تعد حنان قروع من الكاتبات المتميزات في فن القصة القصيرة بمدينة الناظور، وخاصة بمجموعتها (صرخات من دهاليز منسية)1 التي تعبر عن صراع الذات الأنثوية مع واقعها الموضوعي.لذا، تستعرض الكاتبة مجموعة من الصور الأنثوية التي تقدم المرأة في صراعها الجدلي مع الرجل من جهة،وصراعها مع مرآتها الذاتية من جهة أخرى. إنها صور أنثوية متنوعة ومتناقضة ومفارقة، تعبر عن تأرجح الذات الأنثى بين الشعور واللاشعور ، وانسحاقها أمام قوة وسلطة الأنا الأعلى الذي يضع قيودا ومتاريس أمام هذه الذات الأنثوية المنطوية على عوالمها الداخلية المغلقة، التي تتلذذ بعقدها المكتوبة، وتستشرف عبر أحلامها الواهمة مخيالات مجهولة. وعلى الرغم من ذلك، تحاول الكاتبة جاهدة أن تنقذ كائناتها الأنثوية من وحل الواقع وسقمه التراجيدي، وتحرر شخصياتها النسوية المنسية والمهمشة من إسار التناتوس (العدوان) والإيروس( الحب الشبقي)، بتمثل رؤية إصلاحية اجتماعية مبنية على القيم ، والمشروعية، والتوازن بين المادة والروح. إذاً، ماهي مقومات هذه القصة الشعرية بناء وقصة؟ وماهي حمولاتها المرجعية والمقصدية؟ هذا ماسوف نرصده في مقالنا هذا. D المتن الحكائي: تنطلق الكاتبة في مجموعتها القصصية من تجربة الذات، متحدثة عن حياة المرأة بتفاصيلها العامة والدقيقة في صراعها مع الذات والواقع الموضوعي. وقد استطاعت الكاتبة أن تكتب عن ملامح نفسية للشخصية الأنثوية بسبر أغوار المرأة شعوريا ولاشعوريا، واستعراض عالمها الداخلي المغلق، وانطوائها على الذات، ومعاناتها من مركبات وعقد نفسية متنوعة، تؤثر على الشخصية المرصودة سلبا على مستوى التمظهر والفعل والحالة. كما تحاول هذه الذات جاهدة أن تتحرر من الهامش لتتصدر الواجهة:” بحثت عن نفسي بين البطولات، بين طيات الستائر و بين المنصات… بين المشاهير، بين الأضواء و بين النجوم المتلألئة على سطح الأرض. لكني لم أجدها. و مع ذلك لم أتيقن بأنه رحلة البحث عن نفسي الضائعة. تجولت في كواليس حياتي. فوجدتني رابضة في زاوية مظلمة، أحمل بيدي أوراقا بيضاء لا أمل و لا أكل من ترديد كلماتها. أنتظر في هدوء فرصة العمر التي أتخلص فيها من الستائر، و أبهر الجمهور بأدائي.” كما تتلذذ الكاتبة بأحلام الطفولة والشباب، ولكنها لا تؤمن كثيرا بالحلم الطوباوي الواهم؛ لأن الفعل العملي أهم من المنى المعسولة:” أضعت أجمل أيام شبابي و أنا أحلم ، و ما جنيت من أحلامي شيئا غير لحظات سعيدة عشتها في الظلام –وحدي- و أنا مغمضة العينين. لم أدرك أن العمر يمضي إلا بعد فوات الأوان: بعد أن بدأ الشيب يزين شعر رأسي ، و الخمول يسري في دمي. لم أستيقظ من حلمي الجميل إلا و أنا في الأربعين من عمري، فوجدت أقراني يشغلون أعلى المناصب و يتكلمون بأسمى العبارات. ألم يكونوا يحلمون؟ بلى كانوا يفعلون . و لكن قرنوا أحلامهم بالعمل الجاد كي يحققوا أحلامهم. لم تحبط المشاكل و لا قلة ذات اليد عزيمتهم-مثلي- فأصبحوا هم أسياد أحلامهم لا أحلامهم من تسيرهم مثلي.” كما تستلقي الساردة بنفسها بين أحضان الحب المثالي الرومانسي، منتشية بلغة العيون المعبرة، وسيميائيتها الدالة:” أخشى النظر في عينيك البراقتين كي لا أغرق في سحرهما. أخاف أن تضعف عيناي فتبوح لهما بكلام ما كتب مثله حبر على ورق، و لا تلفظت به شفتان من قبل. أكتفي بالنظر إليك من بعيد فأترقب حركاتك و إيماءاتك. أسترق نظرات في الخفاء علني أنعم بقليل من الراحة. سمعت كثيرا عن الحب من أول نظرة. لكني لم أكن أبدا أومن به حتى أسرتني عيناك الجميلتان ، فأوقعتني مغرمة من أول وهلة. عيناك بحر عميق يغري كل من يقترب منه. أمواجه عاتية تفتك بكل من يحاول العوم فيه.” ويحضر الحب كثيرا في قصص حنان قروع ، باعتباره تيمة محورية في أضمومتها، تحرك تفاصيل قصصها المتنوعة دقة وتشبيكا وتمطيطا. ويعد تصوير الحب وتجسيده في مواقف ومشاهد درامية وإنسانية مقوما من مقومات الكتابة النسائية :”آه… لو تعلم كم أحبك؟ لرحت تكتب عني قصائد و أشعار لم تسجل في تاريخ الأدب بعد. و لضاهيت مجنون ليلي في تعابيره، والقباني في تشبيهاته. قد أبدو لك شاعرية أكثر من اللزوم، وقد تقول إن زمن ليلى و قيس ولى.و لكن حبي لك يتخطى كل الجسور، و يربط بين كل العصور. فهلا أحسست بهذا القلب الغيور. آه..لو تعلم كم أحبك؟ لقضيت عمرك برفقتي .” ولاتنس الساردة أن تلتقط حياة أمها بتفاصيلها الجزئية الدقيقة ، والتي تنطوي على أسرار دفينة قوامها: الحزن، والتستر، والصبر، والتجلد، والقلق، والشوق، والحنين، والخوف:” تحاولين الاختباء في أركان المنزل كي لا أرى دموعك. تتحججين بقشرة البصل، أو بغبار السجاد، أو بدخان السيارات المنبعث من النوافذ، و أحيانا بجرثومة غريبة تسللت خفية إلى عينيك الساحرتين… و لكن هيهات أن تنجحي في خداعي. تجهدين نفسك في أشغال البيت كي لا تجدي وقتا فارغا يسافر بمخيلتك إلى عالم الأحزان. تنشغلين بقراءة الكتب و القصص و المجلات التي قرأتها ألف مرة ، كي ترهقي نفسك و تنامي دونما التفكير في الماضي البعيد. ترى ما الذي يشغل بالك أمي؟ ما الذي يجافي نومك ويقلق راحتك؟ ما هذا السر الذي تحبسينه في جوانحك، و تدفنينه في أحشاء صدرك؟” وتحضر جدلية الذكورة والأنوثة في هذه المجموعة القصصية لإدانة الرجل المغتصب الذي يرتكب أفعالا شنيعة في حق المرأة باسم الرجولة والذكورة والفحولة. وتعد هذه الجدلية من تجليات الكتابة النسائية التي صورت كثيرا الصراع بين الرجل والمرأة. بيد أن هذه الكتابات تختلف من مبدعة إلى أخرى، فهناك من الكاتبات من يدافعن عن الرجل، وهناك من يدافعن عن المرأة:” أي لذة هذه التي يشعر بها الرجل، و هو يعلم تماما أنه منبوذ لا رغبة فيه؟ يفتك بأعراض النساء تحت ذريعة الرجولة. رجولة تجعله يأخذ ما ليس له غصبا مدعيا أنه حق مشروع. بل إنها جريمة نكراء لا تمت للرجولة بأية صلة، و حيوانية مطلقة مجردة من الإحساس إذ لم تؤثر فيه لا دموعي و لا توسلاتي. لم يكترث لا لآهاتي و لا لصدي…حيوان في قالب إنسان.” كما تثور الساردة على الرجل المتجبر الذي يهين المرأة بجبروته المتعنتة، وقسوته الفظة، وأنانيته المفرطة:”بدت التجاعيد على وجهي الفتي قبل الأوان…و ظهر الشيب في شعر رأسي منذ زمان… و صرت أشكو أمري لله في كل وقت وآن…و الفضل طبعا يعود إليك أيها السجان. كرهت الدنيا و ما فيها بسببك، سئمت الحياة – بحلاوتها و مرارتها بسبب غطرستك، حولت حياتي جحيما، و شبابي سرابا. و ابتسامتي دموعا، و لكن ما كفاك كل هذا…تؤول ما لا يقبل التأويل، و تشك فيما لا يحتمل الشك. غيرت هواياتي، بل وحتى ملامح شخصيتي. ضحيت بأمنياتي و آمالي…خلقت لنفسي عالما آخر، بشخصية جديدة و بطموحات و تطلعات جديدة تتلاءم و طبعك و لكن هيهات أن تعترف بتضحياتي. ما من قول يضنيك، و ما من فعل يؤِثر فيك، و ما من دمعة تذيب جلمود الصخر الذي تحمله بين جوانحك. مزقت كل الخيوط التي تربطني بك، حتى الرفيعة منها. هدمت جسور التواصل بيننا، فما عدت تسمع إلا لصوتك، و ما عدت أقدر التلفظ أمامك بأبسط الكلمات، فعقدة لساني لم تحل بعد.” هذا، وتركز الكاتبة ريشتها على وصف المرأة العانس، فتصف أحاسيسها ومشاعرها المتناقضة والمتقلبة شعوريا ولاشعوريا:” رحت ألملم الأوراق المتناثرة على الأرض أبحث عن كلمات تاهت بين دروب الحياة، و حروف تسللت بين السطور لتغدو في نطاق النسيان. لم أوقن أني أضعت سنوات من عمري في السهر و الانتظار إلا بعد ما وجدت نفسي أهوي في قاع العنوسة و أصنف في المراتب الأخيرة ضمن قائمة طويلة للعوانس.” هذا، وتتحول الكاتبة عبر قصصها الهادفة إلى مصلحة اجتماعية، فتنتقد اليأس عند الأنثى ، حيث يترك آثارا وخيمة على الإنسان شعوريا ولاشعوريا، فيتحول الإنسان إلى كائن منخور أخلاقيا وجسديا وعضويا ونفسيا. وبالتالي، يفقد قيمته الوجودية الحقيقة:” لماذا يجدنا اليأس فريسة سهلة له؟ إذ سرعان ما نقبع في زنزانته: زنزانة لا جدران لها و لا أبواب و لا سجان إلا في مخيلتنا ، نبنيها بإرادتنا، و نسجن فيها أنفسنا بإرادتنا . و بإمكاننا أيضا أن نهدها بإرادتنا فنحصل على تحررنا. لا تيأس، لا تترك لليأس فرصة ليتسلل خفية إلى قلبك فيأسره. اجعل لحياتك معنى، و اسلك طريقك- حتى النهاية- حتى و إن كان طويلا أو محفوفا بالعراقيل. فالعبرة ليست في الوصول مبكرا، و لكن في أن تصل إلى المكان المناسب و تحقق الهدف المنشود.” ومن ناحية أخرى، تنتقد الكاتبة الفراغ ، وتعدد سلبياته، وتصوب سهامها الحادة إلى مدمني المخدرات الذين يضيعون حياتهم بلاجدوى. وتنتقد بنات الهوى، محاولة إصلاح وضعيتها المتردية من خلال تشجيع الزواج. ومن ثم، تحمل الكاتبة في قصصها رؤية اجتماعية إصلاحية أخلاقية، تذكرنا بالمنفلوطي على سبيل الخصوص:” يا ليتني لم أحن إلى الماضي الجميل، و يا ليتني نسيت الحروف. وضعت الجريدة على جنب، و بلعت أنفاسي على مضض. لا أنكر أني كنت واحدة من هؤلاء، و لكني لم أتصور أبدا حجم الغل الذي يحمله لي الناس، و خاصة الصحفية التي كتبت المقال. لم اكتفت بالتطرق إلى الموضوع من زاويتها فقط. لم لم تحاول التعرف على سيكولوجيتي و لم تلق نظرة خاطفة على جوارحي. كانت ستستمع إلى آهات لا يكف الوريد عن إرسالها إلى الشريان، و سترى ركاما هائلا متكدسا من الهم و الحيرة و الشك يضاهي نسبة الكولسترول في مرضى الكولسترول. أيعقل ألا أحس بالذنب و الهوان؟ أيعقل أن أرفض العيش بسلام و اطمئنان مثلها و مثل سائر النساء الأخريات؟ و من ناحية أخرى، هل من المعقول أن تلقى المسؤولية على عاتقي فحسب، و نقصي تورط الرجال بهذه الجريمة؟ هل يمكن لمجتمع لا يتحمل الخطيئة أن يرحمني و يقبل توبتي؟ هل بالإمكان أن يغفر لي و يتغاضى الناس عن ماضي إن أنا أردت بصدق الانضمام إلى فئة النساء الشريفات؟ و هل من أمير يأتي على حصان أبيض ليساعدني على مجابهة هوى النفس و انتشالي من بحر الظلمات؟ هل تظنون الأمر ممكنا أنتم من يدينونني؟” وتندد الساردة بالخيانة غير المشروعة، وتسكب آهاتها الحزينة على فقدان سعادتها الحقيقية، بعد أن تكتشف خيانة الزوج الخادع:” بكيت كثيرا يوم علمت بأمر خيانته، انهمرت من عيني دموع لو جمعت لروت جميع الأراضي البورية ببلادنا ، و لأنقذت محاصيل القمح من شبح الجفاف. فقدت رغبتي في استهلاك الحياة، احتقرت نفسي و اشمأززت منها. كسرت مرآتي لأنها أرتني امرأة أخرى ، امرأة ضحت و تعبت و سهرت الليالي تراقب طلوع الشمس بشغف- و في صمت- تنتظر يوما جديدا لتجود بعطائها، و تحوي العالم بحنانها. جرح لا يندمل، و غصة مريرة كلما سافرت بذاكرتي إلى الماضي. نوم يجافيني، و رغبة في الهروب بعيدا… ملل خلقته وجوه عابسة، و عقول متقاعسة، و قلوب مخادعة…أفكار مشتتة بين ماض جميل، و حاضر مفقود، و مستقبل مجهول…” وينضاف إلى ذلك، أن الكاتبة تتغنى بالأبوة المفقودة من منظور إنساني وأخلاقي واجتماعي. وهنا، تتحول الكاتبة إلى مفكرة ومصلحة ، تدافع عن المرأة التي فقدت الحنان الأبوي في وسط اجتماعي لايعرف الرحمة والشفقة والإنسانية:” حرمتني من الحصول على اسم كباقي الأطفال. جعلتهم ينادونني باللقيطة و الفاسدة و المتسكعة و المتسولة و بجميع الألقاب التي تناسب طفلة شارع. حرمتني من حقي في التعليم فليس لأمثالي حق في الحصول على مقعد في المدرسة. و لأني لم أحظ بفرصة للتعلم، لم يكن أمامي حل سوى التمني: تمنيت أن أشارك التلاميذ فرحتهم وهم يحتفلون بعيد المدرسة، و هم يرددون النشيد الوطني صبيحة كل يوم اثنين بأصوات متعالية… تمنيت أن أحمل محفظة ثقيلة على ظهري مثلهم، أن أرتدي الزي الموحد مثلهم …أن أتوج في حفل نهاية السنة بوسام التقدير والشرف…و لكن أكثر ما تمنيته أن توصلني صباحا و ترسم قبلة على جبيني قبل الدخول، و تنتظرني مساء و تمد ذراعيك إلي حاضنا إياي بكل شوق و لهفة مثل آبائهم. تمنيت أن تصفق لي يوم توزيع الجوائز و أقبل يدك امتنانا قبل أن تقبل خدي فخرا و اعتزازا.” ولاتكتفي الساردة بسرد قصص الأنثى في شتى صورها الإيجابية والسلبية، بل تسرد لنا مواقف تراجيدية، أساسها الألم والمعاناة والحزن، كسرد قصة أبيها الضرير الذي فقد عينيه ، فصار العالم بالنسبة إليه كتلة من السواد والجحيم اليائس:” دخلت غرفة أبي – بعد أن استجمعت قواي المنهارة. رأيته من بعيد ساكنا ، صامتا. لا أدري إن كان نائما أو شاردا. اقتربت منه بخطى متباطئة. أمسكت بيده، و ناديته هذه أنا أبي. كان قلقا، متألما، وهنا. لم يكن يعلم بعد بمصابه لأن الضمادات كانت تغطي رأسه و عينيه. سألني بصوت خافت:” ابنتي ، لم لا أراك؟ أجبته بسرعة مدهشة: لا تراني بفعل المراهم التي وضعوها في عينيك إضافة إلى الضمادات التي تغطي معظم وجهك. و لكن الهندية المشؤومة ظهرت من جديد لتخبره حقيقة أمره، ثم اختفت كعادتها. سحب أبي يده من يدي ثم قال: ما جدوى حياتي إن فقدت عيني؟ ليتني مت ليتني مت…ما فائدة حياتي إن عشت بقية عمري في الظلام، ظلام أسود كسواد الفحم الذي يستخرج من مناجم بلادنا؟ ما جدوى حياتي إن لم أمتع عيني بجمال عينيك العسليتين؟ نبرة حادة في صوته، و غصة مريرة في حلقه، و بركان يغلي في جوفه…تغير لون وجهه ، و تبدد ذاك الخيط الرفيع من الأمل.” هذه هي بعض الصور الأنثوية التي تتضمنها قصص حنان قروع، وهي صور أنثوية اجتماعية، يتقابل فيها الرجل مع المرأة سلبا أو إيجابا. D المبنى الحكائي: تستند الكاتبة في أضمومتها القصصية إلى توظيف الميتاسرد، وفضح أسرار لعبة القص، وهذه آلية من آليات التجريب والتحديث السردي، وقد استطاعت الكاتبة أن تصور لحظات الكتابة والإبداع باعتبارها أنثى تعيش وراء الستار أو في الكواليس، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على تردد الشخصية، وخوفها من اقتحام المجهول:” انزلق حبري على ورقي، فتراقصت الحروف على نغمات السطور، و تمايلت الكلمات حائرة بين الأنامل. ماذا أكتب؟ فالعقل تشتت، و الأفكار تنافرت، و الجمل تناثرت هنا و هناك محاولة الاختباء بين أنسجة الذاكرة. أي القصص أسرد؟ و أي الشخصيات أتقمص؟ و أي الأقنعة أضع على وجهي؟ فقد سئمت لعب أدوار الآخرين، و سرد حكايات الغابرين، و الظهور بزي الممثلين. لم أعد أقوى على تغيير جلدي مثل الأفاعي، و لا لوني مثل الحراب، و لا عاداتي مثل القردة. أبحث عن معالم شخصيتي التي تاهت بين السيناريوهات، و وأدت طموحاتها تحت الخشبات، و نسيت كيانها على الرغم من كل التصفيقات.” وتتبنى الكتابة الملمح الشاعري والإنشائي في الكثير من نصوصها السردية والقصصية، كما هو حال هذا المقطع :” قالوا: ما أحلامك سوى أوهام من وحي الخيال، و خيالك واسع جدا فلا تطلقي له العنان. قلت : وما العيب في أن أحلم ما دامت الأحلام تأخذني إلى عالم جميل جدا ، عالم لا يفرض علي الالتزام بقائمة ممنوعات طويلة تشدني إلى الوراء كلما تطلعت إلى الأمام. أحلامي تفتح في وجهي أبوابا كثيرة لا يمكنني فتحها أو حتى طرقها في الحقيقة، فمفاتيحها بيد سجان لا يعرف معنى للرحمة. بينما مفاتيح أبوابي- في الحلم- بيدي, أفتحها في وجه من أحببت وأغلقها في وجه من أبيت متى شئت.” هذا، وتكتب حنان قروع قصصا في غاية البلاغة، وروعة الفصاحة، لاسيما في قصصها الوصفية التي تعتمد على استثمار الصفات والنعوت، واستخدام التشابيه والاستعارات والمجازات والإحالات الثقافية. وما يلاحظ على حنان قروع أنها تستعمل كتابة ذاتية رقيقة، تنتشي بالسلاسة والأنوثة والشاعرية، كما يبدو ذلك جليا في قصة (عيناك):”عيناك بحر عميق يغري كل من يقترب منه. أمواجه عاتية تفتك بكل من يحاول العوم فيه. لذلك تجدني أفضل البقاء على الشاطئ كي أرقبك من بعيد دونما خوف أو حذر. أحب النظر إليك في هدوئك و في هيجانك، في مدك وفي جزرك, وقت الغروب ووقت الغسق. حتى إني لا أمل من تتبع حركاتك بعيني الضعيفتين اللتين لطالما تمنيا أن تفهم كلامهما فترفق لحالهما. عيناك مصباحان ينيران عتمة ليلي، و شعلتا أمل تنتشلان اليأس من جوفي. من خلالهما راقصت الأفاعي في ساحة جامع لفنا بمراكش، و تعرفت تاريخ الأدب بجامع القرويين بفاس. فيهما تزحلقت على جبال الأطلس و تزلجت على ثلوج يفرن. و بمساعدتهما طردت الاسبان من برج “ثازوظا” بالناظور. لا أدري إن كنت لا تفهم كلام العيون أو تتظاهر بعدم الفهم. فأنت الوحيد الذي لم يلحظ مدى تعلقي بك، على الرغم من أن نظراتي بادية للعيان. نصحني الكل بعدم الغوص فيهما لأني غارقة لا محالة. لكني آبى إلا أن أحاول علني أظفر و لو بنظرة واحدة تروي روضة قلبي القاحلة.” ومن جهة أخرى، تلتجىء الكاتبة إلى التذويت والخاطرة والاعترافات لشعرنة عواطفها وانفعالاتها الداخلية، فيتداخل السرد مع المحكي الشاعري:” لم تدمع عينك أمي، أما تعبت من طول البكاء؟ كفاك أمي، فقد أضنيت قلبي على الرغم من صغر سني. آه أمي! لو علمت أن كل دمعة تذرفها عيناك الذابلتان ،تعادلها قطرة دم ينزفها قلبي الصغير، لترفقت بقلبي الذي لا يحتمل ، و لصنعت معروفا بعينيك الجميلتين. تجهشين كمن فقد عزيزا ، أو أضاع شيئا نفيسا. تحاولين جاهدة إخفاء السبب، لكن هيهات أن تفلحي. فما عدت قادرة على إخفاء الحقيقة و كتمان الأسرار. عيناك الغائرتان تتحدثان بدلا عنك و تحاولان في كل مرة إفشاء سرك الدفين. فامسحي دموعك أمي و جففيها، فما عاد ينفع بكاء و لا ندم. تحاولين الاختباء في أركان المنزل كي لا أرى دموعك. تتحججين بقشرة البصل، أو بغبار السجاد، أو بدخان السيارات المنبعث من النوافذ، و أحيانا بجرثومة غريبة تسللت خفية إلى عينيك الساحرتين… و لكن هيهات أن تنجحي في خداعي.” ويعني هذا أن الكاتبة تستفيد من الأجناس الأدبية الأخرى في تركيب صورها القصصية ، مثل: الشعر، والخاطرة، والميتاسرد، والرسالة، والاعتراف، والمسرح… ولا ننسى أيضا أن الكاتبة تكثر من الجمل الفعلية، وتنوع أساليبها الإنشائية الطلبية وغير الطلبية؛ مما يقرب هذه المجموعة من أدب الخواطر والترسل والكتابة الشاعرية المسترسلة:” حطم كبريائي، كسر انتصاب قامتي، لوث شرفي و أهان كرامتي. إحساس مرير بالذل و المهانة و القهر و الاستبداد. حرية مغتصبة و مستقبل ضائع و نظرات ذابلة و خوف يهز أضلعي… أحلام مفقودة و كلمات مزيفة و مبادئ خاطئة…بغض و كره و احتقار لكل الرجال من فصيلته. فكرت كثيرا في الانتحار، فما حدث أصابني بالجنون. فقدت رغبتي في الحياة و أنا في أحلى أيام شبابي . سقطت من عيني كل المبادئ التي تشبثت بها سنين طوال. و انهارت كل القيم كما ينهار البنيان تحت وقع القنابل. و لكني في النهاية استسلمت للقدر و أيقنت أن الصمت و الموت لا يعاقبان الجاني بل يجعلاه يتمادى و يتربص بالمزيد من الضحايا. “ هذا، وتنوع الكاتبة استهلالاتها الافتتاحية (استهلال حدثي- واستهلال تساؤلي- استهلال شخوصي- استهلال وصفي- استهلال ظرفي- استهلال شاعري…). وينطبق هذا كذلك على خواتمها السردية(خاتمة تساؤلية- خاتمة حدثية- خاتمة دعائية- خاتمة شاعرية…)، بل تتحول بعض قصصها إلى أسئلة جدلية توليدية سقراطية، يمكن تسميتها بقصة السؤال:” أتساءل دوما : لماذا ننسى بسرعة من أحسنوا إلينا؟ لماذا ننكر جميل من قدموا لنا معروفا؟ لماذا نقطع اليد الرحيمة التي تمتد إلينا لتقدم لنا العون في أشد أزماتنا؟ بل و لماذا ننسى حتى من ابتسموا في وجوهنا ابتسامة بريئة دون مقابل؟ أهي عادة ألفناها منذ صغرنا ؟ أم سلوك اكتسبناه من آبائنا و أمهاتنا و مربينا؟ أو ربما هي حالة مرضية تستدعي تدخل طبيب مختص؟… مهما تكن الأسباب ، لماذا لا نحاول نحن_جيل التغيير _ أن نغير هذه الخصلة الذميمة التي لا تنفع في شيء إلا في تحطيم العلاقات الإنسانية، و تهديم جسور التواصل بين بني البشر. لماذا نصر على التقيد بعادات لا تمت بصلة لأخلاقنا ؟ ألسنا واعين بما نفعله قدر الكفاية ؟ أم أننا غير ناضجين بالقدر الكافي الذي يجعلنا نتحمل مسؤولية أفعالنا وأقاويلنا و حتى أحاسيسنا…؟ ما العيب إذا شكرنا من أسدى لنا معروفا ؟ ما العيب إذا اعتذرنا و نحن نعلم تماما أننا أخطأنا؟ فالاعتراف بالخطأ فضيلة تدل على نبل خلقك و سمو فكرك، لا على ضعف شخصيتك أو قلة حيلتك. لماذا نتردد كثيرا قبل التعبير عن أحاسيسنا تجاه من نحب و نسارع إلى إثارة غضب من نكره ؟ لماذا نميل إلى أن نجامل الأغراب و لا نكترث بالأحباب؟ لماذا نسعى إلى تحقيق حلم بعيد المنال، يكاد يلامس النجوم, بينما باستطاعتنا أن نحول ما بين يدينا إلى مستقبل زاهر إن نحن عملنا بجد من أجل ذلك؟ أسئلة كثيرة تتبادر إلى الذهن ، و لكن ما من إجابة مقنعة من شأنها أن تخمد النيران التي تشتعل بداخلي. ما من مبرر يجعل الإنسان يفترس أخاه الإنسان.” علاوة على ذلك، توظف الكاتبة مجموعة من الإحالات التناصية عن وعي أو عن غير وعي، مثل: برج تازوطا، وجلمود صخر، وقيس وليلى، جان جاك روسو… ومن يتأمل الحبكة السردية في قصص حنان قروح، فيجدها ذا عقدة شاعرية قائمة على الخاطرة والانسياب الشاعري :” و أخيرا، و بعد جدال عقيم بين عقلي و قلبي، مزقت رسائله. أجل مزقتها بأنامل مرتجفة بعد انقضاء اثنتي عشرة سنة من فراقنا. مزقتها و كلي يقين أني لا أريد الاحتفاظ بذاك الخيط المتبقي الذي يربطني به. رسائل وددت التخلص منها منذ سنوات خلت، لكني كنت أتردد في كل مرة، لأنها كانت ملاذي كلما أحسست بالحزن و الملل و الضيق، و كلما راودني الحنين الملح إلى الأيام الخوالي. لا أبالغ إن قلت إني قرأتها مئات المرات قبل تمزيقها. بل وحتى حفظت بعضا منها خاصة تلك التي كان يعبر لي فيها عن حبه الجياش، و التي كنت أسبح من خلالها في عالم الخيال…كم هو جميل أن تسمع و تقرأ كلمات الحب و الغزل، أن يناديك من تحب بوردتي، أن تجد من يتفهمك و يهتم بك…و لكن الأجمل من هذا أن تتمكن من بوح أحاسيسك أمام البشر دون خجل أو خوف. “أو تكون الحبكة القصصية ذا عقدة سردية ، كما يبدو ذلك جليا في عقدة الفراق في هذا المقطع السردي:” افترقنا علني أنساه و أبني مستقبلي بعيدا عنه. لكني لم أنجح في دفن حبه و لا في محو ذكراه من مخيلتي. ملامح وجهه الجميل تطاردني في كل مكان، عيناه الساحرتان تلاحقاني بنظرات آسرة، و صوته العذب يداعب أذني و يهمس لها بكلمات العشق و الغرام.” وعلى مستوى المنظور السردي، تعتمد الكاتبة غالبا على الرؤية الذاتية الداخلية القائمة على ضمير المتكلم. ويعني هذا أن الساردة حاضرة إلى جانب الشخصية الرئيسية، و معرفتهما متساوية، وخطابهما السردي قائم على التذويت.أما الزمن في هذه المجموعة فهو زمن باهت متشظ؛ بسبب شاعرية هذه القصص، وتحولها إلى خواطر وذكريات منسابة. فينتج عن ذلك تداخل الأزمنة والفضاءات والأمكنة، وانصهارها في محكي شاعري متوقد بالانفعالات والمشاعر المضطرية المتفاعلة مع الذات والواقع الموضوعي. وتعتمد الكاتبة كذلك على لغة شعرية رشيقة ، طافحة بالصور البلاغية والخواطر المتدفقة بحرارة الموافق الإنسانية. ومن ثم، تتسم لغة المجموعة بالرقة ، والسلاسة، والشاعرية، والأنثوية، والانزياح البلاغي:” أبي، حبنا لك حفرته في قلوبنا بأيد بارعة، و تفننت في نحت أشكال رائعة من العطف و العطاء. و احترامنا لك استحققته لما منحتنا إياه من ثقة و ما عودتنا عليه من تحمل للمسؤولية. فاعذرنا أبي إن انشغلنا عنك، أو تحججنا بحجة واهية و لم نزرك. اعذرنا أبي إذا ما رفعنا صوتنا في حضرتك أو لم نمتثل يوما لأوامرك. سامحنا إن جرحنا مشاعرك- بقصد أو بغير قصد- إن أبينا الأخذ بنصيحتك و العمل بمشورتك. سامحنا إن أثرنا غضبك أو تخطينا ببساطة الخط الأحمر. دمت لنا أبي تاجا نتوج به رؤوسنا، و فخرا نعتز به في دنيانا و ملاذا نلجأ إليه في سرائنا قبل ضرائنا.” هذه بعض السمات الفنية والجمالية التي تتسم بها قصص حنان قروع؛ مما يقرب هذه المجموعة إلى الخطاب الشاعري القائم على الخواطر والاعترافات والذكريات والتداعي الإنشائي الحر. تركيب : وخلاصة القول، نستنتج ، مما سبق ذكره، أن حنان قروع كاتبة متميزة في قصصها الرشيقة جدا، تختار الألفاظ الشاعرية بدقة، وتنتقي عباراتها الإنشائية بروح إبداعية وخيالية ثرية، فنتتقل الكاتبة من الذات نحو الموضوع، مصورة بذلك جدلية الذكورة والأنوثة. ومن ثم، تطرح هذه المجموعة مقومات الأدب النسائي بكل صوره الأنثوية، ومفارقاته الصارخة. ومن ثم، تعكس هذه المجموعة بشكل جلي ما ينتاب الأنثى من هواجس وآلام وانفعالات وعواطف ومشاعر واعية وغير واعية. وقد أحسنت الكاتبة حينما اعتمدت على الكتابة السردية الشاعرية في تغليف ذكرياتها وخواطرها ورسائلها الذاتية. كما تكثر الكاتبة من القصص التساؤلية التي تحول مواضيع الذات الأنثوية إلى إشكاليات اجتماعية وإنسانية ووجودية وقيمية . 1 – حنان قروع: صرخات من دهاليز منسية، مجموعة قصصية، مطبعة الجسور، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2013م.