للتفرغ لتربية الأبناء والسهر عليهم، رغبة منها. إذ لم تبدأ العمل سوى مؤخرا بعد أن كبروا… يتفرج على صور أسرته ويتحدث عليهم والشوق الحار يبدوا من تلك النظرة الطافحة بالأبوة اتجاهم، يشكر المرأة بصفة عامة ويقدر كل المجهودات التي تقوم بها ويستنكر كل أنواع العنف التي لاتزال تطالها، من خلال حديثه عن دور المرأة والمجهودات الجبارة التي تقوم بها ومن خلال مناقشتنا لمسرحية “سعدات سعيد” التي كان أحد أبطالها، والتي تسلط الضوء عن الغبن والقهر الذي يطال بعض النساء اللواتي يضحين ويعملن من أجل بعض الرجال، وكيف يتم استغلالهن وكيف يتم التخلي عليهن، وتغييرهن بأخريات مباشرة بعد أن يتم اغتناء بعض الرجال، والتي أدى فيها دور ذاك الرجل المتنكرللحب وللجميل… والذي كانت تحبه امرأة شابة كانت تشتغل لديهم وبعد وفاة أمه وعدم رجوع والده من العمل/العسكر، اضطرت للاشتغال بالمنازل كي تعيله هو وأخوه الاكبر، مضحية بشرفها وبعرضها، حيث كانت تلبي كل حاجياته بما فيها المادية والنفسية، نتيجة العشق الكبير الذي كان يجمعهما، هذا العشق الذي جعلها تعطي بدون حساب وتغدق عليه بكل ماتتوفر عليه… هذا الحب الذي سرعان ماتبخر وطار مع الأحلام الوردية… بعدما علم سعيد / بطل روايتنا من جيرانه أن هناك رسالة قد وصلت لأجلهما هو وأخوه، فأول الجيران فحواها قبل الاطلاع عليها، أن والده قد ترك له وأخوه ثروة ضخمة… الشيء الذي جعله سرعان مايتنكر لحبيبته ويتهمها بكونها خادمة ومستواه لن يتلاءم ومستواه ، وغيرها من الكلمات النابية والجارحة … انذاك تأوهت السعدية وكأنها تزفر بكل أحزان النساء المغبونات… في حركات جسدية جد معبرة متأوهة ومتألمة، استطاعت من خلالها أن تجعل االمتفرج سواء كان رجلا أم امرأة أن يحس بذاك الألم الذي يعتصر النساء ويصلهن حتى النخاع بعد كل نكران ذكوري… وهو يجر شعرها ويطردها وينعتها بأقسى النعوت مصورا كل أنواع الظلم والسادية لدى بعض الرجال اتجاه النساء… الألم والظلم الذي سينقلب على الظالم وسيرتشف منه، ذاك الالم الذي سيحول السعدية فيما بعد إلى امرأة جد قاسية وحاقدة، ولاتعرف الرحمة والرأفة، بعدما اكتشفوا جميعا، أن النقود كلها باسمها هي، وليس باسم حبيبها الغادر وأخيه مسعود، الذي كان يحبها في صمت ولا يستطيع البوح لها. انذاك تحولت السعدية/ المرأة المعطاء والحنونة إلى قاسية ظالمة أذاقته كل انواع العذاب والذل وألبست بطل روايتنا “الفواطة” ومارست عليه كل ماكان يمارس عليها… من قهر وذل وطغيان… كما تحدث معي، بطل روايتنا، الذي يلقبه الجمهور “ببطل الشر والمتفنن فيه ” في كل المجالات بما فيها مهنة المتاعب، وما يحفها من مشاكل قد تعصف بدور الصحافي وتؤثر بالتالي على مصداقيته، وكيف يجب أن تحفظ كرامته ومكانته المرموقة ودوره الكبير بما فيها توفير الشروط الأساسية والوسائل والآليات التي تمكنه من أداء رسالته بكل مصداقية ونزاهة، ومدى ارتباط هذه المهنة بالفن ومدى تلازمهما وغيرها من الامور. ويتأسف البيضاوي، ابن المدينة القديمة والحي المحمدي/ بطل روايتنا، على الجمهور الذي يتذكره فقط في أدوار الشر التي شخصها، حيث هناك من ينعته ب”امجينينة”، القتال، “المشرمل” وغيرها من ألقاب القتال والجريمة… !!!؟؟ متحدثا بحرقة، لماذا الناس يتذكرون فقط الادوار الشريرة،!!!... ومتسائلا لماذا ينسون العديد من الأدوار الأخرى التي لعبها وأبدع فيها كما هو الحال في “المنسيون” التي حصل من خلالها على جائزة أحسن ممثل بروتردام ودوره في “دموع الرجال” وأفلام السينما، التي لعب فيها أدوارا بعيدة عن الشر والاجرام، ولماذا يفضلون أن يروه مجرما ولا يتذكرونه قاضيا ؟ !!!... كما هو الحال في الدور الذي أداه في فيلم حسن غنجة ولماذا لا يتذكرونه في دوره بمسرحية شغل العيالات وغيرها من الأدوار ؟... وأتساءل بدوري مستغربة، لماذا يصفونه بوحش الشاشة؟ وأعتى مجرميها؟ ويحكمون عليه ويضعونه دائما في قفص الاتهام، دونما أن يضعوا أمام أعينهم أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته ! ...ولماذا يدينونه دائما وأبدا أينما حل وارتحل قبل التروي ولو لحظة للتأكد... فبالأحرى إعادة التفكير وتغيير تلك الافكار الجاهزة… التي أخذوها عنه دون تفكير ودون إعادة التدوير في العقل الباطن …؟ !!! … ودونما محاولة رسم صورة أخرى غير تلك التي رسموها له بأذهانهن انطلاقا من الشاشة وليس من الواقع؟؟ !!!… فأدوار الشاشة شيء، وأدوار الواقع أشياء لاعلاقة لها بالمرة بالتجسيد والتمثيل، وعبد الرحيم المنياري وغيره من الفنانين شيء، وواقعهم شيء اخر، ويبقى التجسيد مجرد تجسيدا لشخصيات على أرض الواقع، لايمكن تحريرها وتقمصها سوى من طرف الممثل، الذي هو الاخر يتألم و يتسائل لماذا يتم تطبيعه وتنميطه مع شكل واحد من الأدوار، مادام يستطيع القيام بأدوار كثيرة ومتنوعة.