المتتبع للمشهد الحزبي المغربي يتبدى له أن حصول حزب العدالة والتنمية على المرتبة الأولى (لا أقول فاز) مرده إلى عوامل ذاتية وموضوعية. سأتطرق من خلال هذا المقال إلى العوامل الذاتية التي تتعلق حصريا بالعدالة والتنمية، والعوامل الموضوعية التي تهم المشهد السياسي المغربي والمحيط الخارجي. كما أنني سأفكك الخطاب الحزبي. بالرغم من إقدام العدالة والتنمية على قرارات لا شعبية ميزت ولايته الأخيرة (التقاعد، رفع الدعم عن المواد الأساسية، الزيادة في الضرائب، الأسعار،" تحرير المحروقات" ....) نجح الحزب عبر خطابه في استمالة المتلقي عبر إتقان فن المظلومية (وزير العدل صرح في تدوينة نشرها على صفحته بالفايسبوك بأنه لم يتم إخباره بسير الانتخابات)، بكائية بنكيران، رفع شعار التحكم، وجود حكومتين أو دولتين (دولة عميقة)، مقالات عبد العالي حامي الدين بجريدة القدس العربي، التشكيك في مؤسسات الدولة، استباق العدالة والتنمية للنتائج قبل الإعلان الرسمي. كما أن تصدر العدالة والتنمية للانتخابات مرده أن له كتلة ناخبة وفية، لأنه تغلغل في الأوساط الشعبية عبر صنع مجتمع مدني، حركة أمازيغية، حركة نسائية، حركة حقوقية وحركة نقابية (الاتحاد الوطني للشغل). العدالة والتنمية فهم أن السياسة مثلها مثل مقابلة في كرة القدم. لعب ونهج خطة محكمة وانتصر على الخصم الذي لعب بخشونة وكسر أرجله. العدالة استفاد من تجربة الاتحاد الاشتراكي وحافظ على مسافة بينه وبين السلطة. أما العامل الموضوعي المتعلق بالمشهد السياسي المغربي فيتمثل في طبيعة الأحزاب المغربية. يتعلق الأمر بسلوك الأحزاب أو ما يسمى التحالفات: تحالف الاتحاد الاشتراكي مع الأصالة والمعاصرة، الزواج الكاثوليكي بين التقدم والاشتراكية والعدالة والتنمية الذي كان يتهمه بالظلامية، حزب الاستقلال ما بين الحكومة والمعارضة. العلاقة بين الأحزاب المغربية تكتسي طابع اللاصداقة واللاعداوة. الصراعات الداخلية داخل الأحزاب التي تؤدي إلى انشقاقات: تيار "لا هوادة" داخل حزب الاستقلال، تيار الحركة التصحيحية داخل الحركة الشعبية، وتيار المرحوم أحمد الزيدي داخل الاتحاد الاشتراكي، الانشقاق سببه الكولسة الحزبية وغياب الديمقراطية الداخلية، الشرخ بين القيادات والقواعد. هذه السلوكيات تجد معارضة من داخل الأحزاب. أما العامل الموضوعي الخارجي فيتمثل في المؤسسات المالية، فهي تفضّل العدالة والتنمية الذي غيّر منهجه. فبعدما كان حزب "المصباح" يطالب باحترام الخصوصية والقيم، قدّم تنازلات ودخل في اللعبة السياسية، فأصبح يركز كل اهتماماته على التوازنات المالية ولا يهتم بالملفات الاجتماعية (ثالوث الصحة والتعليم والشغل). أصبح الحزب الإسلامي يطبق كل تعليمات هذه المؤسسات، والدليل هو أن الحكومات السابقة لم تطبق تطبيقا حرفيا إملاءات المؤسسات المالية. هل استفاد من حزب النهضة التونسي الذي قال بفصل الدعوي عن السياسي؟ هل هذا التغيير يندرج ضمن منطق الربح والخسارة؟ هل هو تكتيك مؤقت؟ هل هو ثابت أم متحول؟ الولاياتالمتحدة (التي تتدخل في شؤون الدول باسم الديمقراطية والحرية) طالبت بترشيح إسلاميين. كما أن فرنسا وإسبانيا تفضلان العدالة والتنمية على الأحزاب الوطنية. كيف ذلك؟ الدعم السياسي الذي قدّمه التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي اجتمع سرا بتركيا. الأمين بوخبزة، المنشق عن العدالة والتنمية والذي يعرفه جيدا، أكد أن الحزب يتلقى دعما ماليا من جهات أجنبية. أول من هنأ العدالة والتنمية هو يوسف القرضاوي. العدالة والتنمية لا يؤثر على السياسة الخارجية (موضوع السياسة الخارجية غاب عن "برامج" الأحزاب). إذا كانت الأحزاب التاريخية تقف الند للند مع فرنسا وإسبانيا فيما يخص قضايا وطنية. حزب الاستقلال مواقفه واضحة من عدة قضايا كالتعليم واللغة العربية والاستعمار المتجدد.... كما أن إسبانيا تعرف موقف الحزب من سبتة ومليلية. أما العدالة والتنمية فلا وجود لسياسة خارجية لديه. قبل بما يسمى بالباكالوريا الفرنسية وما يسمى بالإصلاح البيداغوجي للتربية الإسلامية بذريعة محاربة التطرف والإرهاب. لا توجد علاقة مباشرة بين التعليم والإرهاب، قد تتم بتضافر عوامل أخرى من بينها الفراغ الإيديولوجي والعوامل الخارجية. فلماذا لم يكن هناك إرهاب أو تطرف في السبعينيات والثمانينيات؟ إصلاح المناهج البيداغوجية يطبخ خارج المغرب، لأنه يشمل كل الدول العربية. ففي الأردن مثلا تم حذف "كان يحفظ القرآن" من مقرر ابن بطوطة. فليس المقصود هو الإصلاح بل هناك أبعاد أخرى. قبل تفكيك خطاب الأحزاب، لا بد من الإشارة إلى أن مصطلح خطاب أصبح له في الفكر المعاصر معنى يختلف إلى حد كبير عن معناه القديم، فالخطاب القديم مجرد قول أو تقرير، أما الخطاب الذي أصبح مصطلحا في الفكر المعاصر، فهو القول الذي يقصد به المرسِل التأثير والتغيير. هكذا، لم يعد الخطاب محصورا في تراكيب أو كلمات مكتوبة أو ملفوظة تقدم معان حرفية ودلالات مباشرة، وإنما يتجاوزها إلى إشارات وعلامات (signes) ودلالات وإيحاءات اجتماعية وسياسية. الخطاب الذي يعبّر عن مفاهيم التي تعبر عن تصورات وأفكار. "المفاهيم، كما يرى المفكر عبدالله العروي، لا تترجم إلى الواقع الاجتماعي إلا إذا تم التعبير عنها بطرق مستساغة لدى الجميع" (مفهوم الحرية). فالخطاب السياسي الذي يعتني بالفكرة أكثر من عنايته بالألفاظ نوعان: خطاب الكلمات وخطاب البنية؛ فخطاب الكلمات هو استخدام اللغة المشتركة بين المرسِل والمرسَل إليه (المتلقي)، على المرسِل أن يوضح رسالته وأن يتناسب الموضوع مع المرسَل إليه حتى تتحقق وظيفة التواصل للتي تكمن في التأثير والإقناع. أما خطاب البنية فهو الصيغة اللغوية التي يستخدمها المرسِل (الباعث)، حيث لا يشكل الوضوح الهدف الأساسي للخطاب، بل يسعى إلى تعميم وتضبيب الرسالة عن طريق خلق الصيغ اللغوية المضادة والملتبسة من أجل قطع الطريق على الجدل والعقل والمنطق. هدفه الأساسي ليس الحوار وإنما الانصياع (راجع الدكتور محمد عكاشة: خطاب السلطة الإعلامي). وما علاقة السياسة بالكذب؟ جاك دريدا كشف الروابط الصلبة بين السياسة والكذب والوهم عندما حاول تفكيكه لمفهوم الكذب (راجع تاريخ الكذب، ترجمة رشيد بازي). فالسياسة مرتبطة بالعبث والرغبة والعنف والمكر والوعد كما فعل "سياسي" أردني ركز في "برنامجه" على استرجاع الأندلس !!!. ففي تحليلنا لخطاب الأحزاب (علاقة الخطاب بالمتلقي)، نجد أن حزب العدالة والتنمية حزب جد منظم، يتقن فن التواصل (للتواصل خمسة أركان كما يرى ياكبسون (أحد الشكلانيين الروس الذين غيّروا مفهوم الأدب): المرسِل، المرسَل إليه أو المتلقي، الرسالة، الشفرة (code) و(السياق). فقد تبنى التبسيط في خطابه كمنهجية للتواصل (دارجة وشعبوية بنكيران) عكس أغلب الأحزاب التي تتبنى لغة إنشائية أو لغة الخشب. فالخطاب يلعب على أوتار حساسة. حزب يتواصل طوال السنة عكس الأحزاب الأخرى التي لا تظهر إلا في المناسبات الانتخابية. باستثناء الأصالة والمعاصرة الذي ركز في خطابه على الجانب الاجتماعي. أقصد أنه شن حملة عنيفة على الحصيلة: صندوق المقاصة، التقاعد. وجد تجاوبا مع الشارع. بالإضافة إلى أنه تخلى عن اليسار والتجأ إلى الأعيان. كما أنه استهدف العالم القروي لأن الناخب القروي قابل للتفاوض. الخطاب السياسي للأحزاب المغربية التي لا إرادة سياسية ثاقبة لها أسهم في احتلال العدالة والتنمية للمرتبة الأولى. كيف ذلك؟ إلياس العماري ارتكب خطأ فادحا مباشرة بعد انتخابه أمينا عاما للحزب عندما قال إنه سيحارب الإسلاميين. كنت أتمنى أن يقول جئت لمحاربة الفقر والتخلف والفساد والهشاشة والفساد السياسي (سأتناول الفساد بالتفصيل لاحقا)... إدريس لشكر طالب عدة مرات بمراجعة الأحكام المتعلقة بالإرث. مظاهرة 18 شتنبر بالدار البيضاء التي رفعت شعار "لا لأسلمة الدولة" و"لا للتكفير"، شيطنة العدالة والتنمية. "الديمقراطيون" الذين طالبوا عبر بيان عدم التصويت لابن تيمية بل للديمقراطيين. تحليل خطاب هذه الأحزاب يبين لنا بالملموس أنها مسؤولة عن تقهقرها: لقد ركزت في خطابها على الصراعات الشخصية وخطاب السب والشتم الذي لم يكن موجودا في السبعينيات والثمانينيات، ونست تفكيك الحصيلة كما فعل البام. حزب الاستقلال لم يوظف ذاكرته، تاريخه ومرجعيته: موقفه من اللغة العربية ومن الفرنكفونية، موقفه من الأسرة، موقفه من التعادلية، موقفه من الاستعمار المتجدد، موقفه من إيديولوجية الاستلاب والاستغراب. موقفه من الصحراء الشرقية التي أجرت بها فرنسا تجارب نووية. فهل كل الاستقلاليين بصفة عامة والشبان بصفة خاصة الذين استفادوا من الريع على علم ب"النقد الذاتي" و"مقاصد الشريعة" لعلال الفاسي؟ أما الحزبان " اليساريان " الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية أصبحا يتميزان بتحييد الخطاب الإيديولوجي عن الخطاب السياسي. لم يقترحا في "برنامجهما" "تدخل الدولة" في مواجهة الخصخصة أو الليبرالية المتوحشة التي تبناها العدالة والتنمية. (تذكرت موضوع "تدخل الدولة" لما كنت طالبا بباريس، ولاحظت أن من بين أسباب فوز جاك شيراك في الانتخابات أنه أشار في برنامجه الانتخابي إلى تدخل الدولة في الاقتصاد). كما أنهما يتميزان بالانحراف وحرفا الاشتراكية لأنه لا توجد إلا اشتراكية واحدة: الاشتراكية العلمية. ما موقفهما من الملكية الفردية؟ كما أنهما لم يحافظا على مسافة مع السلطة عكس العدالة والتنمية. "الديمقراطية الاجتماعية" (la sociodémocratie) التي نظر لها الراحل الوزير الفرنسي الأول ميشال روكار غير واردة في "برامجهما". الخطاب المضاد للعدالة والتنمية أعطى نتائج عكسية جعل هذا الأخير يحتل المرتبة الأولى. فلا وجود لبديل سياسي في الوقت الراهن لأن الأحزاب الأخرى تعتمد على وجوه لا مصداقية لها. إن نظرة سريعة على خطابات غالبية النخبة السياسية الحاكمة أو المعارضة تشير إلى أنهم يفكرون ويتحدثون بلغة يمكن أن نطلق عليها لغة خشبية وقديمة وخاوية وإنشائية. من هنا، تبدو خطاباتهم في مجالات متعددة تتسم بالارتباك والعمومية المفرطة التي تصلح لكل شيء ولا تصلح لشيء، ناهيك عن ركاكة لغة الخطابات وفقدانها لبنية تسوغها، أو ملكة تحليلية للموضوع أو المشكلة أو الأزمة أو الإشكالية التي يدور حولها الخطاب، ناهيك عن استخدام بعضهم اللغة العامية المرتبكة التي تنطوي على عدم تماسك منطقي (عبد الإله بنكيران)، وتناقضات هذه الظاهرة ليست جديدة وترتبط بنمط تجنيد النخبة السياسية لأعضائها. لذا، وجب علينا أن نعمل على تجديد الخطاب السياسي؛ لأنه يبقى مفتوح يستجيب للتحديث والتجديد من مختلف الأطراف الفكرية. بما أن العامل الاقتصادي مهم ومحدد، فالدولة والمؤسسات المالية (صندوق النقد الدولي) في حاجة إلى العدالة والتنمية لتمرير إجراءات أو ما يسمى بالإصلاح. لقد عبر بنكيران أثناء الحملة الانتخابية أنه سيقوم بإصلاح "البوطا"، وطالب الدولة برفع يدها عن التعليم والصحة. بدأنا نلاحظ النتائج. بعض المؤسسات التعليمية أغلقت أبوابها. الحكومات السابقة لم تجرؤ على تمرير هذه الإجراءات ولم تمس دعم المواد الأساسية (صندوق المقاصة)، الزيادة في الأسعار.... لقد تعاملت الدولة بعقلانية مع النتائج وكانت براكماتيكية (نفعية) . كما أن العدالة والتنمية يستطيع أن يسهم في تثبيت الاستقرار وسحب البساط من تحت أقدام التطرف. الدولة لا تجد أي حرج في وجود العدالة والتنمية لإتمام ما باشره من إجهاز على مكتسبات المغاربة لكي يحرق كل أوراقه. كما أن الدولة لا يمكن لها أن تدخل في صراع مرير مع العدالة والتنمية المبارك له إقليميا ودوليا. هل العدالة والتنمية بتطبيقه الحرفي لإملاءات المؤسسات المالية الأجنبية وإهمال الملفات الاجتماعية يعني أنها أقل وطنية؟ الأستاذ والمفكر المغربي عبد الله العروي يرى، من خلال كتاباته الفكرية والإيديولوجية والتنظيرية وحتى التخييلية (إدريس بشعوره الوطني كان يحلم بصورة معينة لمغرب ما بعد الاستقلال. تجرع مرارة الخيبة بعدما اصطدم حلمه في مغرب مستقل/ رواية أوراق)، أن الطبقة السياسية الحالية أقل وطنية من نظيرتها السابقة. أقل وطنية لا يقصد بها العمالة لجهات أجنبية أو الخيانة بل خيانة قيم المساواة وقيم العدالة تجاه الشعب المغربي وقيم الصراحة مع السلطة كما فعلت الطبقة السياسية الماضية التي لم تكن تعارض من أجل المعارضة بل دفاعا عنى القضايا الوطنية والسياسية الخارجية (موقف امحمد بوستة من إدريس البصري منتصف التسعينيات، موقف عبد الرحيم بوعبيد من إجراء استفتاء حول الصحراء الذي أدى به إلى السجن (السياسة في السبعينيات كانت تقود إلى السجن، أما الآن فتعبد الطريق إلى الاستوزار). لقد كانوا زعماء سياسيين، أما الحاليون باستثناء قلة ليسوا زعماء بل "مسيرو" أحزاب. ما يعاب على الأحزاب المغربية التي لا مشروع لها هو أن العقل السياسي المغربي يكتفي بالمزايدات من أجل التموقع من جهة، ومن جهة أخرى العمل على استقطاب أصوات (gagner du terrain). هؤلاء المسيرون هل يقودون المغرب إلى الانتماء إلى الدول الفاشلة؟ يرى نعوم تشومسكي في كتابه "الدول الفاشلة" أن "الخصائص الأولية للدول الفاشلة هي عدم القدرة على حماية أو عدم الرغبة في الدفاع عن مواطنيها". فما هو السيناريو المقبل؟ أعتقد أن العدالة والتنمية سيستمر في إجراءاته التقشفية والهجوم على القدرة الشرائية للمواطنين. سيواجه السيد بنكيران تحديات كبيرة في الأشهر المقبلة، في وضع برامج لمحاربة الفقر والبطالة وتحديث القطاع الصحي، تحقق التنمية الاقتصادية، وتوفر فرص شغل، وترفع مستويات المعيشة للفقراء المعدمين، خاصة أن إنجازات بنكيران في المجال الاقتصادي إبان النسخة الحكومية الأولى عرضته لهجومات عنيفة من بينها معدل النمو الذي لم يتجاوز 3.7 في المائة. ومن جهة أخرى، فإن معدل الدين العام يكشف عن أرقام مقلقة، حجم المديونية يعادل 80 في المائة من الناتج الداخلي الخام. هذا يعني أن السنوات الخمس المقبلة تتطلب خيارا آخر لمواجهة منطق الانخراط في دوامة الدين بالإضافة إلى إصلاح النظام الضريبي الذي لم تجرؤ عليه حكومة عبد الإله بنكيران. أعتقد أن عبدالإله بنكيران سيواجه في ظل هذه التحديات معارضة شرسة ليس من قبل الأحزاب التي هرمت، وليس من قبل النقابات (نعرف جيدا كيف تم تمرير ما يسمى إصلاح التقاعد، كيف كان التصويت والامتناع عن التصويت، وماذا قال مدير ديوان بنكيران عن موقف النقابات من التقاعد)، بل من قبل الأصالة والمعاصرة الذي تأسس لخلق توازن مع العدالة والتنمية، ومن قبل الشارع السياسي المتمثل في مواجهة العطالة والتقاعد. هنا ستواجه بمعارضة شرسة ليس من قبل الأصالة والمعاصرة فقط الذي ينتظر حرق العدالة والتنمية لكل أوراقه. فهو البديل للعدالة والتنمية، ويبقى ورقة لا يجب إحراقها في هذه المرحلة. ولد ولادة قيصرية وتأسس لهدفين اثنين فقط. الهدف الأول هو تحييد الخطاب الديني (تصريح العماري بعد انتخابه أمينا عاما للحزب: جئت لمحاربة الإسلاميين)، والثاني هو خلق توازن سياسي مع العدالة والتنمية الذي هو بدوره تأسس سنة 1996 لخلق توازن مع الاتحاد الاشتراكي. (العدالة والتنمية أضعف الاتحاد الاشتراكي فهل الأصالة والمعاصرة سيضعف العدالة والتنمية؟). الدولة (العميقة) لا تسمح أبدا بوجود حزب قوي، بل تعمل على خلق توازن سياسي بين الأحزاب. الدليل هو أنها هي التي تحتكر الملفات الإستراتيجية. المعارضة ستكون من طرف الشارع السياسي الذي قاطع الانتخابات (لا أتفق مع من يقول بوجود عزوف سياسي بل عزوف عن الأحزاب. المغاربة يمارسون السياسة يوميا. الحزب ليس هو الأداة الوحيدة للعمل السياسي، بل السياسة تمارس بدون حزب (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وفصائله)، الوقفات الاحتجاجية، تنسيقية محاربة خطة التقاعد التي كانت تحتج أثناء الحملة الانتخابية، وسائل التواصل الاجتماعي التي تناقش من خلالها موضوعات سياسية...). لأن المقاطعة موقف سياسي. فبالرغم من الحملة التي طالبت من خلالها الدولة عبر الإعلام المواطنين بالتصويت، وبالرغم من الحملة الحزبية، وبالرغم من خطب المساجد يوم الجمعة التي صادفت يوم الانتخابات، فإن المغاربة قاطعوا الانتخابات لأنهم لا يتقون في الأحزاب. كما أن المقاطعة دعا إليها كل من العدل والإحسان والنهج الديمقراطي. هذا الأخير قام بحملة وزع من خلالها منشورات تطالب بمقاطعة الانتخابات. أسباب المقاطعة هي الفساد الانتخابي، وهشاشة التمثيل وصورية البرامج. ما يسمى برنامج أعتبره مزايدات بين الأحزاب. تبين هذا الأمر بالملموس أثناء اللقاءات التشاورية المتعلقة بتشكيل الحكومة، حيث أكد حزب على لسان أحد أعضائه أن المهم هو "الخريطة السياسية"، أما "البرامج" فأصبحت في خبر كان. ما هو الفراغ الذي ستتركه المقاطعة؟ هل هو الفراغ السياسي؟ وما هي نتائج هذا الفراغ؟ هل هو زعزعة الأمن والاستقرار؟ أعتقد من قاطع الانتخابات هم المثقفون (المثقف بالمعنى الكرامشي) والموظفون الذين سيتضررون من التقاعد. هؤلاء يمثلون الطبقة الوسطى التي تعمل على الاستقرار وتماسك المجتمع. فالاستقرار هو أساس التنمية والنمو، وهو يعكس كذلك مقدار الرضا عن النظام السياسي. ولقد أفاض علماء السياسة (علم السياسة بالمعنى النبيل للكلمة وليس السياسة السياسوية) في شرح أسس وقواعد الاستقرار السياسي، حيث هناك قواعد عديدة تمثل أسسا ثابتة لإقامة الاستقرار السياسي؛ ولكنني أكتفي هنا بتحديد أهم قواعدها: القاعدة الأولى تتمثل في وجود طبقة متوسطة فاعلة في النظام السياسي. أرسطو تطرق، في كتابه القوانين، إلى أهمية ودور ووزن الطبقة المتوسطة في صيانة الاستقرار السياسي؛ فالطبقة المتوسطة واسعة بصورة أكبر من غيرها، ولها مصلحة في استمرار وديمومة النظام السياسي، كما ترتبط مصالحها كذلك بمستقبله. ومن ثم، فهي تساعد في بنائه وحمايته والحفاظ عليه، ولا شك في أن الاستقرار الملحوظ في الدول المتقدمة يعود في جزء كبير منه إلى اتساع وانتشار هذه الطبقة. كما أن مظاهر عدم الاستقرار في الدول الأخرى يمكن إرجاعها إلى تآكل حجم الطبقة المتوسطة. وتتمثل القاعدة الثانية في حتمية مكافحة الفساد، سواء كان ماليًا أو سياسيًا، وهناك فارق كبير بين الفساد وتوزيع الغنائم السياسية؛ يقوم المنتخب بتوزيع بعض المناصب على المناصرين (الحزبية) له في الحملة الانتخابية، وذلك بتعيينهم في وظائف. أما الفساد فهو يعني ببساطة تحويل المنافع العامة إلى مصالح شخصية. ففي دراسة مهمة عن الفساد السياسي في برلمانات العالم، تبين أن عددا كبيرا من أعضاء البرلمانات في الدول النامية، عكس الدول المتقدمة، يدخلون إلى البرلمان وهم فقراء أو ينتمون إلى الطبقة المتوسطة ثم يتحولون بطريق الفساد المالي فور خروجهم من البرلمان إلى أغنياء. وهكذا، يمكن أن تتحول السلطة إلى مصدر للثراء. ولعل أخطر مظاهر الفساد أيضا هو التزاوج بين السلطة والثراء بما يؤدى إلى انحياز المؤسسات السياسية إلى أصحاب المال. إن انتشار الفساد يؤدى إلى خلل جسيم في النظام السياسي ووظائفه وإلى تنامي عدم الثقة لدى المواطنين في كفاءته وحياده؛ وهو ما يؤدى في المدى الطويل إلى عدم استقراره. الأصالة والمعاصرة تبنى خطابا يتميز بالتناقضات بين الحداثة والأعيان. يجب إزاحة الخلط الموجود بين الحداثة والتحديث. الحداثة لا تعني التحديث، فهي إطار جديد لمفاهيم قديمة هي العلمانية والليبيرالية والفردانية (l'individualisme)والديمقراطية والعقلانية (العقلانية ثلاثة أنواع، سأتطرق إليها لاحقا). لقد سبق لإلياس العماري أن صرح لقناة العربية بأنه علماني. فأي علمانية يقصد؟ على القارئ الكريم أن يعلم أنه لا توجد علمانية واحدة، ففي علاقة الدولة بالدين نجد ثلاثة نماذج: النموذج الأول هو معاداة الدولة للدين، إنها العلمانية المتطرفة التي تقصي الدين من الحياة الاجتماعية والسياسية (فرنسا حيث سادت الصيغة اليعقوبية ( les Jacobins) للتنوير، تركيا الكمالية قبل العدالة والتنمية)؛ النموذج الثاني هيمنة الدولة على الدين (إيران)؛ النموذج الثالث تناغم (harmonisation) الدولة مع الدين (إنكلترا). تناقض الأصالة والمعاصرة يكمن أيضا في تبني العلمانية واستشهاد العماري بالقرآن، حين طالب بالمصالحة التي سماها تاريخية. فماذا يقصد بالمصالحة؟ إن كان يقصد بها تذويب الخلافات السياسية فهذا خطأ شنيع، لأن الأصل في السياسة هو الاختلاف. فصل الدولة عن الدين طرح عقيم أو موضوع مزيف (un faux débat) لن يؤدي إلى أي نتيجة. العلمانية ظهرت كرد فعل عن الكنيسة التي هيمنت في أوروبا وقمعت العقل الأوروبي فتخلفت أوروبا؛ لكن الفترة التي ظهرت فيها الرسالة النبوية عرفت نهضة اتسمت بالتفاعل مع حضارات أخرى سبقتها، والاجتهاد والتأويل. لقد سبق لجريدة "اليوم السابع" الفلسطينية (لا أتذكر السنة) أن نظمت حوارا فكريا جمع مفكرين عربيين هما المصري حسن حنفي (درّس بكلية الآداب بفاس بداية الثمانينيات) والمغربي الراحل محمد عابد الجابري. هذا الأخير قال إن العلمانية هي فصل الكنيسة عن الدولة وليس الدين عن الدولة، وبما أنه لا وجود للكنيسة في الإسلام فلا وجود للعلمانية في الإسلام. هل الغرب تقدم لأنه فصل الدين عن الدولة أم لأنه تبنى البحث العلمي؟ خلاصنا لا يكمن في فصل الدين عن الدولة كما يرى المسمون حداثيون، بل التفرغ لما هو أهم: البحث العلمي. العقل السياسي المغربي يعيش أزمة فكر لأن علاقته بالدولة يكتنفها التباس، ليس لديه أي طلب اجتماعي لقيام الدولة بوصفها مؤسسات تطبق القوانين. لا يسائلون السلطة، لا يكشفون أخطاءها أو تعسفها أو قصورها، ولا ينتقدونها، لا يخاطبون المجتمع، (يجب التمييز بين الدولة والسلطة: الدولة جهاز مستقل يتسم بالديمومة، أما السلطة فمنحازة ومتداولة). العقل السياسي المغربي يعيش صراع بين تطرفين: التطرف الوضعي المتمثل في الحداثة التي تبالغ في تقديس العقل وتمجيد المركزية الإنسانية وبين تطرف الأصولية الدينية التي تنفي الحضور الإنساني كطريق لاستعادة الوجود الإلهي، وهكذا تختل العلاقة التوازنية بين المقدس والدنيوي. السؤال الفلسفي دار حول المعرفة، حدودها ومصادرها: أهو النقل فقط حيث الكتب المقدسة هي نقطة الانطلاق الأساسية؟ أم هو العقل المصدر الأساسي للمعرفة بحسب فلسفات الحداثة؟ وقد نجد السؤال حول قدرته على المعرفة، وهل هي مطلقة أم نسبية؟. فهل تنبع المعرفة منه، فيكون هو المبدأ والغاية؟ هنا سنجد أنفسنا أمام "عقلانية مثالية" لا تكترث بالواقع التجريبي كما كان الأمر في بداية الفكر الحديث لدى ديكارت، ونجد أنفسنا أمام "عقلانية مادية" (وضعية متطرفة) التي لا تعترف إلا بما تلتقطه الحواس مباشرة من ماهيات وأشياء، ولا تثمن سوى الاستقراء التجريبي المباشر، وتدير ظهرها لكل المقولات والمبادئ التي تعلو على عالم الأشياء، ولا تتجسد في أشكال واقعية، ما يعني تجاهل مبادئ العقل الكلية نفسها، ونجد أنفسنا أمام "عقلانية نقدية" تتوسط المثالية من ناحية، والمادية من ناحية أخرى، تعول على الاستدلال المنطقي والاستقراء التجريبي معا، وتوفق بين منطق العقل ومنطق الروح. هنا تبرز أهمية الفلسفة النقدية ومؤسسها كانط الذي أكد على ضرورة فحص (العقل الإنساني) نفسه باعتباره الأداة التي يقوم الإنسان من خلالها بتحصيل المعرفة، للتأكد من كونه صالحا لمهمته أم لا؛ فالأداة إذا لم تكن صالحة للقيام بدورها، فإن مجهودنا كله سوف يضيع. هنا يتعين على العقل الإنساني أن يرتد إلى نفسه، كي يفحصها قبل أن يتورط في فحص العالم. هنا توصل كانط إلى فهمه النقدي المؤسس، وهو أن العقل الإنساني قادر على المعرفة، ولكن صلاحيته غير مطلقة، وقدرته ليست كاملة، بل محصورة في نطاق عالم الظواهر والوقائع، فإذا ما تجاوز هذا العالم إلى ما فوقه، والطبيعة إلى ما بعدها، حيث قضايا الألوهية والخلود والحرية، فإنه يتناقض مع قدراته أما ميشيل فوكو فينطلق من نص "ما الأنوار؟" لمراجعة نقدية لنص يحمل العنوان نفسه لكانط، فيتوقف أمام مسألتين: العقل والحداثة. وماذا عن الحداثة؟ هل هي تتمة تطوري ل"الأنوار"، أم قطيعة معها أم انحراف عنها؟ فوكو يرى أنها "موقف" وليست" مرحلة من التاريخ"؛ غير أنه لا يكتفي بتبين "تاريخية" الحداثة، بل يدعو إلى إجراء تحقيقات تاريخية يتم فيها نقد عقل "الأنوار"، أي تبين حدوده وشروط إنتاجه التاريخية. وهو ما يسميه النقد الأنطولوجي التاريخي للذات الأوروبية. أي أنه ينفصل تماما عن الدعاوى والكتابات التاريخية التي جعلت من "العقل" و"الحداثة" عقيدة جديدة، أي متعالية وما ورائية مدنية بعد المرحلة الدينية، ليخضعها بدورها للنقد التاريخي، مبينا حدودها نفسها. نجد في السياق الغربي فائض عقلانية حفز نوعا من الغرور الوضعي المتعالي على الإيمان، حيث تجاذبت مقولتان أساسيتان حول مستقبل الدين: الأولى هي مقولة نهاية الدين، التي مثلت حد الادعاء الأقصى للنقد التنويري المادي والتي تعايشت بعد طول صراع مع علمنة السياسة. أما الثانية فهي خصخصة الدين التي تعكس تجسد منطق مجتمعات الما بعد الصناعة، الحداثة...إلخ، وتفضي ذروتها إلى علمنة الوجود. إن الصراع بين تطرف طرفي "الحداثة" و"الأصولية" قد يؤدي إلى تفجير هذا الوطن. على المتشبعين بهذين الفكرين أن يعيدا النظر في تصوراتهم وقناعاتهم من أجل المصالحة الحقيقية: مصلحة الوطن فوق كل اعتبار (ليست المصالحة التي دعا إليها إلياس العماري). أعتقد أن العدالة والتنمية ليس محصنا من داخله ضد تأثيرات تجارب الحكم وقوانينه. دراسة التاريخ مهمة لأنه علمنا أن العدالة والتنمية مثله مثل أي حركة أو تيار أو حركة محكومون جميعا بالقوانين الطبيعية والسنن الإلهية إذا لم ينجح في إدارة الحكم سيسقط (لست منجما). هكذا، يتبين أن العدالة والتنمية الذي يقال إنه يستغل الدين أو مرجعيته إسلامية لم يفز بالانتخابات، بل الفائز الأول هو البراكماتكية (النفعية) (pragmatisme) ؛ فهي مذهب فلسفي نظّر له الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس، حيث أكد أن الدين إذا كان يحقق السكينة والطمأنينة والسعادة فهو مرحب به. *أستاذ جامعي بكلية متعددة التخصصات – أسفي [email protected]