مرت خمس سنوات على اعتلاء حزب العدالة والتنمية مقام الموقع الأول في خارطة الأحزاب السياسية المشاركة في اللعبة السياسية، في منافسة انتخابية غير مسبوقة في تاريخ المغرب، من حيث الإعراض الواسع والكثيف للقاعدة العريضة الشعبية، ومختلف فئاتها، عن التصويت الانتخابي، وملامسة صناديق الاقتراع. وبدا أن يوم اقتراع 25 نونبر 2011 كان يوما استثنائيا في العرف الديموقراطي، تغلبت فيه إرادة الأقلية على إرادة الأغلبية من الشعب، تلك التي توزعت بين السواد الأعظم الصامت الذي ينتقم لفقره وتهميشه وإقصائه بازدراء العملية الانتخابية، وبين الفئة اليقظة الواعية التي استهجنت العملية الانتخابية بإعلان موقف المقاطعة، ومارست إرادتها بتصريف موقفها ذلك، من خلال قنواتها السياسية والاجتماعية ممثلة في الوعاء الشعبي الاحتجاجي: حركة 20 فبراير، ثم الأحزاب التي ائتلفت ميدانيا على تأطير هذه الحركة الاحتجاجية، وهي أحزاب اليسار المقاطع وامتداداته النقابية، وجماعات وأحزاب الإسلام المعارض والمنابذ، حزب البديل الحضاري المحظور وحزب الحركة من أجل الأمة الممنوع، وغالبية أجنحة التيار السلفي، ثم الجماعة الكبرى للإسلاميين: جماعة العدل والإحسان. في هذه الملابسات المدلهمة ال0فاق، التي حولت المشاركة السياسية الانتخابية إلى جزيرة منحسرة وسط بحر مترام عاتي الأمواج من المقاطعة السياسية فالعزوف الانتقامي فاللامبالاة الساخرة، في هذه الظروف، ذر قرن الإسلاميين المشاركين، وحصد حزب العدالة والتنمية من الكراسي البرلمانية، المائة وغيرها، بما مكنه من حصد رئاسة الحكومة، ومكنه من أن يملأ الدنيا ويشغل الناس، بل ومكنت نخبته القيادية وأتباعها من الانتقال من الشعور بالاستضعاف إلى الشعور بالاستئساد. غير أنه استئساد أقرب منه إلى الصورة والتوهم منه إلى الحقيقة والواقع، بالنظر إلى المسرح السياسي المنحصر في تلك الجزيرة المنحسرة، التي انحشرت فيها اللعبة السياسية في أضيق الأبعاد والزوايا، وبالنظر إلى الأوضاع المتهالكة والمنهدة للأحزاب السياسية المنافسة، والتي حولتها رياح الربيع العربي المغربي، إلى قلاع نخرة، خاوية على عروشها، من 0ثار التنكيل الاحتجاجي بها من طرف الشوارع المغربية المنتفضة، والتي كانت تضع الأحزاب التي تعاقبت على المشاركة في الحكم منذ الاستقلال، تضعها في قلب دائرة القصف، وتحملها تبعات الأوضاع الفاسدة، المطلوبة للتغيير، بدءا بحزب الاستقلال فالحركة الشعبية فالتجمع الوطني للأحرار فالاتحاد الدستوري فالاتحاد الاشتراكي فالتقدم والاشتراكية. لقد كان هذا الجَلد الجماعي في فورة الربيع العربي المغربي، للأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد، وللأحزاب الضالعة بالمشاركة في صنع هذه الأوضاع، فرصة ذهبية لحزب العدالة والتنمية، للتحول إلى القوة السياسية الأولى، بتماسك شبكته التنظيمية، التي أفلتت من نهش أنياب القوى الجماهيرية المنتفضة، على اعتبار أن الحزب كان على هامش المسار السياسي الحاكم، متقلدا ما يشبه وظيفة محدودة للمعارضة؛ بينما وعلى العكس من ذلك، تفككت الشبكات المتحلقة حول زعامات الأحزاب الأخرى، بسبب السيل الجارف من اللعن الجماعي للأوضاع السياسية، والذي انتشر كحالة عامة مستشرية في تجاويف المجتمع، بسبب تلك الخرجات المتوالية والمضطردة لجماهير 20 فبراير والقوى السياسية الداعمة لها. ومن ثم فقد كانت نتائج استحقاقات 25 نونبر 2011، التي تخطفها حزب العدالة والتنمية، تجليا بارزا لهذا الإفلات من العقاب الجماعي الذي قلب المعادلة السياسية في البلاد، بانقلاب موازين القوى بين الأحزاب التقليدية، والحزب الإسلامي الناهض. وعلى الرغم من محدودية المشاركة الشعبية في صنع نتائج اقتراع 25 نونبر، ومن ثم تخلف الإرادة الشعبية العامة عن إنجاب ما تم إنجابه من رحم صناديق الاقتراع، فإنه ولأول مرة في تاريخ المغرب، يفسح المجال لتيار الإسلام السياسي ممثلا في حزب العدالة والتنمية كي يصبح رقما وازنا وظاهرا في المعادلة السياسية المكشوفة، على اعتبار أن إيلاءه الدور الثانوي والهامشي في المعادلة السياسية الظاهرة، في سالف السياقات السياسية، لم يعد ملائما للظروف التي التهبت فيها احتجاجات الربيع العربي المغربي، ولم يعد مناسبا للأوضاع التي تهدمت فيها بنيات الأحزاب السياسية التقليدية، وتضببت فيها 0فاق المصير السياسي للبلاد من حيث واقع السلم الاجتماعي، وضمانات الاستقرار. وأصبح من المحتم أن تلجأ استراتيجية قيادة البلاد إلى تفعيل الدور المجمد والمكبوح للإسلام السياسي المندمج، كي يكون جزءا من تدبير الأزمة المحتدمة، وكي يكون خروجه الطلائعي وسيلة تطويق لمخاطر الاحتقان الاجتماعي المندلع في شوارع المدن المغربية، المخاطر التي لا يقدر أحد على ضبط مفاجآتها واستشراف مآلاتها، وفي هذه الظروف كان حزب العدالة والتنمية بالنسبة للنسق السياسي، ولاستراتيجية إنقاذ البلاد، بمثابة المخزون السياسي الاحتياطي، وفي قيمة الدرهم الأبيض المذخور لليوم الأسود المسعور. وكي يضطلع حزب العدالة والتنمية بدوره استحقاقا وظهورا يوم 25 نونبر 2011، كانت هناك أشواط متلاحقة، قطعتها سياسات مدبرة، أفضت بحكمة وتحكم إلى تسييد الحزب الإسلامي في المظاهرة السياسية الانتخابية، كان أولها إزاحة القوى السياسية المساندة والحاضنة للحراك الاحتجاجي لجماهير 20 فبراير، إزاحتها من ساحة الفعل السياسي الانتخابي، ومن ثم صرفها عن التأثير الخطير على صنع مستقبل الخارطة السياسية للبلاد. فلقد كان تاريخ 20 فبراير 2011، والذي انطلق فيه الحراك العربي المغربي، تاريخ انطلاق أكبر حملة سياسية في ما بعد استقلال المغرب، تشكل من خلال مظاهراتها المنتظمة والمتلاحقة والممتدة بإصرار وتواصل عبر ربوع الوطن، أكبر جسم سياسي متنوع في تعبيراته الإيديولوجية والسياسية، متضخم بقواعده الاجتماعية المنهمرة سيولها باضطراد من الطبقات الدنيا والطبقة المتوسطة ومن نخب المجتمع. وفي صلب هذه الحملة السياسية المتواصلة، تعزز الجسم الاجتماعي السياسي الكبير بالمظلة السياسية التي أسدلتها عليه تلك الأحزاب و الجماعات الحاضنة وال0وية والداعمة، والموجهة بشكل غير مباشر، التي كانت تصدر عن المشربين اليساري والإسلامي؛ والتي تفاعلت مع الحراك، وأنتجت ميدانيا، في ما يشبه تحالفا سياسيا موضوعيا غير معلن وغير مجسد بالتنسيق القيادي. وهي يساريا: اليسار الاشتراكي الموحد، الطليعة الديموقراطي الاشتراكي، والنهج الديموقراطي، وإسلاميا: جماعة العدل والإحسان، البديل الحضاري، الحركة من أجل الأمة ثم السلفيون الراديكاليون وعائلات معتقليهم. لقد كان هذا الجسم السياسي الحاضن للحراك الفبرايري، أكبر حزب سياسي في البلاد، يخوض حملته السياسية، بمراس شديد وبإقدام وشراسة، في شوارع البلاد، وعلى مستوى الوسائل الإعلامية، ووسائط التواصل الاجتماعية، وعلى مستوى النقاش العام والخاص، في البيوت والمجالس والمجامع، وكانت قاعدة هذا الحزب أكبر القواعد الانتخابية، الخارجة في ما يشبه الحملة الانتخابية، قرابة سنة قبل 25 نونبر، عارضة برنامجها السياسي والنضالي في محورين: التغيير، وإسقاط الفساد والاستبداد، وجائلة وصائلة بشعاراتها في الساحة السياسية، بحماس جياش وإيمان فوار. فهل كان حزب العدالة والتنمية أو غيره قادرا على الظهور أمام هذا الحزب الكبير يوم 25 نونبر لو قرر القادة السياسيون للمكونات الحاضنة لهذا الحراك الجماهيري، جر هذا الحراك وإقحامه في المعركة الانتخابية، ومن ثم الاقتحام به قبة البرلمان المغربي؟ كان امتحانا خطيرا يقرر في مصير التحول السياسي في البلاد، امتحان الفصل في موقف المشاركة من المقاطعة لهذه القوى المؤتلفة في خضم الربيع العربي المغربي. وما كان بروز الحزب الإسلامي أن يكون شيئا مذكورا لافتا، لولا أن موقف المقاطعة الانتخابية اندس إلى مفاصل وتلافيف وتجاويف هذا الجسم السياسي الكبير الذي نما وترعرع في زخم الحراك الفبرايري، اندساس مريب، تخلف في ظروفه الغامضة بعد النظر، وسقطت في أفخاخه الحنكة السياسية، وأخلف اللاهثون وراء موقف المقاطعة موعدهم مع التاريخ، وهكذا وبموقف مقاطعة الانتخابات التشريعية أزيح من الساحة السياسية الانتخابية رقم صعب، كان في إبعاده إحلال الفراغ الكبير أمام الحزب الإسلامي الذي أضحى يسرح ويمرح وحيدا دون منافسة مزعجة. وكان الشوط الثاني الذي أكسب حزب العدالة والتنمية الاستئساد السياسي في الساحة الحزبية، هو تضافر الشروط الظرفية المتوترة والحساسة التي ألمت بالعالم العربي، بالشكل الذي جعل الانتفاضة العربية الكبرى غير مأمونة العواقب، مما ألح على الاستراتيجية العليا لإنقاذ البلاد، ترجيح البديل السياسي الإسلامي، على البدائل السياسية الأخرى التي كانت مفتوحة لتطويق نذر الانهيار المحدقة بالأوضاع الاجتماعية والسياسية، سيما وأن الحرب الاحتجاجية التي اندلعت في الشوارع العربية لم تكن لتضع بعد أوزارها، ولم يعد أحد في هذه الأرض، من أكبر قوى العالم ومراصدها، بقادر على رصد مفاجئاتها. كان الخيار الأول، في مواجهة الأوضاع المتفاقمة، ومواكبة مسلسل تفعيل العرض الملكي الذي أعلنه خطاب 9 مارس 2011، هو تأسيس جبهة سياسية جديدة، تضطلع بمهمة تجديد الحياة السياسية، وتمضي قدما بتحالفها الحزبي نحو تحويل العرض الملكي إلى عقد اجتماعي سياسي جديد، ينهي حالة الاحتقان، ويفضي إلى إسدال الستار على 0خر فصول الربيع العربي المغربي . وهكذا تأسس التحالف من أجل الديموقراطية، أو ما سمي بأحزاب جي 8، والتي روعي في إحداثها أن تكون لفيفا متنوع التوجهات الإيديولوجية، من ليبرالية: التجمع الوطني للأحرار، الحركة الشعبية، الاتحاد الدستوري؛ إلى اشتراكية: اليسار الأخضر، الحزب العمالي، الحزب الاشتراكي؛ إلى إسلامية: حزب النهضة والفضيلة، ثم حزب الأصالة والمعاصرة والذي كان يمثل قلب المشروع السياسي المرتقب، وكان هو أيضا تجمعا اندماجيا لبعض نشطاء الاتجاهات اليسارية مع بعض وجهاء الليبرالية فرجالات الدولة. وبالرغم من التنويع الإيديولوجي لهذا المشروع البديل، وبالرغم من تطعيم أحزابه الحكومية بأحزاب معارضة أو أحزاب فتية وحصينة العذرية، فإن الشارع المغربي المنتفض واجه العرض السياسي لهذا المشروع بالرفض، وروج اتهامه كونه مخططا للالتفاف على مطالبه، و مناورة لإجهاض حراكه. غير أن الحدث التاريخي الذي زلزل التصورات الدولية بخصوص المصير العربي وانتفاضاته الشعبية، كان هو مقتل الزعيم الليبي معمر القذافي من طرف الثوار الموتورين بتاريخ 20 أكتوبر 2011، وكان التحول في الاستراتيجية الدولية تجاه الواقع العربي، بعد هذه التطورات الدراماتيكية الجديدة، إيذانا للأنظمة العربية باللجوء إلى البدائل السياسية التي تمكن الموقف الرسمي للأنظمة السياسية العربية من صوغ المبادرات الأكثر انفتاحا وتفاعلا مع الشارع الساخط. وترتيبا على ذلك، فقد تغيرت استراتيجية الإنقاذ، وتفكك التحالف الثماني بغير إشعار للرأي العام، وبموجب هذا المنعطف، تحول حزب العدالة والتنمية إلى ما يشبه حركة 20 فبراير جديدة وموازية، وفاضت الخطابات السياسية لقادة الحزب ودعاته ومنظريه بكل ما يرشح به الشارع من شعارات وانتقادات واتهامات، إلى الدرجة التي زايد فيها قادة الحزب على الشارع وعلى حركة 20 فبراير، بالتسخط من بعض الشخصيات العليا والتهكم والتهجم على البدائل السياسية الأخرى كالتحالف الثماني واعتباره مشروعا ضرارا عدائيا، بالرغم من أنهما عديلان يصدران عن مشكاة واحدة، وتحول الحزب إلى قوة حادة المعارضة، ترافع بشراسة عن مظلوميتها واستهدافها والت0مر عليها، وكان لذلك وقع المفعول النافذ على قواعد الحزب في التحول إلى كتائب متماسكة، وعلى المجال الانتخابي له بالتجاوب والولاء وعقد ال0مال الكبيرة على مشروع الحزب الصادح بمحاربة الفساد. وفي يوم 25 نونبر كان الفوز الإسلامي هدية ضافية مرفوفة على طبق من ذهب، واجتاحت كلمة المصباح: الرمز الانتخابي للحزب، صفوف الحجيج الانتخابي، وتقاذفتها الأفواه مثل كلمة سر سحرية، كانت تنقاد لها الأفواج بوعي أو بغير وعي، وفي أبعد النقط الانتخابية والتي لم تطأها قط أقدام دعاة الحزب. كانت الشروط التي أتاحتها الاستراتيجية الإنقاذية في أدق وأعلى درجات جاهزيتها، لكي يشق الحزب الإسلامي طريقه نحو تبوأ الموقع الطلائعي، وليكون البديل الجديد وسيلة لصدم واقع الجمود السياسي، وتبديد غيوم الانحباس التي تراكمت مع حرارة تمرد الشارع المغربي. هذا دون أن نلغي الشروط الذاتية لحزب العدالة والتنمية، من حيث الأداء الجيد الفعال لمؤسساته التنظيمية، ومن حيث حسن تدبيره لثنائية الدعوي والسياسي، ومن حيث إنجاح تفاعله مع المرجعية الدينية للنظام السياسي الدستوري للبلاد، واستدراره التعاطف المذخور في عمق الطبيعة المحافظة والتقليدية للشعب المغربي.