أسدل الستار على الانتخابات الجماعية فوجب التعليق البنّاء من باب المواطنة. الانتخابات الجماعية مرت في أجواء سليمة على العموم مع بعض الحوادث المعزولة العادية تماما. فلقد كانت انتخابات ديمقراطية. ولكن بما أنها ليست أول تجربة انتخابات، فهل من تقدم منجز في هذا الصدد؟ نعم بكل تأكيد، فلقد كان، مثلا، لقرار الاعتماد على البطاقة الوطنية في التصويت صدى طيب جدا لدى عامّة الناس. نحن إذا أمام تقدم ملموس يبشّر بإلغاء اللوائح الانتخابية مستقبلا.. البلد الحبيب يتقدم في هذا المجال، مجال الديمقراطية، رويدا رويدا. نعم، التوفر على البطاقة الوطنية لا يبيح لصاحبها التصويت إلا إذا كان مسجلا في اللوائح الانتخابية. و بطبيعة الحال للسلطات المختصة أسبابها في الاستمرار بالعمل باللوائح الانتخابية... ولكن المستقبل يبشر بالخير، فلقد تم إنجاز الخطوة الأولى. بطبيعة الحال لكل نظام معارضيه، و المعارضون لا يعترفون بأي إنجاز أو تقدم للنظام الذي يعارضونه، فيقولون بأن إلغاء بطاقة الناخب و الاكتفاء بالبطاقة الوطنية دون إلغاء اللوائح الانتخابية ما هو سوى ارتجال آخر دقيقة لمواجهة العزوف السياسي أو الانتخابي، و منهم من يقول بأن العزوف يصب في مصلحة حزب العدالة و التنمية مما استوجب اتخاذ هذه المبادرة أي السماح بالتصويت بالبطاقة الوطنية دون بطاقة التصويت. و قراءتهم في ذلك تتجه نحو اعتبار مؤيدي حزب العدالة و التنمية يتميزون بالالتزام الحزبي فلا يفوّتون أبدا فرصة التصويت على خلاف مؤيدي غيره من الأحزاب الذين قد يفوّتون فرصة التصويت بسهولة أو باستخفاف. طيب. أزيد من ثلاث سنوات على رأس الحكومة مع اتخاذ بعض القرارات غير الشعبية جعلت لحزب العدالة و التنمية مناهضين لسياسته. و إذا اعتبرنا أن كلما قل عدد المشاركين في الانتخابات كلما ازدادت فرصة حزب العدالة و التنمية في الفوز بحكم مسألة الالتزام الحزبي المذكورة، فلما لا توسيع قاعدة الناخبين، علما أن هناك -حسب بعض المصادر الصحفية- ما يقارب ستة ملايين من البالغين السن القانوني غير مسجلين في اللوائح الانتخابية. فكيف يمكن تصور الخارطة السياسية في حالة ما تم إدماج الملايين تلك؟ هل توسيع دائرة الناخبين لتشمل جميع البالغين سن التصويت يعني بالضرورة ارتفاع نسبة مقاطعي الانتخابات و بالتالي انخفاض نسبة المشاركين؟ لا، ليس بالضرورة، شريطة إدخال بعض التعديلات على المشهد الحزبي و إدماج الفئات السياسية التي ظلت تعمل خارج المؤسسات لعقود. حسنا. اعتبارا للكتلة الناخبة المعتمدة حسب اللوائح الانتخابية، معظم الغاضبين على حزب العدالة و التنمية لم يزوروا المعزل لأنهم كانوا يتعاطفون مع هذا الحزب و لكنهم يرون أنه خذلهم، و بما أنهم لا يرون بديلا له في ما هو معروض عليهم من أحزاب فلقد فضلوا تعزيز صف العزوف رغم وجود غريم لحزب العدالة و التنمية يتمثل في حزب الأصالة و المعاصرة. لا بد من أن هناك سر يفسر كون الغاضبين على حزب العدالة و التنمية لم يرتموا في أحضان حزب الأصالة و المعاصرة و فضلوا العزوف الانتخابي. لو فتشنا جيدا في ذهن الناخب العادي، الشريحة الأكثر عددا، لوجدنا أن "الأصالة" تعني الدين و "المعاصرة" تعني الحداثة. هكذا بكل بساطة. فأول امتحان يجريه الناخب العادي لخطاب حزب الأصالة و المعاصرة هو مقارنة مدى تشبثه بالدين، -"الأصالة"-، مقارنة مع حزب العدالة و التنمية، فيجد أن لا مقارنة مع وجود الفارق... و أما ثاني امتحان فهو مدى تفوق حزب الأصالة و المعاصرة في ما يتعلق بالحداثة فيجد بأن، مثلا، كلا الحزبين يلتزمان ربطة العنق، و كلاهما يستعملان أحدث وسائل التنقل...إلى آخره من مظاهر الحداثة. فإذا كان حزب العدالة و التنمية يتفوق في شق الخطاب الديني فحزب الأصالة و المعاصرة لا يتفوق في مجال مواكبة التطور العصري في شتى تمضهراته بشكل جليّ. و بالتالي فالناخب الغاضب على حزب العدالة و التنمية سيفضل بلا شك عدم المشاركة في الانتخابات. طيب. من أهم أسباب العزوف الانتخابي عدم تطابق شعارات الأحزاب مع تصرفاتهم. فمن يتخذ "العدالة" شعارا سيواجه غاضبين و منتقدين كثر، و من يتخذ "الأصالة" شعارا كذلك سيجد غاضبين و منتقدين كثر. و من جهة أخرى، إذا كانت "الأصالة" تعني بكل بساطة الدين في مخيل الناخب أو المجتمع على العموم(-و لا يهم هنا علم المصطلحات و لا قاموس المعاني-)، فهذا استفراد غير منطقي بالنسبة لوحدة سياسية لا تمثل الشعب كلّه. و إذا كانت "العدالة" تعني كل ما يحيل على "القضاء"، أو "العدل"، في مخيل الناخب، فهذا استفراد غير منطقي بالنسبة لوحدة سياسية لا تمثل الدولة كلّها. ناهيك عن كون، على أرض الواقع، و دائما من منظور الناخب على العموم، حزب العدالة و التنمية لا يستوفي شرط أو شعار "العدالة"، كما أن حزب الأصالة و المعاصرة لا يستوفي شرط أو شعار "الأصالة". هذه مسائل مهمة يجب على كلا الحزبين، اللذان لا يزالان في طور البحث على تدعيم صفوفهم بمناضلين و متعاطفين أوفياء، الاهتمام بها. ولكن، حزب الأصالة و المعاصرة لم يتخذ تسميته عبثا، فلابد و أن هاجسه كان هو جمع الشمل لمواجهة التفرقة بين فئة أصولية و فئة تقترب شيئا فشيئا من مظاهر العلمانية. و كذلك الحال بالنسبة لحزب العدالة و التنمية الذي لا شك و أن اختياره لتسميته كان وراءه التمركز أو التموضع في الوسط مع كل ما يوحي ذلك من وسطية و اعتدال لجني أكبر عدد من المتعاطفين. الحل إذا في اتحاد الحزبين أو اندماجهما في إطار حزب واحد بتسمية تتفادى كل ما يمثل في ذهن المواطن أو الناخب على العموم قاسم مشترك أو من اختصاص الدولة، كل ما يمكن أن يحيل إلى الدين و القضاء و العدالة إلى آخره... الواقع و على العموم أن حزب الأصالة و المعاصرة حزب لا يهتم سوى بالمعاصرة أو بالحداثة، و أما حزب العدالة و التنمية فلا يهتم سوى بالأصالة... إدماج الحزبين برأس واحد، أو برأسين و منسّق عام كخطوة أولى و بسرعة، سيمكن من لم الشمل و بلورة فكرة الأصالة و المعاصرة حقيقة، و سيمكن أيضا و ثمة الهدف، من إدماج الكتلة الناخبة غير المسجلة في اللوائح الانتخابية مع ضمان نسبة مشاركة جد مشرفة، لأن من ضمن أهم أسباب العزوف السياسي افتعال معارك سياسية بين فئات لها نفس التوجهات العامة. و التحالفات التي تحصل بين الحزبين بين الفينة و الأخرى، الأصالة و المعاصرة و العدالة و التنمية، خير دليل على أنهما يتقاسمان نفس الهموم السياسية و الوطنية. فإلغاء اللوائح الانتخابية و السماح بالتالي لكل من بلغ السن القانوني للتصويت من المشاركة في الانتخابات مع تكتل الحزبين الرئيسيين في المشهد السياسي في إطار حزب واحد، سيغري بل سيلزم الأحزاب ذات التوجه اليساري جميعها بالاندماج في ما بينها لتشكيل كتلة معتبرة واحدة في إطار حزب واحد يستطيع البقاء في مشهد سياسي قوي قد يشهد دخول جماعة العدل و الإحسان في المعترك الانتخابي و السياسي الرسمي. و على كل حال، مع تكتل الحزبين الرئيسيين و اندماجهم في إطار حزب واحد لن تتراجع نسبة المشاركة و لو ألغيت اللوائح الانتخابية و تم توسيع دائرة الناخبين لجميع بالغين سن التصويت القانوني، سواء دخلت جماعة العدل و الإحسان معترك الانتخابات أم لا، فإما أن ترتفع نسبة المشاركة أم تستقر على حالها على أقصى تقدير و بدون أدنى نسبة مجازفة. و الله أعلم. لا بد للبلد الحبيب أن يخطو آخر خطوة تمكنه من الدخول إلى ساحة الدول الديمقراطية الكبرى من بابها الواسع. و لا شك أن جميع مكونات المجتمع على تمام المعرفة بالمتغيرات الدولية التي تحدث بشكل تصاعدي مخيف، متغيرات لن تترك و شأنها سوى البلدان المكتملة ديمقراطيتها. البلد الحبيب بلد ديمقراطي و مجتمعه كذلك. فمقاطعة الانتخابات لا تعني مقاطعة الدولة، و العزوف السياسي لا يعني مقاطعة الدولة، ولكن للديمقراطية أعراف كما لها أرقام يجب بلوغها.. لقد نجح البلد الحبيب في ضمان استتباب الأمن و الاستقرار بتفوق ملفت للنظر في محيط ملغوم، فمن البديهي أنه يستطيع اليوم استكمال مسيرته الديمقراطية بكل أمان دون أدنى خوف من التحديات... سيداتي سادتي، المتغيرات الدولية لن تترك و شأنها سوى البلدان المكتملة ديمقراطيتها. كانت هذه، سيداتي سادتي، فقرة من فقرات الرواية الأدبية الإبداعية الخيالية المحضة في الجزيرة العجيبة، فلا داعي للتذكير بأن كل تطابق مع حزب أو حزبين، أو جماعة أو أي شيء آخر، مجرد صدفة. و ربّ صدفة خير من ألف ميعاد.