تكبر الأيام في أعيننا وتتراكم السِنُون فوق بعضها مغيرة بذلك أرقاما تشي بعمرنا. يمر الزمن من أمامنا بخطى مسرعة وتتقدم معه في العمر أجسادنا، لِنعِيَ فجأة بأننا قد كبرنا.. اليوم اكتشفت أنني كبرت وقد حدث ذلك في غفلة مني. كبرت وصارت قصيدة نزار(كبرت يا أمي) تشبهني أكثر، كبرت وما عدت أشبه نفسي. عذرا ألم أعرفكم بنفسي؟ أنا رجل ثلاثيني نال الزمن من ملامحه لتدل هيئته على أنه أكبر من ذلك بكثير. بِطُول فارعٍ وجسم نحيل وضعته على كرسي إحدى المقاهي، التي تعودت الانزواء فيها، ها أنذا أرقبكم من خلف شاشة حاسوبي وأنتم تلتهمون كلماتي. بصحبتي فنجان قهوة تمددت بجانبه جثة سيجارة استهلكتها لتوي وأخرى تبدو لك متكئة على المطفأة وقد توهج رأسها في حُمرة شديدة استعدادا لتزويد دماغي بجرعة نيكوتين أخرى . الساعة تشير إلى التَّعَبِ إلاَّ هُنَيْهَة والبحر يعاكس الرمال كلما مرت أمواجه تمسح وجه الشاطئ والشمسُ تَأْفُل. فجأة يصيب العالم صمت رهيب والكل من حولي يحرك شفاهه دون أية أصوات . الحركة تبدو بطيئة والضحكات تراها تتمايل ثملة. أصارت الحياة سكيرة أم أن الصور التي أمامي قد أصابها الدوار؟ صراخ! صُراخ صامت بداخلي وأصوات الذاكرة تتضارب على مسمعٍ مني، ضحكات كثيرة تعزف على أوتار الحنين ألحانها الغجرية بلا رحمة. وفجأةً تهب عاصفة من اللاّشيء فتقتلع معها كل شيء … تقتلعني من واقعي لتسافر بي إلى أيام الصبا. أخرج طائرتي الورقية وأطلق لها العنان ملبيا نداء الشوق.. أخرج ذلك الطفل من داخلي وأترك أصابعنا تشابك خيوط الطائرة. نلعب سوية على الشاطئ ونغني : انطرد أيها الواقع من مساحتي فَمِن بُرودِك اليوم جئت أثأر! ارقصي أيتها الدنيا وافتني العالم بحسنك .. لقد جئت أنشر الفرح في كل مكان .. بين فجاج همومك ووسط أنهار الدموع المتدفقة من وجه طفل مغلوب على أمره … غردي أيتها العصافير واعبقي أيتها الورود بنسيم العشق فقلبي قرر أن يضخ الابتسامة في جسم أنحفه الحزن. اليوم قررت أن أكافئ نفسي بلحظة فرح اختلستها سرا من قسوة الأيام ..ابتسامة سرقتها شفتاي ليس برغبتي إنما هي أيامي أصبحت تتضرع جوعا للمسرات .. ارقصي أيتها الحياة فقد قررت أن أعود طفلا! قررت العودة لأيام ما كانت الأحلام فيها تُذْبَح .. يحدث أن تُغادر نفسك وتتأملها مِن بعيد. ويحدث كذلك أن تراها ضائعة متشردة ولست بقادر على إرشادها. تحدثها، تصرخ بوجهها وتُعَنِّفُها، لكنها لا تسمعك. فهي صارت ثملة كالصور التي مرت من أمامك قبل قليل... إلا أنك لا تستسلم، تهمس في قلبها كلمات ليست كالكلمات، تتلو عليها تعويذة الشوق واللهفة: "تعالي يا صغيرتي تعالي أيتها الضائعة! أعطني يدك واتَّبِعي خطواتي! سنعيد ذلك الطفل الذي غادرنا منذ زمن..." ومن ثم تجد نفسك على دروب الذكريات تسترجع أياما كان فيها همك الوحيد هو عدم تفويت حلقة من مسلسل الرسوم المتحركة المفضل لديك ، أياما كان فيها شغلك الشاغل هو انتظار وقت الاستراحة التي تتخلل الحصص الدراسية لكي تلهو وأصحابك في ساحة المدرسة . تنتظر بلهفة حلول الأعياد لكي تتلقى عيديتك من أعمامك وأخوالك ... وغير ذلك من الأحلام الصغيرة و البريئة. تجتاحك موجة من النوستالجيا كلما رأت عيناك طفلا يلهو أمامك غير آبه بزيف الواقع ولا بهمومه. وتتمنى لو أنه يعود بإمكانك الصراخ بعفوية وركوب الأرجوحة مثلما كنت تفعل فيما مضى. تقول لنفسك :" يا لَحَظِّه ! لم تتعبه الحياة بمتطلباتها ولم تنهكه الأيام وهو يحاول عيشها" .تبتسم في وجهه وتعود إلى عالمك لتجد الحياة تنتظرك بمقتضياتها ومسؤولياتها. أطمئنك! ليس بانفصام في الشخصية ما وصفته فيما سلف من كلامي وإنما هو رفضنا المستمر لقبول التغيير الذي يصيبنا كلما استهلكنا أيام حياتنا. ذلك الحنين الدائم لحالة من الاستقرار عشناها و نحن أطفال. اشتياقنا لعالم مليء بالبراءة والصدق وعدم قبولنا بواقع غريب أكثر منه جديدا، فتجدنا نلجأ غالبا إلى استحضار ماضينا عوض التأقلم مع واقِعِنا ظنًّا مِنا أنه أقرب طريق لاستحضار الطمأنينة... بداخل كل واحد منا طفل يتمرد في لحظات الحنين ولكل منا طائرته الورقية، يخرجها كلما ناداه ذلك الطفل. فلا تخجل يوما إن نادتك أيام الصبا؛ بل لب الدعوة مهرولا نحوها، لأنها وحدها قادرة على تزويد فؤادك بطاقة إيجابية وإعطائك نفسا جديدا لمواجهة مصاعب الحياة و تقلباتها المستمرة.