إن وظائف الإدارة تشكل بحق أساسا مهما في تنفيذ السياسات العمومية، وتكريس هيبة الدولة، وإنشاء جسر تواصلي بين المواطنين والدولة. والإدارة هي الوجه العملي لنشاط الدولة، المتمثل في الحكومة، وانطلاقا من الدستور المغربي والدساتير المقارنة، فإن الإدارة تعتبر جهازا في يد الحكومة، تنفذ مختلف توجهاتها العامة. إن هذا الاعتبار السابق يجعل الإدارة تمثلا للسلطة العامة، لذلك فمن اللازم ضبط علاقتها بالمواطن، وأيضا لما يشكله إشكال السلطة الحرية من حضور قوي في ذهنية المواطن، وكذلك في تصرفات الإدارة. يزداد تعقد إشكال الإدارة بالمواطن، لأن الإدارة في كثير من الأحيان تمارس تصرفاتها في إطار ضبط ممارسات المواطن، وفي هذا الإطار تظهر الإدارة متشبعة بسلطتها العامة المستمدة من الدولة، وكذلك استعمالها لبعض المفاهيم بطريقة مبالغ فيها. كما أنه لا يمكن القول بأن الشق الخدماتي في أنشطة الإدارة يسلم من اختلال العلاقة بين الإدارة والمواطن، بل إن المرفق العام إذا اختلت تصرفاته وأعماله الموجهة لخدمة المواطن، فإنها تؤدي إلى اختلال العلاقة مع المواطن. يتضح من الطرح السابق أن رصد الاختلالات وقراءتها بطريقة نقدية، يتوجب النظر لها من خلال رصد أوجه السلطة وانحرافاتها في تطبيق المفاهيم في القانون الإداري ويمكن تحديد هذا الوجه من الاختلال بالمحدد الداخلي، كما أن قراءة الوضعية الخدماتية للإدارة أمر مهم لاستجلاء العلل المؤثرة في علاقة الإدارة بالمواطن، من خلال التحديد الخارجي. المحور الأول: البعد الداخلي لإشكالية علاقة الإدارة بالمواطن إن البعد الداخلي لاختلال علاقة الإدارة بالمواطن، تتماهى فيه مجموعة من المحددات التي تعصف بالعلاقة الجيدة بين الإدارة والمواطن، وهاته المحددات مرتبطة إرتباطا وثيقا بالسلطة العامة كمدخل لأعمال الإدارة، وهو بحق محدد داخلي يروم للكشف عن الإدارة – السلطة في علاقتها بالمواطن، الشيء الذي يفسر لصالح الإدارة – السلطة في مقابل المواطن، وهذا ما تم تحديده بإشكالية تأويل المفاهيم الإدارية لصالح الإدارة في الغالب الأعم. إن تأويل المفاهيم يكمن في مجموعة من المفاهيم التي لها حساسية في العمل الإداري وأهمها، مفهومي المنفعة العامة والمصلحة العامة، وهما مفهومان يكرسان في كثير من الأحيان هيمنة الإدارة في الفعل الإداري، مما يشكل في كثير من الأحيان اختلالا واضحا في علاقة الإدارة بالمواطن. عندما نذكر مفهوم المنفعة العامة مثلا، فإننا نستحضر عدة مفاهيم أخرى مثل: نزع الملكية واحتلال الملك الخواص، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بالمنفعة العامة، وليس من المبالغة في شيء إذا ما تم نعت هاته المفاهيم بالغطاء الشرعي لأعمال الإدارة في ما يخص نزع الملكية، ويطرح هذا المفهوم إشكالا من ناحية تفسير العمل الذي تقوم به الدولة على أنه منفعة عامة، وعند قراءتنا لقانون نزع الملكية من أجل المنفعة العامة والاحتلال المؤقت، وبالخصوص الفصل الثاني منه الذي جاء فيه:"يتم نزع الملكية لأجل المنفعة العامة بحكم قضائي". ونستشف من الفصل أعلاه أننا لم نجد أي تعريف أو تحديد لمفهوم المنفعة العامة من قبل المشرع مما يجعل انحراف الإدارة أمر بالغ الوقوع، وان جعل مثل هذا المفهوم المهم، فضفاضا في تعريفه وتحديده، يؤدي إلى نزع الملكية من طرف الإدارة، تحث ذريعة المنفعة العامة. الإشكال الأخر يكمن في تفسير المصلحة العامة تفسيرا سيئا وغير قانوني من أجل تنفيذ المصلحة الخاصة للإدارة، فكثيرا ما تم إهدار الحقوق الخاصة وحرية المواطنين بدعوى المصلحة العامة, وفي الأخير ففكرة المصلحة العامة هي ضرورية ولا محيد عنها لكن وجب تعريفها وتحديدها تحديدا محكما، ومنع الانحرافات عنها المتجلية على عدة مستويات: المستوى الأول: المصلحة الخاصة تكون غرضا في العمل الإداري؛ المستوى الثاني: تحقيق الانتفاع الشخصي؛ المستوى الثالث: الانتقام في القرار الإداري؛ المستوى الرابع: حالة المحاباة أو تقرب من شخص ذو مال أو نفوذ؛ المستوى الخامس: تطبيق القانون اللامتساوي، أو سكيزوفرينيا القانون. المحور الثاني: البعد الخارجي لإشكالية علاقة الإدارة بالمواطن عند الحديث عن الاختلال الخارجي لعلاقة الإدارة بالمواطن، يتبادر إلى الذهن أمران مؤثران بشكل على هاته العلاقة، باعتبارهما إشكاليتين رئيسيتين في حديثنا عن المشاكل التي تعرقل عمل الإدارة، هما البيروقراطية الإدارية، وكذلك الفساد الإداري. والفساد الإداري ظاهرة تحد من فاعلية الإدارة، وتحيدها عن السكة الصحيحة لعملها المتسم والمتميز بخدمة المواطن وضبط سلوكياته بطريقة مشروعة غير منحرفة، وبحيث أنه عندما يوجد الفساد فإن الإدارة تتحول مع مرور الوقت إلى جهاز يلبي الرغبات الشخصية. ويذكر أن الفساد يأخذ منطلقات منعه من القران الكريم، فقد ورد في القران الكريم في مواضع متعددة، وبسياقات ودلالات متنوعة أبدع في تصويرها، فما كان من القران الكريم إلا وأن وضع لهاته الكلمة مجموعة من المواضع المختلفة دالة على ظواهر فاسدة. ومعرفة وجود الفساد من عدمه، تتم بطريقة معقدة، هذا التعقيد ناتج بالأساس عن تعدد صور الفساد الإداري. لقد اختلف حول المعايير المحددة للفساد الإداري، لما يشكله تعريف الفساد الإداري من تعقيد وصعوبة الاتفاق على تعريف واحد. وأمكن القول بأن الفساد الإداري يمكن إجماله ولو بصورة غير كاملة بأنه: هو فعل لا أخلاقي، يخالف القانون، وينحرف عن سكة المصلحة العامة. هو فعل صادر عن سلطة عامة أو عن رجل الإدارة أو الموظف العام. الفساد الإداري له أسباب اقتصادية واجتماعية، وله تأثير مستمر على النظام السياسي. يمكن وضع صور للفساد الإداري، فهو إما فساد تنظيمي، أي علاقة الرئيس بالمرؤوس أو عدم تنفيذ الخدمات والأعمال التي يختص بها الموظف العام، ويتخذ الفساد الإداري كذلك طابعا سلوكيا من خلال ممارسة أفعال فردية ذات طبيعة سلوكية، مثل الرشوة، استعمال النفوذ في توصيل شيء بغير وجه حق. وعلى غرار الفساد الإداري الذي يؤثر في علاقة الإدارة بالمواطن، فإن البيروقراطية الإدارية لها تأثير معين في هذه العلاقة التي تعتبر صعبة التنزيل باعتبارها أحد أهم المظاهر العملية لإشكالية علاقة الحرية بالسلطة كأصل عام في القانون العام. ويمكن التأكيد في بداية الأمر أن البيروقراطية ليست إشكالا واقعيا، بمعنى أنها طريقة في نظام الحكم تم ابتكاره قصد تدبير المؤسسات بطريقة هرمية – شخصية، ملتزمة بالقانون بطريقة حرفية، وهو مصطلح تم تداوله في أغلب الكتابات المتعلقة بعلم السياسية وعلم الاجتماع السياسي، والملاحظة المسجلة في هذا الإطار أن البيروقراطية هي فكرة مثالية ارتبطت بنظام الحكم والمؤسسات المثالية، لكن مع مرور الوقت أصبحت ترتبط البيروقراطية بالإدارة، فأصبحت عبارة "البيروقراطية الإدارية" أكثر العبارات المستعملة من لدن رجال القانون، اشتهرت على باقي الأنواع الأخرى. لقد كان الاحتياج العام لنظام بيروقراطي بسبب تزايد تطور الدولة في ظل الثورة الصناعية التي كانت قد اجتاحت العالم بأسره لكن ومع مرور الوقت انحرفت البيروقراطية كنسق مفاهيمي، ويمكن أن نضرب مثلا بوضعية البيروقراطية الإدارية بالمغرب والذي كان يتجه في البداية نحو البيروقراطية العقلانية، لكن في واقع الأمر ظهرت البيروقراطية في الأخير ككلمة قدحية تستعمل للتعبير عن الوضع المزري للإدارة العامة بالمغرب، وفي حقيقة الأمر كانت تتوغل البيروقراطية بالمغرب أبعد مما يتصور زمنيا في الحقل الإداري والسلطوي بالمغرب. فالاتجاه نحو الهبة في العلاقات السياسية قبل الاستعمار كون إدارة رهيبة حسب العالم الأنتروبولوجي المغربي "عبد الله حمودي"، وفي هذا النظام الذي كان قائما في المغرب ساعد على تقوية البيروقراطيون وتصدرهم السلطة والإدارة بالغرب، - عبد الله حمودي، الشيخ والمريد: النسق التفافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة: عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الدارالبيضاء، الطبعة الرابعة 2010، ص. 84- ورغم الإصلاحات التي همت البيروقراطية في أواخر القرن التاسع عشر، وفي عهد الاستعمار على وجه الخصوص، إلا أنها كانت إصلاحات تخدم المستعمر فقط، فمن غير المعقول أن تنجز فرنسا مشروعا أو فكرة أو قانونا سيخدم المغرب، بل العكس من ذلك فقد زاد الأزمة السياسية والإدارية بالمغرب. بحيث أن البيروقراطية المغربية تعاني من إشكال مهم وهو عدم الفصل بين المهام، وهذا ما عمق من الإشكالية بعد الإستعمار ليزيد من مشاكل البيروقراطية بالمغرب وتنحرف عن المبدأ. وإن أهم مثال يمكن أن نسوقه في هذا الإطار هو تحكم وزارة الداخلية في التقطيع الانتخابي وإعلان نتائج الانتخابات. إن هذا المنطق السلطوي في التدبير يجعل التواصل بين المواطن والإدارة غير ممكن تماما، وتتزايد إشكالية تعقيد القرارات في تداخل المعين (عدم التركيز الإداري) مع المنتخب محليا (اللامركزية الإدارية)، وهو من بين مسببات الكسل والروتين وانتظار التعليمات من طرف الرئيس، فلا يتم خلق روح الإبداع في إنتاج الفكر الإداري، إن هاته الإشكالية غدت أهم المشاكل المؤثر بشكل كبير في العمل الإداري المغربي. وتشكل الأنماط الشكلية الروتينية كذلك، أمرا يعطل عمل الإدارة بالمغرب، وهذا ناتج عن التمسك بالأنماط الشكلية من خلال الروتين الذي يعاني منه عمل الإدارة، من خلال تقديس القانون والتمسك بالنصوص التنظيمية بطريقة جافة لا تراعي الجانب الإنساني، أو روح القانون، وتزداد فداحة هذا المشكل من استعمال الإدارة لقوانين ونصوص تنظيمية قديمة تم تنسخها بقوانين جديدة - محمد بوجيدة، محاضرات في مادة تحليل النصوص القانونية والتنظيمية، ألقيت على طلبة ماستر قانون المنازعات العمومية، بكلية الحقوق سلا، جامعة محمد الخامس الرباط، السنة الجامعية: 2014-2015.-. وسبب هذا الخطأ الفادح هو غموض النصوص القانونية والتنظيمية التي تتشعب وتتشتت في عدة أماكن من دون محاولة تجميعها في إطار مدونات تعنى بالنصوص القانون والتنظيمية المنظمة للأعمال الإدارية، كما أن الموظف لا يبحث ولا ينقب على القوانين بل يعمل في ظل الروتين المتوارث من موظف إلى أخر. وفي نفس الإطار تطفو إلى السطح مشكلة أخرى وهي تعقد المساطر والإجراءات الإدارية. لذلك فإن البيروقراطية في عمقها الدلالي تؤدي إلى اختلال علاقة الإدارة بالمواطن وتزيد الشرخ بينهما، لما يشكله هذا المفهوم من جفاف في مرونة التعامل مع الإجراءات والنصوص القانونية المنظمة للعمل الإداري، كما أنه للصرامة الزائدة في اتخاذ القرارات بالغ الأثر السلبي على علاقة الإدارة بالمواطن. إن إعادة النظر في طريقة تدبير العمل الإداري أمر مهم وإستراتيجي، وذلك من خلال تعزيز أفاق تطوير علاقة الإدارة بالمواطن، كإدارة خدومة، تقرب خدماتها من المواطن، وتخضع الفعل الإداري للمساءلة الذاتية والخارجية، وتصبغ العمل الإداري بالمبدأ الشفافية من خلال إتاحة المعلومات الضرورية للمواطن وضمان حق الإطلاع عليها. إن المشاكل الإدارية تزيد من شرخ العلاقة، وتعطي انطباعا سيئا في ذهن المواطن تجاه الإدارة العمومية. *باحث في القانون، جامعة محمد الخامس، الرباط