ترعرع ميمون في قرية من قرى الريف العميق، فبعد أن حفظ ما تيسّر من القرآن الكريم، وتعلّم أيضا القراءة والكتابة، انتقل الى المدينة للمزيد من التّحصيل، لكن شاءت الأقدار أن يقطع مسيرته الدّراسيّة ويرجع الى قريته، بعد أن توفّي والده، ليعيل أمّه، ويحلّ محلّ والده في العناية بالأبقار التي كانت مصدر رزقهم. وكان ميمون هو الولد الوحيد بين أخواته الثلاث اللّواتي كنّ قد تزوجّن، ورحلن مع أزواجهنّ إلى الخارج، إذ لم يهاجر ميمون بدوره، كما فعل العشرات من أقرانه، لأنه لم يهن عليه ترك أمّه لوحدها. وبعد سنوات عديدة، نجح ميمون في التّأقلم مع محيطه من جديد، فعندما ينهي عمله اليومي في الحقل ويعلف الأبقار، يتوجّه إلى مقهى القرية حيث يجتمع مع أصدقائه وجيرانه، يشربون الشّاي أو القهوة، وأحيانا كانوا يلعبون الورق للتّسليّة، ويتحدّثون كثيرا ممضين أوقاتا ممتعة إلى أن يحين موعد أذان المغرب، فيقوم ميمون بأداء الصّلاة في المسجد، ثم بعد ذلك يتوجّه إلى المنزل حيث تنتظره أمّه التي كانت تأوي إلى فراشها مباشرة بعد صلاة العشاء. وكان ميمون يخصّص لها الفترة الممتدّة بين المغرب والعشاء، حيث يتبادلان فيها الحديث، ويخبرها عن حال الأبقار والزّرع، وعن جديد أهالي القرية. كانت قريته منعزلة عن العالم، وتعيش بمنأى عن التّكنولوجيّات الحديثة، إذ لم تكن تتوفّر على تغطيّة للهواتف النقّالة، ولا على شبكة الانترنت، فكانت الحياة تمرّ ببطء دون أي مظهر من مظاهر التوتّر والقلق. وما كان يصل من جديد أهلهم الذين هاجروا نحو أوروبا، سوى تلك الرّسائل أو الأشرطة المسجلة التي كانوا يتبادلون إرسالها بينهم ، والتي كانوا يتوصّلون بها في دكاكين القرية. وفي حال ما إذا رغب أحدهم في الاتّصال هاتفيا بشخص خارج القرية، لأمر هام وطارئ ربما، كان عليه أن يلجأ إلى بريد المدينة، وغالبا ما كانت أثمنة المكالمات باهضة ودون أي معايير. وذات يوم وصلت شركة اتصالات معروفة، قام تقنيّوها بنصب أبراج البثّ هنا وهناك في أعالي القرية، إثر ذلك اقتنى الكثير من أهالي القرية، ومن بينهم ميمون، الهواتف العصرية واللوحات الإلكترونية، وانخرطوا في المواقع الاجتماعية، وبدؤوا شيئا فشيئا ينشغلون بها، وقد انبهروا بالقدرة الفائقة على التواصل مع أهاليهم خارج القرية؛ وبسرعة تداول الأخبار، التي تفيض عبر هذا النهر السريع الجريان، والذي يصبح فيه الجديد قديما في ظرف قصير من الزمن. وأصبحت المسرات والأحزان تذاع مباشرة عبر "الواتساب" و"الفيسبوك"، والمواقع الاجتماعية الأخرى. وبعد مدّة من الزّمن، كثر الشّجار والنّزاع بين أهالي القرية، إذ قلّ التواصل فيما بينهم، ولما كانت المكالمات وتبادل الرسائل عبر المواقع الاجتماعية مجّانية، أصبحوا يستهلكون أكثر فأكثر، دونما اكتراث بالمشاكل التي قد تنتج على ذلك، فكم من وجبة طعام احترقت، وكم من رسالة غير شرعية ضبطت متلبسة من طرف الزوجة. وأصبح ميمون متهاونا في عمله، ولاحظت أمه أنه لم يعد يحدّثها كثيرا، وكان دائما مشغولا بهاتفه العصري وبالرّسائل والمكالمات التي يتلقّاها من أصدقائه وأهله. حينها بدأت علامات الحزن والتوتر تظهر عليه، حيث كان يتلقى وابلاً من الأخبار السيّئة؛ فابن خالته في هولندا، والذي يعتبره أخا له، كتب له يخبره بمشاكله مع زوجته وبأنه عازم على الطلاق. كما أخبرته أخواته، كل واحدة من جهة، عن مشاكلها في الغربة ومع أزواجهن، وتلقى نبأ مرض عمته بمكناس، بالإضافة إلى أنه كان يستقبل عشرات الأدعية عبر الرسائل الهاتفية، وإن لم يلبِّ رغبة مرسلها ويرسلها لعشرين من أصدقائه ومعارفه، لأنه حتما كان سيقع في ورطة كبيرة إن لم يفعل ذلك حسب نص الرسالة. تأثر كثيرا بكل هذا الوضع الذي طرأ عليه، وقد غلبت الأحزان المسرّات، وأهمل عمله، فجفّ الحقل وهزلت الأبقار وحزنت الأم على حال ابنها، الذي أصبح مهووسا بهاتفه النقال، الذي لم يعد يفارقه أبدا. وذات صباح، توجه ميمون إلى الحظيرة، وكم كانت صدمته كبيرة عندما رأى بقرة من أبقاره، جاثمة لا تتنفس وقد تدلى لسانها خارج فمها. حزن كثيرا لما آل إليه وضعه، ولعن اليوم الذي اشترى فيه الهاتف العصري، فألقى به بعيدا بعد أن حطمه. وفي يوم السّوق الأسبوعي توجه إلى مركز القرية، ومر بدكان أحد أقربائه، الذي هو عنوانه البريدي، وتفاجأ عندما استلم صندوقا بريديا بعث به ابن خالته من هولندا. فتح ميمون الصندوق ووجد فيه لوحة الكترونية وهاتفا نقّالا عصريّين، ورسالة تقول: عزيزي ميمون، إليك هذه الهدية، اقبلها مني، واسبح في الأزرق كما شئت، ولكن احتفظ بملابسك جيدا، حتى لا تضيع أو تسرق منك. * أستاذ جامعي مغربيّ في إسبانيا