الحزب الكبير المخيف: حزب العزوف الانتخابي مرت زوبعة السابع من أكتوبر، وعربد الفرح في بيت كل من ظفر بحظ من الغنيمة الانتخابية، فردا أو جماعة، حسبه إن كان فردا، أنه بلغ مبلغه مما كان يصبو إليه من بهرج الوجاهة والمكانة الاجتماعية. وحسبها إن كانت جماعة /حزبا أنها استعلت وتطاولت وتعاظمت وتفرعنت، وربحت الرهان والتحدي، وسحقت خصومها السياسيين. ولهذا لا تلوك ألسنة الزعماء السياسيين إلا خطاب التفاخر بالنصر والفوز والانتشاء بالقوة، وخطاب إلصاق الهزيمة والانسحاق بالفرقاء الخصوم، والتشفي فيهم بما يعتبرونه هزيمة وسقوطا وضعفا قد حاق بهم، وتحنيثا لهم لأيمانهم المغلظة، وتحطيما لوعودهم الوردية التي خرجوا بها على الناس. وكأن القوم كانوا في حلبة للمصارعة أو كانوا في رهان للمقامرة، وكأن الأمر لا يتعلق بمسؤولية خطيرة تقض الجنوب والمضاجع، هي مسؤولية قيادة البلاد ورعاية أوضاع الشعب، والتي تتحول عند أصحابها في الغالب الأعم إلى خزي وندامة ومذلة ومهانة، عقابا من الله ثم جزاء من الشعب حسابا وفاقا، ثم يكون المآل في التاريخ، هو مطارح التاريخ. لكن الذين فرحوا وعربدوا وتنادوا باتخاذ هذا اليوم الانتخابي عيدا للديموقراطية في المغرب، زخرف القول غرورا، لم يتمعروا ولم يخجلوا من أنفسهم وهم يرون، بعد أن هدأت الزوبعة الانتخابية، أن هذا العرس الانتخابي والعيد الديموقراطي لم يحفل به من المغاربة سوى عشرين في المائة يزيدون قليلا أو ينقصون. فإذا احتسبنا أن نسبة المشاركة في التصويت هي بالإعلان الرسمي: 43٪، من أصل كتلة ناخبة تعدادها 16 مليونا من المسجلين في اللوائح الانتخابية، وأن الذين يحق لهم دستوريا وقانونيا التصويت والتسجيل في اللوائح الانتخابية يبلغ تعدادهم 23 مليونا في تقدير، و26 مليونا في تقدير آخر، وإذا احتسبت الأوراق الملغاة والتي تكون في نصفها تعبيرا عن الازدراء والرفض، فإن يوم السابع من أكتوبر لم يكن عرسا سياسيا عند أولي الألباب الذين ينظرون إلى باطن الأوضاع السياسية بقدر ما كان مأتما سياسيا. إن أخطر مؤشر على حالة الائتمان السياسي، وعلى سلامة الأوضاع، وعلى مستقبل الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد، هو قياس حالة المشاركة الانتخابية في المحطات السياسية الانتخابية، إذ بهذا القياس تظهر العلاقة القائمة بين المجتمع والدولة، في ما إذا كان هناك تفاعل واندماج سياسي بين المجتمع والدولة أو كانت هناك قطيعة سياسية تفصم ما بين الطبقات الشعبية والطبقة السياسية. كما أن هذا القياس هو معيار الولاء بين الشعب والحكم. والإعراض عن العملية الانتخابية والنأي عنها هو إعراب عن موقف صامت، لإدانة الأوضاع و الاستنكار عليها، إما من منطلق اللامبالاة والعزوف، أو من منطلق الرفض، أو من منطلق المقاطعة السياسية، وهي الأهون خطورة ، لأنها تعبير سياسي ناطق، واع بالمحاسبة والمحاججة لمن يتقلد مسؤولية الحكم. وحينما تتبجح بعض الأحزاب بالفوز الانتخابي، في مثل هذه الظروف، وتدعي لنفسها الولاية المنبثقة عن إرادة الشعب، وتنسب لنفسها التمثيلية لأغلبية الشعب، فإنها تقع في المغالطة الصارخة، وتمارس التغليط بصفاقة وجه وبدون حياء، فعن أية تمثيلية يتحدثون إذا كان الشعب في أربعة أخماسه يربأ بنفسه عن الخوض في ملهاة هذه التمثيلية. وتتجاهل هذه الأحزاب المتبجحة المعربدة أو تجهل أنها بملهاة التمثيلية هذه إنما تسرح وتمرح فوق فوهة بركان صامت. إن هذا العزوف الانتخابي الخطير، من قبل هذا الحزب الكبير حزب العزوف، يقلب رأسا على عقب نظام العملية الديموقراطية، فتصبح الأقلية هي التي تتحكم في رقاب الأغلبية، وتصبح القوانين المملاة من مراكز القوى على تلك الأقلية المتعجرفة فالمخدوعة ، سوطا تساق به الأغلبية الصامتة. في المغرب، تكون هذه الأوضاع دائما في خدمة طرف واحد هو الإسلام السياسي، الذي تحتشد له قواعده الانتخابية بواسطة الوازع الديني وليس بواسطة الوازع السياسي. حزب العدالة والتنمية: المستفيد الكبير فاز الحزب الإسلامي، حزب العدالة والتنمية، بالنسبة التمثيلية الكبرى، مما أهله ليكون الحزب الأول، الذي تؤول إليه دستوريا، رئاسة الحكومة فتشكيلها. وقد غنم مزيدا من المقاعد، فوق ما كان قد حصل عليه في انتخابات 25 نونبر 2011، فهل إن الحزب وقد تحمل المسؤولية الحكومية لخمس سنوات، قد تحقق له هذا الالتفاف الشعبي لناخبيه حوله، نتيجة إنجازات حكومية صبت في المصلحة المباشرة للمواطن، بما ترتب عنه هذا التعاطف الشعبي المتزايد ؟. من المعروف في تاريخ التعاقب السياسي المغربي أن الحكومات التي تم تنصيبها منذ استقلال البلاد لولاية الشأن العام، لم تكن سوى منفذة مطيعة لاستراتيجية الدولة، والتي لها رجالاتها ومراكز قواها، ولم تكن سوى خادمة بالدرجة الأولى لمصالح الطبقة السياسية والاقتصادية السائدة والحاضنة لهذه الدولة، ثم تأتي في الدرجة الدنيا مصالح الطبقات الشعبية فمشروع التنمية المرتبط برقيها وارتقاءها. وحزب العدالة والتنمية وهو يقود السياسة الحكومية لم يخرج هو أيضا عن هذه القاعدة، ففي سبيل إنقاذ مصالح الدولة من مخلفات الهدر السياسي السابق، توجه التدبير الحكومي لفائدة المصلحة النخبوية في مقابل إهدار مصالح الشعب، ووقع الحزب الإسلامي فيما وقعت فيه سابقا تجارب أحزاب الحركة الوطنية وأحزاب الحركة الاشتراكية بسن القوانين ونهج السياسات اللاشعبية. فمن رفع للدعم عن بعض المواد الاستهلاكية الأساسية في اتجاه الإلغاء النهائي، إلى سن قانون للتقاعد ضدا على مصلحة المأجورين، إلى المديونية التي تضاعفت، إلى التبذير في الإنفاق الحكومي مقابل فرض التقشف على المواطنين، إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى ضرب المدرسة العمومية إلى غير ذلك مما يجعل السواد الأعظم من الشعب لا يرى الخلاص من بؤسه وفاقته، بقدر ما يزداد سوءا وهشاشة وحرمانا، في مقابل انتفاخ الثروات الفاحشة لأولي النفوذ والترف. وكان الرد السياسي المفترض والطبيعي على هذه الأوضاع، هو استنكاف القوى الشعبية المتضررة عن أن تمنح دعمها الانتخابي لحزب العدالة والتنمية باعتباره مسؤولا سياسيا عن هذه الإجراءات اللاشعبية، غير أن نتائج اقتراع السابع من أكتوبر أظهرت أن التصويت الشعبي لم يكن سياسيا، وأن التصويت العقابي والاحتجاجي على مسؤولية الإسلاميين في التدبير الحكومي كان منحسر الأثر في صناديق الاقتراع، لأن أصحابه قبعوا في خندق العزوف والمقاطعة، وأن القاعدة الانتخابية للحزب الإسلامي هي التي تماسكت وتضاعفت. فقد غاب عنصر السياسة الذي يصنع محتوى صناديق الاقتراع، ويشكل الخارطة الانتخابية، في التقاليد الديموقراطية، وحضر عنصر الدين الذي لم يكن مفاجئا في أن يبوئ حزب العدالة والتنمية المكانة الانتخابية والسياسية الأولى. فكيف ذلك؟ المجتمع المغربي هو الأكثر تدينا في خارطة المجتمعات العربية والإسلامية، والشعب المغربي هو الأكثر نسبة في حفظ القرآن الكريم كاملا و عن ظهر قلب بين الشعوب الإسلامية، في قبائله الأمازيغية أكثر من قبائله المتعربة، وهو الأكثر حفاظا على صيام شهر رمضان بما يقارب ال 100٪. وفي صلوات الأعياد والجمع حدث عن الطوفان البشري ولا حرج. والنظام السياسي المغربي هو نظام إمارة المؤمنين، بالنسب النبوي العلوي الشريف، وبالملكية الدستورية، التي دين الدولة فيها هو الإسلام. والمغرب هو البلد العربي والإسلامي الوحيد في عالم اليوم الذي حافظ على رمزية الدولة الدينية، وعلى شكلية دولة الخلافة، ونظام أمير المومنين، الذي يجد امتداداته التاريخية في تقاليد الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية في الجانب الإسمي والرمزي، وفي التراث السياسي السلطاني. ومن ثم فالفاعل الإسلامي الأكبر في المجتمع المغربي هو النظام السياسي في البلاد، الذي يؤطر الشعب دينيا بإيديولوجية الدولة، وبالدعاية الدينية الرسمية في وسائل الإعلام، وبالمراسيم الدينية الاحتفالية اليومية في البلاد، وبالتوجيه الديني اليومي للمجالس العلمية في المساجد، إذ المملكة المغربية هي بلد المليون مسجد، ففي مطلع شمس كل يوم، يوضع في تراب المملكة الحجر الأساس لبناء مسجد جديد، والمغرب هو البلد الوحيد في العالم الذي يطوف فيه رئيس الدولة وهو ملك البلاد، على مساجد المملكة لحضور الصلاة جمعة فجمعة، ويتابع الشعب في كل جمعة مراسيم صلاة أمير المومنين. وحزب العدالة والتنمية هو المستفيد الأوحد من بين كل الأحزاب السياسية في البلاد، من ثراء هذه الحركية الدينية للنظام السياسي المغربي، بما يحصده منها من تعاطف شعبي، وبما يغنمه من خلالها من أصوات انتخابية، بشكل يظهر فيه جليا أن نهر نظام أمير المومنين لا يصب إلا في مصب حزب العدالة والتنمية، الحزب الذي ترابط فيه شبكاته التنظيمية بمساجد المملكة أكثر مما ترابط فيه بمقرات الحزب . وحزب العدالة والتنمية هو المظهر السياسي للحركة الإسلامية التي نشأت سنة 1966، عن يد للملك الراحل الحسن الثاني، وتحت سمعه وبصره، عندما كانت الشيوعية العالمية والاشتراكية العالمية، تخطط من موسكو لإزالة النظام الملكي الديني من المغرب، وكانت أربع دول عربية هي: الجزائروسورياوالعراق ومصر، تقدم الدعم المالي والسياسي والعسكري بالإيواء والتدريب لقوى المعارضة اليسارية، من أجل قلب نظام الحكم. وهي الحركة الإسلامية، التي تنَكَّب عن خطها الشيخ عبد السلام ياسين نحو بناء خط ثان، عند إيذان الملك الحسن الثاني لهذه الحركة ببناء جمعياتها ومنظماتها سنوات السبعينيات. وهو الحزب السياسي الإسلامي الذي تقدم بمشروعه الدكتور عبد الكريم الخطيب سنة 1967، بين يدي الملك الحسن الثاني، تحت اسم النهضة، غير أن الملك تحفظ عليه، لعدم تناسب الظرف الزمني السياسي، ولخطورته باعتباره أول مشروع سياسي إسلامي في العالم العربي، وتحوطا من مؤامرات الأعداء الخارجيين الذين سيستفزهم المشروع. وهو الحزب السياسي الإسلامي الذي قرر الملك الحسن الثاني انطلاقه سنة 1996، تحت إشراف الدكتور الخطيب، ورفع تحفظاته السالفة وممانعته لقيامه، لحلول الظرف الزمني المواتي، ولضرورة إحلال التوازن السياسي في البلاد، كما كان يراه الحسن الثاني وهو يعد لحكومة التناوب وإشراك اليسار في الحكم، تحت قيادة عبد الرحمان اليوسفي . ومن ثم، فكل الدينامية الدينية في البلاد يستفيد منها الحزب الإسلامي، انتخابيا وسياسيا. وما وقع في العالم العربي والإسلامي من أحداث خلال السنوات الأخيرة، وبعد الربيع العربي، من تآمر غربي مع الأنظمة العسكرية العربية، ضد الصعود الديموقراطي للتيار الإسلامي، كما وقع في مصر، وما تسبب فيه هذا التآمر من مذابح للإسلاميين بالتقتيل الجماعي في مجزرة اعتصام ساحة رابعة، وساحة النهضة، وما يقع من تقتيل بطيء عن طريق التعذيب في السجون لأتباع الرئيس المصري المنتخب ديموقراطيا: محمد مرسي، من جماعة الإخوان المسلمين، وما يقع في سوريا من تقتيل وحشي غير مسبوق تاريخيا، ومن طرف الأمم العظمى، روسيا وأمريكا وفرنسا وإيران، بالطائرات والصواريخ وأسلحة الدمار الشامل، إبادة للشعب السوري نساءه وشيوخه وأطفاله، لأن هذا الشعب رفض الديكتاتورية، واختار طريق الديموقراطية بقيادات إسلامية، واختار الثورة المسلحة في مواجهة المذابح بشعارات إسلامية، وما وقع ويقع في العراق من مذابح رهيبة للشعب العراقي بمؤامرة واضحة من الغرب. كل ذلك كان مؤثرا في النفسية الدينية للشعب المغربي، وخلق في الضمير الجمعي المغربي حالة من التعاطف العام المنتصر للقضايا الإسلامية، وللشعارات الإسلامية، وخلق حالة من الاستنفار للتجاوب مع كل استنجاد لدفع المظلومية عن الإسلاميين، وأفضى ذلك إلى الاصطفاف العفوي المتضامن مع مرثية حزب العدالة والتنمية بالمظلومية والاضطهاد والتآمر عليه حتى وهو عالق في سدة الحكم. وهكذا أصبحت كل التشكيلات الإسلامية وحواضنها الشعبية مزارع ومعاشب لتخصيب الأصوات الانتخابية لفائدة الحزب الإسلامي، تلقائيا وضدا على مواقف الرموز وإعلاناتهم، من التيار الصوفي بكل طرائقه، إلى التيار السلفي بأشكاله الناعمة منه والشائكة، إلى تيار العدل والإحسان إلى التيار السياسي الإسلامي من البديل الحضاري إلى الحركة من أجل الأمة، فكل دينامية لأي من هذه المكونات كانت في السابع من أكتوبر رصيدا يركم بعضه بعضا في الحساب الانتخابي للمصباح. أضف إلى ذلك الاستراتيجية التي اعتمدتها القوى اليسارية والحداثية في توجيه النقد إلى حزب العدالة والتنمية، فبدل أن ينصب النقد على الأداء السياسي الحكومي للحزب، راحت هذه القوى تسدد طعناتها للمشروع الإسلامي ولقطعيات الدين في شرائعه، وهو ما لم يتطرق إليه الحزب قط في عمله الحكومي، وهو ما استفز الشعور الديني للمغاربة المتدينين، ولدعاة الطرح الإسلامي، مما أمكن للحزب أن يستفيد من الاستياء العام الذي خلفته هذه الاستراتيجية الخاطئة في خوض معركة فارغة. كل ذلك وغيره أعطى للحزب الإسلامي موقعا انتخابيا متميزا، كان سيكون اكتساحيا بصورة أخطر، لو لم تعادله المواجهة السياسية لحزب الأصالة والمعاصرة. والخلاصة أن حزب العدالة والتنمية استفاد من فراغ الساحة من الموقف السياسي الذي توارى في خندق المقاطعة، كما استفاد من العصبية الدينية للشعب المغربي والتي استفزتها المعارك الفارغة ضد عقيدة الشعب، كما استفاد من الإنتاج الديني الرسمي للمملكة، في احتكار تام للموقف الديني لما يعانيه الحزب السياسي الإسلامي المنافس حزب النهضة والفضيلة من خصاص مهول في الإمكانيات المادية والتي هي الوقود الرئيسي في العمل السياسي.