أفادت معطيات البحث الوطني حول الاستهلاك حقائق مؤلمة معلومة عن نسبة الفقراء والعالم القروي والإنفاق بين الفئات المعوزة والميسورة.. ولكن أرقام مندوبية التخطيط وإن كانت ناطقة بحجم الاختلال الاجتماعي والمجالي الذي تعيشه البلاد فإن المندوب السامي ينطقها باستنتاجات لا يعكسها الواقع، واقع الوضع المأساوي الذي تعانيه أوسع الفئات في القرية كما في المدينة. السيد المندوب تحدث مقدما نتائج هذا البحث عن وجود منحنى متواتر بتقلص الفوارق الاجتماعية في المغرب، وحذرت المندوبية في البحث ذاته مما أسمته "الفقر القروي" مستنتجة أن النمو لصالح الفقراء ينبغي أن يتخذ اتجاها نحو النمو لفائدة الساكنة القروية، والأصح في قراءة هذا الاستنتاج أن هناك انخفاضا مريعا نحو الهاوية لفئات عريضة من المجتمع، ولا ينبغي مطلقا أن يغيب عن الأذهان النزوع الحضري الذي تشهده بلادنا وما ينطوي عليه من أخطار بما يرافقه من تفقير واضح للمواطن سواء ذلك الذي ظل صامدا مرابطا في باديته لا حول له ولا قوة أو الذي جازف بكل شيء وولى وجهه قبل المدينة فارا من جحيم العوز إلى نيران الحرمان والضياع. أمامنا الأرقام والبرامج والسياسات وأمامنا واقع يفضح حقيقة الاختلالات المجالية والاجتماعية، وإذا كان من الموضوعية عدم غض الطرف عن المجهود الذي تبذله الدولة للنهوض بالوسط القروي عبر تخصيص تمويلات للبرامج القطاعية وتخصيص صندوق للتنمية القروية والسعي إلى اعتماد مشاريع مندمجة التقائية تروم مواجهة العجز المتراكم في البنيات والخدمات، فالواضح أن كل هذه المجهودات تظل قاصرة ومعظمها يبقى مصابا بالعقم لأنها لا تتوجه بالقدر الكافي نحو معالجة الأسباب الحقيقية للاختلالات وتكتفي في الغالب بذر الرماد هنا وهناك وهدر أموال عمومية على مشاريع تعوزها رؤى إستراتيجية قادرة على أن تجعل منها محركات للاستثمار المنتج وخزانا لفرص الشغل وأداة لإعادة توزيع الثروة وبناء ركائز قوية لتنمية مستدامة. ألا يجدر بالسلطات العمومية أن تقوم بانتظام بتقييم عميق لسياسات التنمية البشرية والوقوف على نتائجها الحقيقية لا المفترضة وانعكاساتها على مستوى عيش الساكنة؟ ألا تلتفت هذه السلطات إلى مظاهر التشويه التي تفتك بقرانا ومدننا عنوانا صارخا لفقدان هويتها حيث لا تستقيم حيالها للبادية مقومات ولا تظهر للمدينة مؤشرات؟ نعم السيد المندوب السامي "الفوارق الاجتماعية والمجالية أيضا تسير باستمرار نحو الانخفاض"؛ ولكنه ليس انخفاضا يقلص التفاوت بل انخفاض نحو المنحدر جهة الفقر، حيث تشهد المدينة اقترابا من عوز القرية وتعيش الفئات العريضة من المغاربة الذين كانوا إلى وقت قريب يواجهون شظف العيش متطلعين إلى تحسين أوضاع حياتهم، مأساة التقهقر الواضح للاقتراب أكثر من عتبة الفاقة التي تتوسع بشكل مريع. ولا يختلف اثنان على أن السبيل إلى هدم الهوة بين الفئات والمجالات لا يكون بدون قرارات جريئة تحطم أسباب هذه الفوارق وتشيد جسور العدالة الاجتماعية، فالملايين الستة (5.8 ملايين) من المغاربة التي يقول آخر بحوث المندوبية السامية للتخطيط إنهم يعيشون في وضعية فقر مطلق ويوجد ما يقارب 80% منهم في العالم القروي لا يمثلون سوى جانب من حقيقة أفظع، حقيقة العوز الذي تكابده الأسرة المغربية دون تمييز بين البادية والمدينة، فمعايير التمييز صارت مختلة وغير دقيقة، والبطالة الصريحة والمقنعة تخنق جل العائلات التي كافحت لتعليم أبنائها لتلفظهم بعد ذلك المؤسسات المدرسية والجامعية نحو المجهول، لا القطاعات العمومية قادرة على توفير مناصب الشغل ولا القطاع الخاص يستوعبهم ولا آليات التشغيل الذاتي التي ما فتئت السلطات العمومية تمطرق بها الآذان تتيح الإمكانات المعلنة والمواكبة الكفيلة بتحقيق الأهداف المسطرة. أين يصنف بحث المندوبية جحافل العاطلين والعجزة والمعاقين والأرامل والطفولة المشردة والمتسولين والمتسكعين وباعة "الكلينيكس" في الأزقة والشوارع وحول المدارات في كبريات "المدن"؟ ألا يعتبر في عداد الفقراء أولئك العاملون من الباعة المتجولين والأجراء والمياومين والموظفين والمتقاعدين من ذوي الدخل ما دون المحدود وأولئك الذين دمرت حياتهم ورهنت مستقبلهم القروض الشيطانية في الزمن الاستهلاكي المقيت وهوت بهم من التطلع للكفاف وحتى للدرجة الوسطى من فئات المجتمع إلى درك مأسوف... وووو؟. إن العدالة الاجتماعية تظل المقياس لصلاحية السياسات العامة وأساس الحكم على مدى توافقها مع انتظارات الشعب، وهذه السياسات بكل أسف لا تزال رهينة توجه يولي الأولوية للتوازنات على حساب عدالة التوزيع، وتظل عاجزة عن استئصال أورام الفساد من جذورها: (ريعا وامتيازات وإثراء غير مشروع..)، وتقف مترددة في نهج إصلاحات عميقة لأدواء الإدارة والتدبير العمومي وتحسين مناخ الأعمال وتحقيق شروط القضاء النزيه العادل والمستقل. تلك في تقديرنا هي المفاتيح الحقيقية ومرتكزات تشييد جسور العبور إلى العدالة الاجتماعية؛ فالفقر – في القرية أو المدينة – أيا كانت مواقعه الجغرافية وأسبابه ومظاهره يتسلح بالمخالب الفتاكة نفسها التي لا تستطيع تقليمها ولا تنزعها بكل أسف مجرد حملات صدقات وإحسان وتضامن أو شيكات سلفات صغرى ومشاريع مدرة لشبه الدخل... ذلك أن استمرار الاختيارات نفسها التي لا تراوح مكانها حول اقتصاديات السوق المتوغلة والريع القذر من شأنها ترسيخ التفقير بتجاهل حماية الفقراء وإعادة توزيع الثروة وإصلاح منظومة الأجور والتعويضات والضرائب وإعادة النظر في تخلي الدولة عن تدبير قطاعات حيوية وإجراء تقييم موضوعي للخوصصة التي طالت مجالات حيوية اجتماعيا ومنتجة اقتصاديا، والإصرار على التقشف فقط بالتراجع عن سياسات الدعم بدل عقلنة وترشيد الإنفاق واعتماد آليات العدالة الضريبة. إن مكافحة الفقر تكون بمكافحة أسبابه، وهي واضحة مكشوفة للعيان لا يخفيها ضباب، أم على أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون؟