من الذكريات الجميلة التي لا تزال عالقة بروحي منذ كنت طفلا، تطغى تلك المتعلقة بالمسيرة الخضراء، فلقد عشت تلك الأحداث بكامل تفاصيلها، وهي الأحداث التي تلت خطاب المغفور له الحسن الثاني داعيا إلى مسيرة سلمية لتحرير أراضينا الصحراوية، والتي لا تزال ذكراها حاضرة إلى يومنا هذا. فقد وحّدت تلكم المسيرة المغاربة ملكا وشعبا، وكانت بمثابة درس قوي للعالم أجمع. حينها كان عمري تسع سنوات، وأتذكر تسلسل الأحداث التي نقشت في ذاكرتي بكل تفاصيلها الوطنية والنبيلة. وإلى حدود هذه اللحظة، ما زال بدني يقشعر كلما أنصت إلى أغنية من تلك الأغنيات التي أنشدت بالمناسبة، كما أن كلماتها ظلت عالقة بذهني وأحفظ الكثير منها على ظهر قلب. تلك الأغاني صارت جزءا من ذاكرة المغاربة. كانت الأعلام المغربية ترفرف في كل مكان، والعالم مشدود الأنفاس، وكان نصرا للمغاربة على جميع الآماد، والتاريخ شاهد وسيشهد على ذلك. ففي تلك الفترة كنا، في المناطق المجاورة للحدود الجزائرية، نلتقط بث التلفزيون الجزائري. وكم أدهشنا كون جيراننا الجزائريين ينتقدون الحدث، فقد كان جلياً حينها أن ساستهم لم تبارك تلك الملحمة، وكان ذلك بمثابة إشارة لنا، ونحن أطفال لا نفقه كثيرا في الأمور السياسة بأن الجزائر لم تعد بالجارة الشقيقة. ومباشرة بعد المسيرة الخضراء، أتذكر أنه كيف انضمّت العديد من العائلات إلى أحيائنا بمدينة الناظور، بعد أن طردت ورُحِّلت قسرا من الجزائر (الحدث بات يعرف ب"المسيرة الكحلة"). وأذكر أن عددا كبيرا من هؤلاء سكنوا في البداية في مخيم أنشئ لهذا الغرض (ساحة مركز الشبيبة والرياضة)، لقد كانت محنة كبيرة عاشوها. ومع أن مستوى فهمي للعربية الدارجة حينذاك لم يكن عاليا، إلا أنني فهمت حينها من أطفال قدموا مع عائلاتهم إلى حينا أنهم طردوا من الجزائر وصودرت كل ممتلكاتهم، وأن البعض هجّروهم وهم مرضى طريحو الفراش، ولقوا حتفهم في الطريق لعدم تحملهم مشاق السفر الذي أجبروا عليه في ظروف غير إنسانية. وما زلت أتذكر أننا أطلقنا على أحد هؤلاء الأطفال لقب "غاية"، لأنه كلما سئل عن أحواله كان يجيب "غاية" (أي جيد بالدارجة الجزائرية). وتعين على هؤلاء المغاربة الذين طردوا من الجزائر أن يبدؤوا حياتهم من الصفر، إذ إن حكومة هواري بومدين آنذاك قامت بتجريدهم من كل ممتلكاتهم وحقوقهم. لقد كانت قلوب حكام الجزائر أقسى من الحجر، فشردوا وسلبوا أموال 350.000 مغربي، وهو العدد نفسه الذي شارك في المسيرة الخضراء. لم يقدر عامل الدين أو عامل اللغة أو عامل القرب الجغرافي على تليين قلوب ساسة الجزائر، وعلى رأسهم هواري بومدين الذي كان يكن بغضا مرضيا للمغرب بالرغم من الخدمات الكبيرة التي أسداها المغاربة له وللجزائر، أيام ثورتهم التحريرية. وبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على تلك الأحداث، زرت الجزائر في إطار أكاديمي. وكانت وهران من بين المحطات التي نزلت بها، حيث اصطحبني المرافقون إلى ضواحيها، ومررنا بالضيعات التي كانت في ملكية المغاربة قبل طردهم. وحكى لي أحد مرافقي بأن المنطقة كانت خضراء وخصبة، وكانت توجد بها عين يسقى بها، لكن أصبحت المزارع مهجورة وقاحلة وجفت العين بعد الطرد التعسفي للمغاربة. وفي السنة الماضية، وبعد مرور أربعين سنة على حدث تنظيم المسيرة الخضراء، كان لي عظيم الشرف بحضور الاحتفالات التي أقيمت بالمناسبة في مدينة العيون، حيث التقيت هناك بعدة فنانين كانوا قد شاركوا في المسيرة الخضراء بإبداعاتهم الفنية. وكان إعجابي كبيرا بالفنان المبدع والملحن الكبير، السيد عبد الله عصامي، صاحب لحن الأغنية الخالدة "نداء الحسن"، الذي أحببت كثيرا تواضعه وإنسانيته، وحبه الكبير للوطن. ولم تكن هي أول زيارة لي لمدينة العيون، بل سبق لي أن زرتها سنة 2010، وقد عاينت بنفسي التطور العمراني والاجتماعي الذي عرفته المنطقة. واليوم، وقد مرت 41 سنة على انطلاق الميسرة الخضراء، ولا أعتقد أن المهمة التي نظمت من أجلها قد انتهت، بل إن فلسفتها لا تزال قائمة ولا بد أن تستمر خضراء مسالمة تحقق أهدافها بتفكير جماعي، في إطار دستور المملكة المغربية الشريفة، وفي إطار دولة الحق والقانون. ثم إن علينا أن نعي جيدا بأن الخطى الجدية نحو نمائنا وتطورنا هي التي ستتضع الحكام "العسكر" في الجزائر في مأزق، وأنا واثق أن تعزيز ودعم المسيرة الديمقراطية في المغرب يعدّ أقوى وأجدى سلاح لمواجهة جيراننا الجزائريين الذين يبذلون كل ما أوتي لهم لمعاكسة المصالح المغربية. عاش المغرب، وعاشت روح المسيرة الخضراء.