"في انتظار جودو'' مصطلح يُطلق كنايةً عن حالة انتظار مَن أو ما قد يأتي أو لا يأتي. والحال أن الانتظار في حد ذاته وقوع في هاوية الفراغ والقلق، هاوية يتفاوت عمقها حسب قيمة المنتَظر ومدَّة تأخره. لستُ أدري هل سبق لأحدٍ أن وصف الإنسان بالكائن المنتظِر، فالأكيد أن الانتظار قد رافقنا مُذْ كنّا. أما العبارة بذاتها، ''في انتظار جودو''، فهي عنوان لمسرحية تُعدُّ واحدة من أهم أعمال الكاتب الإيرلندي / الإنجليزي/ الفرنسي صمويل بيكيت، كتبها سنة 1948 وجعل منها إحدى أيقونات مسرح العبث أو اللامعقول. المسرحية تحكي قصة رجُلين، استراجون وفلاديمير، ينتظران شخصاً اسمه جودو، لا يعرفانه وليس معهما سوى معلومات مبعثرة ومشوشة حول هويته. ثم إنهما غير متأكدين من زمان الميعاد ولا مكانه ولا حتى ماهية الخدمة المنتظرة .(جاء في نص المسرحية، صلوات أو تعاويذ مبهمة). الدور الرئيسي الذي أوكله صمويل بيكيت إلى بَطَليْه هو الانتظار، انتظار المجهول الذي يعقدان عليه الأمل. وللتخفيف من آلام هذا الانتظار سيكون الحوار بين الصديقين. في الواقع ليس حواراً، بل حوارات لا تربط بينها رابطة، متخمة بالرموز والإيحاءات، تظللها روح تشاؤمية قلِقة بئيسة ومُغَلَّفة بأسلوب ساخر. أو ليس صمويل بيكيت من قال إن لا شيء يثير الضحك والسخرية أكثر من البؤس. وإمعاناً في العبث سيجعل بيكيت أحداث مسرحيته تدور في مكان يشبه اللاّمكان، حافة طريق جرداء عليها شجرة عارية سوى من بضع ورقات. -فلاديمير: إنك رجل غريب، تُحمِّل حذاءك أخطاء قدميك... … -استراجون: هل فقدنا حقوقنا؟ فلاديمير: لقد تخلينا عنها.. عيِّنة هي من حوار المنتظريْن… يتخاصم البطلان ويتصالحان، يتعانقان ويتدابران، يفكران في الانتحار ولا يقدران، يبحثان بكل الوسائل عن ملء الفراغ الذي ولّده طول الانتظار.. -فلاديمير: لنمض هذا الوقت في محاولة التحدث بهدوء طالما أننا عاجزان عن الْتزام الصمت... يُطَعِّم صمويل بيكيت مسرحيته بشخصيتيْن ثانويتين لكن مُغْرَقتين في الرمزية ، زوزو المتعجرف الذي يمسك بحبل ملفوف حول رقبة لاكي. ويبدو أن لاكي قد استمرأ حالة العبودية، وكأنه تنازل عن حريته بمَحْض إرادته. فبينما يداه مشغولتان بحمل أمتعة سيده، نجده سيأخذ السوط بين شفتيه وسيعطيه لجلاده حين يطلبه. وكما جل العبيد، لا يتحرك لاكي ''إلّا والعصا معه'' ولا يفكّر إلا بإذن من سيِّده. ولأنها مسرحية اللامعقول، فمن العبث انتظار نهاية لها... ويبدو أن استراجون وفلاديمير ما زالا ينتظران ... لستُ أبغي لبس قبعة الناقد المسرحي فذاك فنٌّ بيني وبينه الْبِيد، إنما هي وسوسة ولّدتْها حالة الانتظار والترقب التي نعيشها كمغاربة لمعرفة ملامح الحكومة المقبلة. وتتمادى الأفكار المشاغبة في سطوتها لتسائلني، ولكن مَهْلا، ألسنا ننتظر جودو منذ الاستقلال؟ فعلاً، فالمشهد السياسي لمغرب ما بعد الاستقلال لا يقل عبثية عن مسرحية بكيت، كما أن جودو الذي ننتظره ليس أكثر وضوحا من جودو المسرحية... حتما، كلنا، أو لِنَقُلْ جلُّنا، نريد الخلاص تماماً كاستراجون وفلاديمير، حتَّى إذا طرَقنا باب التفاصيل، أخذتْ ملامح جودو في التلاشي... الديمقراطية أولاً... لا، لا بأس من مستبد عادل المهم هو الخبز... الحرية... نعم لكن مع احترام التاريخ والجغرافية… مَلكية دستورية.. لا من الأفضل أن تكون برلمانية... أنا أريدها خلافة راشدة... تعريب ... لا فتلكم لغة متجاوزة... فرنسا... لا أمريكا... لنجرب روسيا... الأمن ثم الأمن.. لكن ليس لنا مثل ما لديكم من وسائل القمع وإلى الشارع المُشتكى... لعنة الله على من أيقظها من نومها.. وكما أبطال صمويل بيكيت، يتلاعن الفاعلون، يتآمرون، يتباكون ثم يتحالفون... وحتى لا يطول انتظارنا كما طال انتظارهم، ماذا لو تدبرنا صيحة فلادمير: لقد قضينا مساء أمس في الحديث عن شيء غير محدد… إن هذا يجري منذ نصف قرن..